موسى رحوم عباس

القَامَــــــة

 (ثقافات)

القَامَــــــة

قصة قصيرة

الأديب السُّوري موسى رحوم عباس

     من سوء حظِّنا أم من حسنه، لا أعرف، تتوسط قريتنا المسافة بين مدينتين، واحدة تعتبرنا من رعاياها حسب السِّجلات الرَّسمية والأهل والأقارب، والأخرى نعتبرها مِنحة إلهية جمالا ومعمارا وتجارة، المدينتان هما الرَّقة وحَلَب السُّوريتان، لم أنَمْ تلك اللَّيلة التي همس فيها والدي لي سِرًّا أنَّني سأرافقه غدا إلى حَلَبَ؛ لنقابل شريكنا الحلبيَّ في الزِّراعة، منه المال ومنا التَّعب والأرض، كان ذلك قبل نصف قرن، أو يزيد، جهزتُ حذائي الوحيد ومسحته من غبار دروب قريتنا المتربة، ورأيتُ أنَّ لباس المدرسة هو اللَّائق لشوارع حلب المُسفلتة أو المرصوفة بالحجر الأسود في باب النَّصر وباب الحديد وجبِّ القبَّة … وأسواقها الكبيرة، وتجاهلتُ ثوبي الجديد الذي لبسته في العيد الماضي، فالثِّياب العربيَّة لا تليق بالمدن وأهلها المتحضِّرين، هكذا ظننتُ، وضعتُ كُلَّ ذلك تحت الوسادة وعيني ترقب شروق الشَّمس، والعين الأخرى على بوابة الدَّار الكبيرة أتأكَّد من الدَّاخلين والخارجين خشية من تسلُّل الوالد وحيدا أو نسيانه لي، ثم أعود لإقناع نفسي أنَّ أبي دائما يَفِي بوعوده، ما هذه الحَلَبُ التي يحبُّها النَّاس، ويستمتعون بكبابها وحدائقها وسبيلها!

كان أبي يمسك بيدي، وكأنَّني مازلتُ صغيرًا، وهو يجتاز الشَّوارع، وينتقل من رصيف إلى آخر، ويكرِّر لي قوله إنَّ حلبَ تضيع فيها الجِمَال، وعندما أحتجُّ على تقييدي هكذا، يروي لي قصَّة ذلك القرويِّ مِثلنا الذي فرَّقت الحشودُ بينه وبين زوجته، وكان اسمها فاطمة، ويناديها ” فطيم” فأضاعها في سوق الغَزْلِ المُزدحم، فأخذ ينادي في السُّوق، ويستصرخ ضمير كُلِّ مَن يراه، هل تعرف فطيم؟ يا ناس دلُّوني على فطيم، ويصرخ يائسًا” يا من يعرف فطيم بسوق الغَزْل” وحين يُقلِّد أبي صوته ونواحه، يغلبني الضَّحك، وأنسى سبب احتجاجي على قبضة يده القويَّة وأثرها الظَّاهر على معصمي، تجاوزنا سوق الغَزْل، ودلفنا إلى سوق آخر في سوق المدينة المسقوف، ليس بعيدا عن قلعة حلب، ملأتْ أنوفنا رائحة صابون الغَار والزَّعتر والتَّوابل، توقَّف أبي أمام آخر محلٍّ على اليمين؛ ليتأكَّد أنَّه على الطَّريق الصَّحيح، دقَّق في ملامح الرُّجل الذي يقتعد مقعدا وثيرا في صدر المحلِّ، أمامه طاولة خشبيَّة معشَّقة بالصَّدف، وعليها دلَّة كبيرة للقهوة العربيَّة، وبضعة مجلَّدات من الكتب الصَّفراء، تبدو قديمة جدا، لكنَّها نظيفة ومذهَّبة الخطوط التي تلمع على الأغلفة، كان صاحب المحلِّ شيخا مهيب الطَّلعة ذا لحية مشذَّبة بعناية، حسن الثِّياب، لفتت نظري عيناه الواسعتان، لوهلة ظننتهما مُكَحَّلتين، ثم تراجعتُ عن ظنِّي هذا، فلم أعهد رجلا يكتحل في قريتنا! رأى الشَّيخ دهشتي؛ فناولني حفنة من المُلبَّس الأحمر، انصرفتُ لالتهامها، وانشغلتُ عن هيبته وكُحله، بينما صبَّ لأبي فنجانا من القهوة العربيَّة، وثنَّى بآخر، فرأيتُ والدي يهزُّ يده اليمنى بالفنجان علامة الاكتفاء والشُّكر، وبعد حديث قصير عن الزِّراعة والأغنام والحليب والصُّوف، سأل عن حاجتنا من الصَّابون والبيلون … عندها ضحك أبي، وقال له بصوت خفيض، لا، هذه المرَّة لي حاجة أخرى يا شيخي الجليل، هكذا وصفه، هز الشَّيخ رأسه، وكأنَّه التقط المعنى الذي ببطن الشَّاعر، وأمسك بيد والدي بلطف، وأدخلنا إلى غرفة صغيرة ذات باب خشبيٍّ صغير يُصدر أنينًا مكتومًا حين فتحه وإغلاقه، ظننتُه خزانة لأوَّل ولوجنا المحلَّ، الغرفة مرتَّبة تفوح منها رائحة البخور، بها مكتبٌ صغيرٌ، ومشجب للملابس، وأوراق ومكتبة مزدحمة بالكتب الضَّخمة المُجلَّدة بعناية، صمتَ قليلا، ثم قال، الآن قلْ لي ما هو الحجاب الذي تريده؟ ما الغاية منه؟ جَلْبُ الحبيب، أم استخراج كنز…؟! أجابه أبي، لا، أيُّ حبيب، وأيُّ كنز، ياشيخنا، هذه المرَّة أريد منك أنْ تعمل لي ” قامَة” وليس حجابا، سمعتُ من بعض الأقارب أنَّك بارع في كتابتها، لم يبدِ ردَّة فعل تدلُّ على المفاجأة، لكنَّه سأل بخبث، هل تعرف ما هي القامَة؟ ببساطة أجاب أبي، لا والله!

” القامَة” هي تميمةٌ أو رُقْيةٌ لا يحسن كتابتها إلا القلائل، تمنح حاملها امتيازات لا نظير لها، يصير له قلب أسد، لا يعرف الخوف، وتُلقي في قلوب أعدائه المهابة والرَّعب، يهابه أقرباؤه قبل أعدائه، وتكون له حظوة عند أهل السُّلطان وأبناء الحكومة، لكن كلفتها كبيرة، هل تقدر عليها؟ بهدوء شديد أجاب والدي، توكَّل على الله، وهَبَّ واقفا وظهره إلى الجدار بمحاذاة ما يشبه المسطرة المدرَّجة، رأيتُ أنَّ الشَّيخ يسجِّل طوله على ورقة إلى جانب اسمه واسم أمِّه أي جدَّتي…، آمرا له أنْ يرفع رأسه؛ ليكونَ القياس دقيقا، وتكون التَّميمة على مقاس قامَة صاحبها لا زيادة ولا نقصا.

بعد يومين حسب الموعد كانت “القامَة” جاهزة، وقد غُلِّفتْ تماما بجلد أسود، وخيط ما حولها خياطة دقيقة، وعُلِّقتْ بِسَيْرٍجلديٍّ رفيع، التقطها أبي بفرح ظاهر، وعلَّقها في عنقه، مُخفيا سَيْرَها تحت ثيابه، بعد أن دسَّ مبلغا من المال لا أعرف عدَّته في يد الشَّيخ، طالبا البركة والدُّعاء، وقبل أن ننصرف تلقَّى التَّحذير الأخير، ألَّا يحاول أحدٌ فتحها أو قراءتها، عندها تصبح باطلة لا قيمة لها.

سنوات كان أبي هو الرُّجل الوحيد الذي لا يخاف الشُّرطة ولا مندوبي الحكومة في منطقتنا، كنتُ أراه يدير ” القامَة” للأمام إذا دخل المخفر، ويرفع صوته بوجه العناصر مطالبا بإنصاف المظلوم من أبناء القرية، ويهدِّدهم بإبلاغ قادتهم إذا استمرُّوا في فسادهم، ويعدِّد لهم الرِّشى ومبالغها وأصحابها، فيصمتون، ويتمتمون بأنَّهم يحترمونه، ويحفظون له مكانته، ويَعِدُونه بأنَّهم جاهزون لاقتسامها معه، فينتفض قائلا، حَدّ الله بيني وبين الحرام.

 في المرَّة الماضية، سأله القاضي أثناء محاكمة جمع غفير من قريتنا في مشاجرة مع قرية مجاورة، هل أنتَ مَنْ شجَّ رأس هذا الرَّجل؟ أجاب نعم، لأنَّه مُعتدٍ، وشرطتك فاسدون مُرتشون، يتركون النَّاس تأكل بعضها، لم يمرَّ على ذلك أيام، حتَّى أخلي سبيله، وعُدَّ مدافعا عن نفسه، بعد أن تنازل المُصاب عن حقِّه، مقدِّرا شجاعة خصمه، وفي كلِّ مشاجرة كان الرُّجال يفِرُّون أمامه كارهين لقاءه في معركة يعتقدون واثقين أنَّهم سيخسرونها.

عندما انتقلتُ لهامش المدينة لتعليم أولادي وإعالتهم، فأنا لا أحسن العمل الزِّراعي ولا رعي الغنم، تخرجتُ في الجامعة، وصرتُ موظَّفا، وقد اشتدتِ الأيامُ عليَّ، فالمدير المسؤول عنِّي عنيفٌ ومُخبِرٌ يُورد مخالفيه المهالك، الشَّوارع تعجُّ بأمثاله، نُصفع أمام الفُرن، ونحن نحاول الحصول على الخبز، نُطرد من شبَّاكه إذا حضر العسكر والأمن فلهم الأفضليَّة ووقتهم أثمن من أوقاتنا، تمرُّ السَّياَّرات الحكومية والخاصَّة مسرعة في شارعنا المليء بالحفر التي تحوَّلت إلى مستنقعات، فتغسلنا بمياهها القذرة، نمسح وجوهنا بالمناديل القماشيَّة التي صرنا نحتفظ بها، وتعيد نساؤنا غسلها؛ لنستعملها ثانية وثالثة، ثم نتابع سيرنا بثياب مبلولة ومبقَّعة بالطِّين؛ لنحتفل بعيد الاستقلال.

 فتَّشتُ عن إرث أبي فلم أجد سوى تلك ” القامَة” وخنجر مفضَّض وعليه ثلاث خرزات زرقاء، بكلِّ الأحوال لا أستطيع حمله في المدينة التي وقعت في قبضة الشُّرطة وعيون العَسَس، والخنجر سلاح أبيض يُسْجَنُ صاحبه؛ لذا فضلتُ” القامَة” عليه فوضعتها في عنقي، شعرتُ بالقوة والمهابة، مازال جلدها قويًا، وخياطتها متينة.

في صباح اليوم التَّالي قابلني ذلك المدير المُخبرعند باب المكتب بابتسامته الصَّفراء ساخرا من ملابسي الرَّثَّة مُدَّعيا أنَّي تأخَّرتُ عن الدَّوام! اقتربتُ منه، أدرت “القامَة” للأمام بجذب السَّير بقوَّة،  لاحظ الشَّرر يقدح من عينيَّ، حاول الاعتذار، سبقتْ صفعتي اعتذاره، تدخَّل بعض صبيانه من الموظفين التَّابعين لعصابته، رفستُ أوَّلهم، وأمسكتُ بخناق الثَّاني، تكاثروا عليَّ، لم أستعد وعيي إلا في المستشفى، ويدي مصفَّدة إلى السَّرير، وثمَّة شرطيٌّ يحرس باب غرفتي ويده على الزِّناد.

مرَّ أسبوع حتى سُمح لوالدتي العجوز التي أصرَّت على زيارتي، وهي تتوكأ على عكَّازها، يبدو أن أحدهم توسَّط لها، فوجئتُ بها تمسك بالسَّير الجلديِّ للقامَة المُعلَّقة في عنقي، وقد نسيتُ إخفاءها، وهي من تعرفها جيدا، شدَّتها بقوة حتى أخرجتها، جرح طرفها عنقي، لم تتأثر لمنظر الدَّم على ياقة قميصي، قالتْ، وهي تطوِّح بعكَّازها عاليا في وجهي، حتى بدا ذلك الوشم الأزرق على ظاهر كفها، التي تحمل العكَّاز، وأخذت تعيد قولها بصوت هادر، هذه لا تعمل إلَّا لصاحبها المُؤمن بها، وقد ماتت بموته، ابحث عن طريقة أخرى لتكونَ رجلا مثل أبيك، حاولتُ أن أشرح لها شيئا، أعتذر عمَّا فعلتُ، لكنَّها نهضتْ دون أن تمنحني الفرصة، ولم يعد يصلني سوى وقْعِ العُكَّاز على بلاط المستشفى مبتعدة في الممرِّ الطَّويل نحو البوَّابة التي يدخل منها ضوءٌ ساطعٌ لشمس الرَّقة الحارقة، لاحقها بصري حتى ابتلعها الوهج، يتبعها ظلٌّ لامرأة تلبس ثوبا طويلا، وتحمل عكَّازا تثير به غبار الطَّريق.

                                                                                السُّويد

                                                                            آذار، 2023

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *