في الشِّعر الحداثي ونقده

(ثقافات)

 

في الشِّعر الحداثي ونقده

د. يوسف كوفحي

 

أسهمت اللّغة بوصفها شرّا قابعا في أذهاننا بوصفها قوالب لا متناهية من التراكيب والعبارات والصّور والإيحاءات، في إنتاج مقولات لغويّة لا علاقة لها بالمتلقي، المتلقي الذي يستقبل اللّغة بوصفها كائنا ثقافيّا؛ أيْ بوصفها نتاج ثقافته الّتي يستطيع من خلالها فَهْم اللّغة من مرسله. وهذه الثّقافة محكومة بِنَسقٍ معرفيّ له مرجعيّته عند المتلقي؛ ليكونَ فاعلا ومتأثرا وفاهما ومُتعاونا في فَهْم ما يُستقبَل من كلامٍ أو خطاب.

وفي ظلّ غياب تلك المرجعيّة فإنّ دور المتلقي لا يختلف عن أيّ دور لا إنسانيّ، يتلقى رموزا غامضة مبهمةً لا تحمل أيّ دلالة يمكن الرّكون إليها والاتكاء عليها أثناء عملية التّحليل والتّفكير والتّدبر والتّأمل والتّأثر والتّأثير، أو الصّحِ والخَطأ، أو النّقدِ والنّقضِ، أو المدحِ والذّم، أو الحبِّ والكراهية، أو أيّ نشاط إنسانيٍّ سواء أكان على المستوى المعرفيّ أم الأخلاقيّ أم التّخييليّ .

وفي خضمّ ذلك، ظهرت علينا بدعة (كتابيّة) وصِفَت زورا وبهتانا بالإبداع والشِّعر، وهو ما يُعرف بشعر التّفعيلة أو الشِّعر الحرّ، وما يُعرف بقصيدة النّثر، ولا يعنيني في هذا المقام الجانب الشّكلي المتمثل بالوزن والقافية أو غيابهما، ولا يعنيني بعض المبدعين الذين وظَّفوا هذا النّوع من الشِّعر توظيفا أدبيّا بالمعنى الحقيقي للأدب. وإنما ما يعنيني هو الشّكل البنائي لهذا النّمط من الشّعر، الذي جعل من لغة الشِّعر، عند أغلب مؤلِّفيه، كخوار عجل السامري، عانيا، اللّغة الذّهنية وقوالبها الجاهزة التي تعمل بنظام التّباديل والتّوافيق الصّوريّة والتّركيبيّة، دون النّظر في المعاني والدّلالات ذات السّياق الثّقافيّ أو العلميّ لها. فلقد وظِّفَ هذا النّوع من العمل بطريقة لا تعتمد في أصلها على الإبداع ألبتّة.

وبما أنّ هذا العمل يقوم على ذلك، فهذا يعني أنّه مجرد بناء من الكلمات والجُمَل والصّور الذّهنيّة، التي لا علاقة لها بأيّ معيار من معايير الإبداع، الّذي يكون منشؤه الفِكْر أو العاطفة، وفي ظلّ غياب ذينك المِعيارين الأساسين للعمل الإبداعيّ، فإنّ عملية رَصْف الكلمات والجُمَل والصّور باعتبارها فنّا أو إبداعا هو عمل مُتاح لكلّ متكلمي اللّغة الذين يملكون امتلاكا فطريّا قوالب لا متناهية من الجُمَل والصّور والعبارات الشّكليّة الخالية من أيّ فكرةٍ أو عاطفة.

وفي هذا السّياق فإنّ الحديث عن هذا النّوع من الأعمال هو حديث فارغ كفراغ المُتحدَّث عنه، إذ إنّ نقد هذه الأعمال يعمل من المنطلق نفسه الّذي انطلق منه هذا العمل، وهو استعمال اللّغة الذّهنية للتّعبير عن شيء لا يُفْهم ولا يُتَصوّر ولا يَحْمل أيَّ مرجعيّة علميّة أو فكريّة يمكن الرّكون إليها لأيّ عمليّة نقديّة أو تقييميّة، أي لا يوجد معيار للصّواب والخطأ، ولا يوجد معيار للقبيح والجميل، ولا يوجد معيار للرديء والحَسَن في تلك الأعمال.

وبناء على ذلك، يستطيع الناقد أنْ يقرأ القصيدة باللّغة الّتي تعجبه بلا أيّ ضابط. فلا غرو، أنْ يفسر لفظ الجلالة (الله) برجل الدين، أو بالشّيخ، أو الرّاهب، أو بالعابد، أو بالخلق، أو الجنة، أو بالنار، أو أنْ يفسِّر كلمة (الشّيطان) بالنّار أو بالشّر أو بالخير أو بالحريّة أو بالمعارضة أو برجل أو امرأة، أو أنْ يفسِّر الشّجرة بمعنى امرأة أو طفل أو تفاحة أو طاولة أو أي شيء يراه مناسبا لتراكيبه الذّهنية الفارغة من أي مدلول أو إشارة، متجاوزين بذلك علم اللّغة وعلم الدّلالة وعلم المُعجمية والتّداوليّة وتحليل الخطاب، ومن المؤسف له، أنّه مما يصنعه أغلب النّقاد الأكاديميين عند قراءتهم لشعراء الحداثة قراءة نقديّة، وهذا فَتَحَ المجال على مصراعيه أمام شُذّاذ الآفاق ممن يمتهنون هذه المهنة من الكتابة؛ فقد أساؤوا لكلّ مقدّس وطاهر وفضيلةٍ باسم الفنّ للفن، والسّريالية، والتّأويل، والتّفكيك والأسطورة، والرمز، فنشروا الإلحاد والشّذوذ والإباحية، وأساؤوا بكلامهم للذات الإلهيّة وللملائكة والرّسل والأنبياء، مبررين ذلك بفضاء اللغة، بل هو “شرّ اللّغة”؛ لأنّه يُبيح عددا لا متناهيًا من التّفسيرات والقِراءات والمَعاني المتخيّلة اللامفهومة واللاهادفة.

ولا يخفى، في نظري، أنَّ هذا المشروع الحداثيّ للشّعر والإبداع هو مشروع تفكيكيّ، للقيم والأخلاق والفِكر والعاطفة، هو هدم واضحٌ لكلّ معايير الحقّ والباطل، والخير والشّر؛ إذْ إنّ فكرة التّحرر هي فكرة لامتناهية؛ إذْ لا تتوقف عند حدّ ما، فبدأت بالتّحرر من الوزن والقافية، ثم التّحرّر من الفكر والعاطفة، وهذا سيقود، حتما، إلى الدّعوة إلى التّحرر من فكرة الإبداع والتّجديد، والتّحرر من معياريّة العِلْم، وضوابط الفلسفة، وقواعد اللغة، وقوانين المجتمع والأعراف، فهي سلسلة ممتدة للهدم والتّخريب والإفساد، دعوة صريحة لتفكيك كلّ مركب دينيّ أو أخلاقيّ أو فكريّ أو علميّ أو اجتماعيّ أو إبداعيّ.

وأرى أن أغلبَ المذاهب والمناهج الحديثة أدبيةً كانت أم نقديّة، لا تختلف عندي، من حيث التّطبيق عن الحركة الدادئيّة، الحركة التي أُسِّسَت على التّمرد، ومعاداة كلّ ما كان سائدًا من أعراف وتقاليد ومبادئ، وأخذت تنادي بعدم المبالاة، والجنون، والشّذوذ، والهوس، سواء أكان ذلك في الأدب أم في المسرح أم في أي عمل إبداعي، ويدعو الدادئيون إلى مهاجمة القِيَم، وتقبيح الجَمال، وإفساد الذوق، والسخرية من الفن والإبداع، والإساءة للذين يحترمون الإبداع والمبدعين، فهم أصحاب فكر عدمي يقوم على  الصّدفة والعفويّة واللاهدف واللاغاية والوَهم والفوضى.

والحقُّ، إنّنا نعيش حالة من الضّياع والتّيه بتعبير عبد العزيز حمودة، فقد تركنا تراثنا الأدبيّ والنّقديّ باسم الحداثة والتّجديد، تركناه بقطيعة معرفيّة، ليست أجْلَ المعرفة إنما أجْلّ الفَوضى والخَراب، فلقد انطلق تراثُنا في تلكم المسائل انطلاقة علميّة صِرفه، لم يكن الأدبُ ونقده عندهم مجرّد لهوٍ وتسلية، فكان مؤسَّسا على قواعدَ وقوانين ومصطلحاتٍ علميّة؛ أيْ أُسِّسَ بوصفه عِلْما حقيقيًّا ذي معايير دقيقة، كعمود الشِّعر، والفحولة الشّعريّة، ومفهوم الشِّعر والشّاعر، فضلا عن آرائهم العلميّة المُبرهنة بالحُجَّة والدّليل، في قضايا الأدب والنّقد، كاللّفظ والمَعنى، والسّرقات الشّعريّة، والصدق والكذب، وغير ذلك من قضايا أصبحت في راهننا النقديّ والأدبيّ بلا معنى أو أهميّة، فكانَ تجديدنا عبارة عن تجهيلنا وتدميرنا أدبيّا ونقديّا، حتى لا يبقى إبداعٌ ولا فنٌّ ولا عِلْم.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

تعليق واحد

  1. ثمة مكر ممنهج يسعى إلى تغييب الصورة الراسخة في ذاكرتنا، من اجل تثبيت الصورة المائعة أمام نواظرنا ونواظر القادمين من بعدنا، وهذا المكر طال ثوابت اللغة والأدب لننزلق في متاهات الحداثة التي لا معايير لأشكالها ومضامينها، والمشكلة تكمن بانجرار الكثيرين وراءها دون اطلاع على ما مضى، ودون أدراك لما يحدث امن عبث في هذه الأيام.
    مقال في الصميم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *