في حضرة الشيخ “غوغل”


منصف المزغني *

1-  إذا وُجِدَ شيخٌ حقيقيٌّ في هذه الحياة جديرٌ بالاحترام هذه الأيّام ،
وخليقٌ بالإكبار والتوقير ،
ويأتيك بالحقيقة والتنوير، 
والكذب والتزوير، 
و ينفض أمامك ما لديْهِ في يديْه بلا مقدمات و خلفيات ولا تحتيّات و فوقيات،
ويأتيك بالأخبار من مختلف الأمصار آناء الليل وأطراف النهار، فهو :
قطبُ السرور والشرور معًا ،
ويكون في حضرته كما تكون في حضرته قبل أن يرتد اليك طرفك ، فلا يكون هذا الشيخ سوى محرك البحث المشهور :
غوغل او جوجل او قوقل ،واذا شغّلْتَهُ فإنك تكون قد غْوغلْتَ ،
وتحسب أنّ من قال البيت التالي:
” وتحسبُ أنّك جُرْمٌ صغيرٌ /
وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ” 
كان يعني غوغل وإخوانه بالمديح 

2- ألطفُ ما في الشيخ غوغل أنّه بلا وجه ولا قَفَا ،
فلا هو يخجلُ منك ، ولا أنتَ تحمرّٰ وجنتاك من سؤال في البال ،
فلا حياء في غوغل واخوانه الأعداء ، مثل (ياهو ) أو (يويتيوب) او غيرهما من شيوخ تحريك سواكن البحث وفقهاء التفتيش .
والشيخ بلا قناع ، ومعه تغدو الكلفةُ مرفوعةً
و هو بلا عينين ،فلا يَرَى ، ولا يُرى ،
ورغم أنّه بلا أذنيْن ، فإنّه يعرف السمع والطاعة ، ولا يسمع كلامَ هذا ويترك كلامَ ذاك،
ولا ميزان له فهو يوقّر الجميع من عالمٍ وجاهلٍ وعالٍ وسافلٍ ، ويُسمعكَ ما تحبّ ، كما يسمعك ما تكره حسب الطلب ،
وهو بلا قلب ، ولا ضمير ، او عاطفة، ولا أيديولوجية، أوْ ملّة، أوْ دين ، او عقيدة ، او حزب او نادٍ رياضي :
فلا هو سنيّ، ولا شيعيّ ، ولا شيوعيّ ، ولا قاعديّ، ولا اخوانيّ، ولا داعشيَّ ، ولا بوذيّ ، ولا فاشيّ ، ولا كافر ، ولا لائكي، ولا ملائكي ، ولا هو أهلاويّ ، ولا افريقي ولا مدريدي، ولا فلسطيني ، ولا صهيونيّ
ولا هو ذكر، أوْ أنثى، ولا خنثى ،
ولا هو ذكيّ ، ولا غبيّ ، 
ولا هو لابسٌ ، ولا عارٍ ، فلايحتاج الى جبّةٍ ، أو كسوةٍ ، او قلنسوةٍ ، أو عمامةٍ زيتونيةٍ أوْ أزهريةٍ ، أو طربوشٍ عثمانيّ ، أو عصا منبرية ، أو ربطة عنق ، أو فراشة قميص ، أو سروال جين متساقط، أو تنورة بنت قصيرة .أو سترينغ
،والشيخُ لا ذقنَ له ، فهو لا يحمل لحية مخضّبة أو عُثْنونًا أوْ شواربَ مُحْفاةً أو مرسلةً ،
كما انه لا يظهر في الفضائيات في زيٍّ يوحي بالخير والتقوى، أو بالشرّ والبلوى، أو بالحداثة ، أوَ بالقدامة ،
وهكذا فإنّه لا يشيب فلا يموت (منذ ان وُلِد شيخًا في كاليفورنيا سنة 1998 ) ،
ولا يسمع منه النَّاسُ كلمةَ عيب ،
و لعله ،الشيخُ الوحيد الذي لا تُقال له عبارةُ التعجب المعروفة عند أهلنا في مصر المحروسة : لا يا شيخ ! 

3- غوغل شيخٌ ، ولكن ،
لا يكلّف نفسه بإصدار الفتاوى ،ولا يتأفّف من سؤال
،بل يرحّب ، وما ان تسأله في أمرٍ خيراً كان ام شرًّا حتى
تتدفّق منه المعارف شلالات يسوقها مثل العارض الهَطِل ، ويرسلها مثل سطر من النمل يدبّ نشيطًا في نشوة فريق النمل الذي تنادتْ عناصره لجرّ كتلة ضخمة ، او مثل كتيبة من الشرطة فازتْ بعصابة ،وقد ألقتْ القبض على أفرادها وحاصرت المتهمين . 
إنّ غوغل هو الشرطة التي ألقت القبض على المعلومة المطلوبة بما يُحسن الباحث من لغات، وما عليه إلّا أن يمرّرَ عيْن َ العقل والتحقيق على كل هذه العناصر التي مسكها الشرطي غوغل الذي لا يتثبتُ في شيء ، لأنّ وظيفته تنتهي عند مطاردة المجرم والقبض عليه وسجنه ، وتسليمه أمام الباحث المحقق من اجل أن يتثبّت في المادة/ المتهمة التي اعتقلها محرك البحث دون تثبّتٍ كامل او تقصٍّ صحيح . 

4- إنّ الباحث المريد المرابط في رحاب غوغل هو الذي يفرز المعلومة المقدمة إليه ضمن ألوف من المعطيات الموضوعة في عشرات الألوف من الصفحات احيانا ، وبكل لغات العالم الحيّ ، وبعد ان يتمّ حشْد عديد العناصر (مقالات و صور ومعلومات وخرائط وأفلام ) فإنّ الباحث الحصيف يستنطق المعلومة واحدة بعد اخرى ، ويشمّ الوثيقة ،ويفلّي تفاصيلها ويشرّح أصواتها وصورها ويطلق سراح الكثير منها ، ولا يزجّ بها في سجنه ( سجلّه ) إلاّ بعد ان يتأكّد من عدم صلاحيتها للبحث المطلوب ، وهكذا تمرّ المعلومات المطلوبة على غربال هو العين الفارزة و المجهر الكاشف .

5- في المعارف المقدمة من غوغل منسوبٌ من الصدق ، وهذا ليس عائدا الى أنّ معلّميه أحسنوا تربيته، فلقّنوه مكارمَ الأخلاق ،
فالشيخ لا يفرز معلوماته وصوره وأفلامه بواسطة العنْعَنةِ التي تستوجب سلسلةً من الرجال الثقات ، فهو لا يسمع مثل العرب والمسلمين القدامى الذين لا يعنْعِنون الا بعد التثبت والتأكد من مصداقية الرجال ، ويفترض ان يكونوا من الذين يتوفرون على النزاهة والخلق الحسن والثقة عند النقل دون زيادة او تصرّف أو تحريف . 
إنّ شيخنا لا يعتني بمثل هذه المسائل، وهو لا يتثبت في ما لديه من المعطيات ، ولا في الصور، ولا في المقاطع الفيلمية من عنده او من جهة شيخ اخر لا يقل بهجةً عنه هو (اليوتيوب ) فهو يأتي بالمعلومة ونقيضها ، وَ بالكتب المقدسة، وغيرها في كافة مجالات العلوم والفنون والآداب ، لأنّ تلك هي عادته في الوفاء. 
نعم ، لقد اعتاد غوغل ان يكون خادمًا مطيعًا يشبه البهلول ،
يقدم السمَّ في الدسِمِ ، وهو يبتسم ، ويغري المستخدمَ بأطباق من المعارف ليعرِفَ أو ليعلفَ ، وما على المستخدم الا التحرك حتى يهضم، او يبشم ، فغوغل سيل من المعلومات متفوق حتى على أطباق الأكل المسرِفة في التلفزيون العربي الجائع أبدا في شهر الصيام .

6- أنتَ تسال ، وغوغل يجيب، ويترجم وفق نظرية ( كيفما اتفق) ، بما لديه من خليط ، والباقي عليك 
، فلا رسالة له يوصيك بتصديقها ، ولا نصيحة له يدعوك لتطبيقها ،
انه ليس سلطة ، او رسولَ سلام ، ولا نذيرَ حرب ، أو سفيرَ نوايا حسنة ،او جاسوسًا قادرًا على إصابة كلمة السرّ المناسبة عندما توكل اليه مهمة الترجمة .

7- غوغل خادم لك ، لا يواجهك ولا يحدثك مثلاً عن الويل والثبور ولا عن البرزخ وعذاب القبور، ولا يؤزّم ضميرك ،
فهو الفوضى العارمة العصية على الفرز ،
لا تأخذْ منه فقط ، أعْطِه مما أخذتَ منه ،
ولا تنقل أشياءهُ بحذافيرها ، حتى لا تجعله يردّد في سرّه :
” هذه بضاعتنا ردّت إلينا” .
لا مناصَ من نظرتك الخاصة ،
ولا تجعل الشيخ يلعن أمّةً لا شغلَ لها غير الطحن وَ الاجترار والنقل والنسخ والسلخ ،دون إعمال العقل .
إذا اقتربتَ من محيط الشيخ فاسبحْ في بحره ،
وإذا مررتَ بحدائقه ،فقطِّرْ من زهره ، 
مستخدما فكرَك ، أو مكْرَكَ أو إيمانَك ، أو كفرَك .
ولا تطلب المعلومة من لغة واحدة ، اذهب الى اللغات الحية، وقارن بين ما يعطيك غوغل العربي وقارنْ عطاءه وعطاء نٰظرائه الأجانب ،
وسوف تندَمُ ، اذا كنت في عصر الشيخ غوغل ،
وأنت لا تعرف من اللغات / النساء ، غير أُمّك الفصحى . 


8- إذا كان هناك شيخ حقيقي يحترم عقلك ، في شاشات هذه الأيّام ،
وفي شهر الصيام ،
فهو “غوغل ” مع الاحترام ،
والسلام . 


*شاعر من تونس
( دبي الثقافية )

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *