فايز الصيّاغ الشّاعر..وملامح التَّجديد في الشِّعر العربيّ

*د. حكمت النوايسة

ما سأكتبه هنا جزء من وفاء لرجل أحببته، وأحبَّني ربّما، وتناوُل لجزء من تجربة شعريّة كان رهان النقّاد عليها في زمنها، حيث يعدّ من الأوائل المجدّدين في الشعر العربي الحديث، عندما نتناول شعره بالقراءة الفاحصة المتأنِّية، وقد خسرنا ديوان شعره الأوَّل (كلمات على الرَّمل) هذا الديوان الذي احترق مع ما احترق في مبنى العيزرية التابع لدار عويدات في وسط بيروت بدايات اندلاع الحرب الأهليّة، وأصدر ديوانه الذي بين يدينا، ديوان (الحب مثلًا وقصائد أخرى)(1)، في العام نفسه، 1975، ثم توقّف بعد ذلك عن كتابة الشِّعر، وذهب في مجالات ثقافيّة أخرى على رأسها التَّرجمة التي صار من روّادها المتحصّلين على أعلى الجوائز العربيّة فيها.

  • ديوان “الحُبُّ مثلًا وقصائد أخرى”

نقرأ على غلاف الديوان:

“الحمد له؛

العادل المقسّم الحظوظ بين خلقه (الولاة فالعوام)

الواحد المدبّر الكون على أفضل ما يرام

الحمد له؛ مَن سطّح الأرض، وأرسل النجوم، حولها تدورْ

وأنسل الناس من الناسِ، وأخضع الإناث للذكورْ

الحمد له؛ مَن علّم الإنسان سرّ الكيمياءِ والعقاقير وصنعة الدروع والسروجِ

واختصّه بنعمة استكناه ما في الغيبِ من تحرُّك البروجِ”.

وهذا مقتبس من قصيدة “من دفتر المتوكئ” الواردة في الديوان، وهي قصيدة درامية تنحت في دفتر الشعر العربي لونًا جديدًا من الشعر، تتعدّد فيه الأصوات، ويغلب فيها صوت السلطة، المتوكئ، وهو الرمز المركزي في القصيدة، ونشتفّ منه أنه ينتقم من العوام لأنهم نعتوه بـِ(ابن كهرمانة البدينة).

الديوان بعامّة صوت الضمير الجماعي، يعبِّر عن هذا الضمير، ولا غرو أن نجد الشاعر يترك الشعر وينتقل إلى غيره من الآداب، فالبشارة بالشعر لم تعُد مُجدية بعد الخسارات، وخاصة نكبة الـ(48) والـ(67)، وكما ترك صديقه تيسير السبول الشِّعر ثمّ الحياة، ترك فايز الصيّاغ الشِّعر، ولكنّه امتلك الطاقة الروحيّة التي جعلته يستمر بالحياة، لا كما فعل تيسير الذي حاول الذهاب إلى الرواية، فكانت (أنت منذ اليوم) بيان مغادرة الشِّعر والحياة معًا.

  • ملامح المرحلة الشعريّة التجديديّة

أوَّلًا: التَّناص

لم تخلُ قصيدة من قصائد الديوان من تناصّات مع الثقافة العربية الرسمية والشعبية والثقافة العالمية، وهذه السمة التي وسمت الحركة الشعرية العربية التجديدية كما عند السياب وغيره، نجدها عند الصيّاغ ملمحًا مهمًّا، ورئيسًا، ولعلّه من أوائل الآخذين بها، نظرًا لما للتناص من قدرة على تشبيع النص بالمعاني المكثّفة المرحّلة من نصوص أخرى، تختصر، وتفتح آفاق القراءة، فضلًا عن قدرة التناص على استجلاب التجارب الإنسانية وبثّها في النصوص الجديدة، والتناص الذي نتناوله في هذا الديوان هو تناص الإيجاز، وهو الإحالة إلى التاريخ من خلال أحداث أو رموز أو نصوص تاريخية، وهو كما يقول حازم القرطاجني: “الإحالة المحضة الإيجاز، وهذه هي التي تحتاج إلى شرح وتوضيح ليدركها المتلقي العادي؛ إذ لا يذكر فيها الشاعر إلا الأوصاف المتناهية في الشهرة والحسن، والأوصاف المتناهية في الشهرة والقبح”(2).

ومن ذلك مثلًا:

“بالأمس أفرغنا حكايانا العتيقة/ ثم أدمينا حناجرنا/ فأغفينا على باب الأمير/ ولسيفه البتار غنّينا… لسيور أحذية الأمير… واليوم نعقد ربطة العنق الأنيقةَ ثم نهتف في وجوم: (الآخرون؟ الآخرون هم الجحيم)”(ص9).

حيث نرى التناص (الآخرون هم الجحيم) المقتبس من مسرحية “سارتر” الوجودية (لا مخرج)، يختم النص/ المقطع الشعري، فالأمس الأمير، واليوم ربطات العنق، والدائرة ذاتها، لأنّ الآخرين لا يرون ما نحن فيه، كما في (سارتر)؛ إذ تجد الشخصيات أنفسها في جحيم ليس كالجحيم المصوّر في الخارج، ولا تريد أن تخرج منه، ونحن، عبثًا، نرى ونصيح أنّ الآخرين هم الجحيم لأنّنا لا نريد أن نغادر واقعنا منذ تاريخه إلى ما وصلنا إليه.

في القصيدة نفسها (الحصى والماء) ينتاب القارئ -منذ العنوان- إحساس بأنّها تشير إلى شيء في ذاكرته، وسيستبينه في نهاية القصيدة، فالحصى والماء تثير في الذهن قصة المرأة التي وجدها عمر بن الخطاب تسلّي جوع أبنائها بتحريك حصى داخل قدر على النار علّهم ينامون، وفي نهاية القصيدة نجد المقطع:

“ونظلّ منذ الصرخة الأولى/ وحتى حشرجات الرُّعبِ نطهو للعيال الساغبين حصىً وماء!!”.

وقبل هذا المقطع نجد توظيفًا آخر لأسطورة (الهامة) وهي: “كانت العرب تزعم أنَّ روح القتيل الذي لم يدرك بثأره تصير هامة فتزقو عند قبره تقول اسقوني، فإذا أدرك بثأره طارت”(3).

“سنظل- ما دامت تقول الهامة اسقوني- نلوك الماء…”(ص11).

كما يستدخل الأغنية الشعبيّة الطقسيّة (يا أم الغيث غيثينا…) التي تطلب المطر من السماء في طقسيّة جاهليّة ممتدّة إلى حوالي ثلاثين سنة مضت في القرى الأردنيّة.

وهو أيضًا يتناص مع النص القرآني:

“صخرة يا ولدي هذي الحياة/ فإذا ظمئت لا تشك القدر/ واضرب الصخر فتنهلّ المياه”.

ولكن الرُّؤية فجائعيّة في النِّهاية:

“ضربنا الصخر/ قلنا اليسر بعد العسر/ لم تبهت أمانينا/ ضربنا الصخر/ فانهلّت دمانا فوق وجه الصخر وانحطمت أيادينا”(ص16).

إنَّ السير مع التناصات الموجودة في هذا الديوان تحتاج إلى ورقة كاملة خاصّة بموضوع التناص، وإنّما أردتُ الوقوف على بعضها لسببين؛ الأول: تبيين ملمح من الملامح التي اتَّصفت بها القصيدة العربية التي انطلقت مجدّدة في الشعر العربي في مرحلة المؤسسين، وربَّما يكون فايز صيّاغ من أوائلهم، والثاني: بيان ما يقدّمه التناص من خدمة رؤيوية وبنائيّة في الشعر العربي الجديد.

وقد رأينا في الأمثلة التي طرحناها مثل هذا.

ثانيًا: الإيقاع- الوزن الذي يشبه النثر: الهمس

إنّ مَن يقرأ الديوان يقف على هذه السمة الواضحة، الوزن الذي يشبه النثر، وهذا مترتّب على البنية الموضوعيّة للقصائد، والطاقة الكامنة في نشدان موضوعات جديدة في الشعر، فضلًا عن تمكُّن الشاعر من إيقاع الشعر العربي؛ لأنّ غير المتمكّن من هذا لا يستطيع الخروج على إيقاع الخليل لأنّه يبقى أسيره، وعروض الخليل ما هي إلا استكشاف لِما كان معروفًا من أوزان شعريّة سار عليها الشعر العربي، استنبط الخليل بناها الإيقاعيّة، فاكتشف التفاعيل، أو الوحدات الموسيقية التي تميِّز قصيدة عن أخرى، فكانت البحور التي نعرفها اليوم.

إنَّ شعر الصيّاغ لم يخرج عن هذه البحور، وكثير من القصائد جاءت على بحور الشعر العربي كما في قصيدة (مصرع عروة بن الورد):

وإِنّي اِمرُؤٌ عافي إِنائِيَ شِركَةٌ                   وَأَنتَ اِمرُؤٌ عافي إِنائِكَ واحِدُ

وبعد أن يأخذ الأبيات الثلاثة الأولى منها يكتب عن عروة بن الورد الجديد، قصيدته الخاصّة، يقول:

“وحين ارتمى/ والرماح ائتلاف عليه/ وأسلم للريح رمحهْ

توسّد صدر الرمال المشوقةِ وارتاح، فوق انفساح المتاهةْ

وأرسل للرملِ، في آخر الحشرجات الذبيحةِ، أهةْ

تفجّر منها المرارةْ/ وما كان ثمّة إلّا عرارةْ/ مجروحة الخدّ/ تحنو عليه/ وتمسح بالطيب جرحه/ وإلا مدامع (قرنل) تنهل في مأتم الفارس المحتضر/ وتندب (عروة)/ ترب السماح ورمح العشيرة المنكسر”.

حيث انتقل من وحدة البيت إلى وحدة التفعيلة، فجاءت القصيدة على تفعيلة (فعولن) وهي تفعيلة بحر من البحور الصافية هو البحر المتقارب. وإذا تجاوزنا الإيقاع إلى المعنى، فإنَّنا نجد قائد الصعاليك، الذي لم يتصعلك إلا ليقيم العدل بطريقته الخاصّة بعد أن رأى الظلم، والـ(الطبقيّة) في المجتمع، ونرى نهايته ومآله: فقد مات وسط الرماح/ وأرسل آهته، ولكن لم يجد إلا (عرارة) تحنو عليه، والعرار شجر، ولم يجد إلا دموع رفيقته (قرنل)، ليقول لنا النص: أين الذين كان عروة يفني نفسه كلّ يوم من أجلهم؟ وهذا سؤال قصيدة (الرَّمز) إذْ يتَّخذ الشاعر عروة بن الورد رمزًا ليعبِّر به عن عروة زمننا الجديد، وكم عروة رأينا من مناضلين ننساهم بمجرَّد استشهادهم!!

هل نجد علاقة بين وحدة الذبيع ووحدة التفعيلة؟ مجرّد سؤال.

في المقطع الثاني من قصيدة (سذاجات) الوجدانية، نقف على ملمح من ملامح التجديد الإيقاعي في الشعر العربي/ هو القصيدة النهر، القصيدة التي تستطيع قراءتها كاملة دون أن تتوقف أو ينقطع الإيقاع:

“وأنا الذي تبكي صباباتي بأضلاعي ويقتلني الحنين ولا أبوح وبيننا هذا الجدار يمدّ رهبته فتنطفئ الحروف على الشفاه ويهطل الصمت المثلّج بيننا وإلى اللقاء أنا الذي أهفو وأعرف ما تبوح به العيون إذا تعانقت الأصابع للوداع على جوىً أوّاه يا خفرالحريم وذلّة الشوق الحبيس يموج في عينيك يا موؤودة الأشواق لا تنأى وإذ تنأى خطاك أحسُّ زخّات الرّماد المرّ ترسب في شرايين….”.

فنحن نستطيع قراءتها على تفعيلة الكامل (متفاعلن) دون توقّف إذا راعينا تشكيل أواخر الكلم، وعدم الأخذ بعلامات الترقيم وعدم الأخذ بالصورة التي رسم بها الشاعر شكل الأسطر؛ إذ يضع في السطر جملة أو جملتين ويذهب إلى سطر جديد دون توقّف التدفّق الإيقاعي إلى أن تتوقف القصيدة.

وبعد، ففي هذه العجالة أردتُ أن أقف على بعض ملامح التَّجديد في الشعر العربي التي كان فايز صيّاغ من روّادها، وهذه الملامح أبرزها التناص والتجديد الإيقاعي، وقصيدة القناع، كما في قصيدة (صفحات من دفتر المتوكّئ) التي لم نَرَ فيها إلا صوت المتوكئ، ويختفي صوت الشاعر تمامًا، وقصيدة الرّمز التي تشبه قصيدة القناع في تركيزها على رمز واحد، وتختلف عن القناع في الصوت/ الضمير كما في قصيدة (عروة بن الورد) حيث يترك مسافة بينه وبين الرمز، ويكون الضمير ضمير سارد، فيما يكون الضمير في قصيدة القناع ضمير الأنا، يتقنّع الشاعر برمزه، ويقول باسمه، ومن هنا كانت التسمية؛ القناع، كأنَّ الشاعر ارتدى قناع رمزه، كما في بعض قصائد أمل دنقل في قصيدته (المسيح) وبدر شاكر السيّاب في قصيدته (المسيح بعد الصلب)، وعبدالوهاب البياتي الذي اشتهر به.

ومن خلال ما أوردتُ هنا، أقول إنّ ديوان (الحب مثلًا وقصائد أخرى) يستحق وقفة طويلة جدًا، وربَّما يكون قمينًا بأن تدور حوله رسالة أكاديمية كاملة لما تضمّنه من اشتمال على ملامح التجديد في الشعر العربي الحديث كاملة، وبما تضمّنه من موهبة شعرية كبيرة سرقتها منّا الهزائم التي واجهها أبناء الأمة العربيّة، فكان فايز الصيّاغ واحدًا من هؤلاء الذين وجدوا لا جدوى الشعر في تراكُم الهزائم، ووجدوا فيما كتبوا، على الرّغم من تعبيره التراجيدي عمّا يدور ودار، غير مُجدٍ، فانتقلوا إلى آفاق أخرى من الكتابة غير الشِّعر.

* الهوامش

(1) صيّاغ، فايز، الحب مثلًا وقصائد أخرى، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، طبعة العام 1988.

(2) محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1986، ص123.

(3) المعري، أبو العلاء، سقط الزند، شرح أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت، 101.

  • من ملف خاص عن الشاعر الراحل نشر في مجلة أفكار – وزارة الثقافة الأردنية

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *