(ثقافات)
مهنا الدرة: سيرة غير مكتملة عن الفن والدبلوماسية
يحيى القيسي
ما من أحد يتناول الحركة التشكيليّة الأردنية أو يذكرها الّا ويشير بقوة الى أبرز روادها ، الذي حقق حضوراً عالمياً وعربياً ومحلياً لافتاً، والذي يرقد هذه الأيام على سرير الشفاء*، لكن يده لا تتوقف عن العزف على الألوان، والبحث الدؤوب عن تلك الشيفرة السحريَّة التي تؤلف بينها، ليخرج منها بسمفونية بصريّةٍ مدهشةٍ، وهو الذي مرّ بمراحل كثيرة من ناحية التقنيّات والمواد والموضوعات حتى وصل الى ما هو عليه الآن أي التلوين التجريدي.
اعترف بتجربته كبار النّقاد في أوروبا وروسيا، لكن بلداً صغيرا مثل الأردن ما زال يعاني من بيئته الثقافية الهشّة والمتقلبة، ربّما يكون عاجزاً عن الإشارة إلى هذه الرجل ودعمه وتسويقه، وتفرّغه للرسم طيلة حياته كما يليق بقامة فنان كبير مثله، وربّما يتسرّب الدرة من بين أصابعنا قطرة قطرة، وحين فوات الأوان ندبّج في حقّه الخُطب والمدائح، والتكريم، لكن الدرّة الذي يتمتع بخصالٍ إنسانية أصبحت نادرة في هذا الزمان يمرّ في هذه الأيام بمحنةِ المرض الخبيث، وعدم القدرة على العودة الى العمل من جديد وقد اشتعلَ الرأسُ شيباً واقترب من السبعين من عمره، لهذا فهو يحتاج من المؤسّسة الرسميّة الثقافية في الأردن ومن الدولة في أعلى مستوياتها، ومن المثقفين جميعاً الى وقفة وفاء، واعترافٍ بإبداع الرجل وإبرازه في العالم، وها نحن هنا نحاول أن نطلّ على عالمه الشاسع الجميل، متمنين أن يعود الى قوة ألقه، وتدفّقه الخلّاق من جديد بعد أن يزول العارض، وترحل الهواجس السوداء.
تقول سيرة الدرة بأنّ ولادته كانت في عمّان سنة 1938 لوالدٍ تربويّ عُروبيّ من أصلٍ لبناني هو “سعيد الدرّة” الذي جاء إلى الأردن هربا من بطش الاستعمار الفرنسي. أما والدته ذات الأصول التركية فهي من قرية كفرنجة قرب عجلون. وقد عاش طفولته المبكرة في الكرك 1940- 1944حيث كان والده يعمل مديراً لمدرستها الثانوية، وما زال يذكر خرائب قلعتها الأثرية التاريخية وممراتها وأقبيتها المظلمة، ويتخيل كائنات خرافية من الجنّ والغيلان وهي تسكن فيها، وقد أكسبته هذه التجربة حسّاً عالياً بالطبيعة وأسرارها وما ورائها، ووسّعت من خياله ثم عاد الى عمان مع والده وبدأ درسه المدرسي الأول في مدرسة العسبلية، وما زال يذكر مُعلّم الدين الشيخ سعيد المُفتي الذي قبضَ عليه متلبّساً وهو يرسم حيث وبّخه الشيخُ حينها على رسمه رأس إنسان له روح وضربه بالمسطرة على يديه، وقد ظلت هذه الحادثة تؤرقه طويلاً وتجعله يشعر بالذنب، لكنّ هاجس الرسم بقي مُسيطراً عليه وكان أقوى من كلّ توبيخ، لهذا تفنّن في رسم شُرطي المُرور بطاقيته، والعربات الشركسيّة التي تجرها الثيران والتي كانت تجول في بعض أحياء عمان إضافة إلى رسمه الوجوه الآدمية.
تعرف الى الفنان جورج أليف ووليم هالوين الهولندي بداية الخمسينات في عمّان واستفاد من خبراتهما التشكيليّة والنظريّة، وقد حفّزاه على السفر إلى إيطاليا لدراسة الفنون وهذا ما حدث إذ تخرّج في أكاديمية الفنون الجميلة بروما في العام 1958 حيث تعمقت معارفه النظرية وتجربته العملية، وعاد الى عمان ليدّرس مادة الفن في معهد المعلمين خلال الفترة ما بين 1959- 1960.
عاش في إيطاليا ما بين (1960 – 1970) إذ أتيحت له الفرصة ليعمل في السلك الديبلوماسي في روما المليئة بمصادر الفن العريق والترُاث الخرافي حيث نادته الى أحضانها من جديد وترسّخت تجربته التشكيلية بشكلٍ واضحٍ، وبدأت مرحلته الواقعية تتألق لا سيما فن البورتريه. وقد أقام العديد من المعارض الشخصية في تلك الفترة في روما وفلورنسا والاتحاد السوفييتي، كما مُنح وسام الفروسية (سان سيلفيسترو) من البابا بولص السادس. وفي تلك الفترة أيضاً رسم مجموعة من البورتريهات التعبيريّة المُتقنة لعددٍ من الشخصيات المُهمّة مثل البابا، والتقى بالشاعر الأميركي الشهير إزرا باوند ورسمه مباشرة، وما بين عام (1970 ـ 1980) ساهم الدرّة في إثراء الحركة الفنيّة في الأردن بما يمتلك من خبرات واسعة، وكان محترفه الخاص موئلاً لتدريب نُخبة من الفنانين والفنانات أسرار اللون والرسم، ولكل جهوده منحه الملك الراحل الحسين وسام الكوكب الأردني في العام 1970، ثم عُيّنَ مديراً عاماً لدائرة الثقافة والفنون في العام 1971، كما أسّس معهد الفنون الجميلة في العام 1972 وضمّ حينذاك نخبة من الفنانين الأردنيين مثل كرّام النمري، وعزيز عمورة، ومحمود صادق والدرّة نفسه، والمعهد يُعدّ أول مؤسسة رسميّة تعني بتعليم الفن التشكيلي في الأردن. وقد مُنح الدرة جائزة الدولة التقديرية في الآداب في دورتها الأولى في العام 1977 لمساهماته المتميزة في دعم مسيرة الحركة الثقافية والفنيّة في الأردن. كما تسلّم جائزة الروّاد الذهبية من اتحاد الفنانين العرب، وأقام عدة معارض في تلك الفترة في عدد من العواصم الأوروبية، وأيضا في واشنطن.
خلال عامي 1980 – 1981 عاش في تونس العاصمة حيث عمل مديراً للشؤون الثقافية التابعة لجامعة الدول العربية، ثم تابع عمله الدبلوماسي بعدها في روما حتى العام 1989، ولم يأخذه العمل الدبلوماسي الرسمي من اللوحة إذ ظلّ مُخلصاً لها، وقام بعرض أعماله في قصر فينيسيا، وفي بينالي البندقية الدولي لعام 1988، كما عرض في متحف فاليتا الوطني بمالطا، ومنح الميدالية الذهبية لوزارة التراث الثقافي في ايطاليا. وبعدها جاءت المرحلة المصرية إذ انتقل الى العمل في القاهرة بجامعة الدول العربية خلال عامي 1991-1992 حيث شارك هناك بفعاليّة في خبراته الفنية كما تعرف إلى الحركة التشكيلية المصرية الثريّة.
لكن حياته الغنية بأحداثها لم تدعه بعيداً عن عالم روسيا الشاسع والمختلف في الفن والحياة، وهكذا جاءته الفرصة للعيش في موسكو منذ العام 1992 وحتى العام 2000 حيث عمل سفيراً لجامعة الدول العربية لدى روسيا، واستمرّ في مُمارسة التشكيل منوّعاً في تجربته وتقنياتها وموضوعاتها، وقد عرض أعماله في سانت بطرسبيرغ وانتخب عضواً عاملاً في الأكاديمية المعلوماتية في موسكو.
عاد للعيش في عمان في العام 2000 و أقامّ معرضا استعاديّاً لتجربته في المتحف الوطني للفنون الجميلة، وعدداً آخر من المعارض الدولية، وقدّم مجموعة من المحاضرات التشكيلية والأفلام التوثيقية المتخصّصة في دارة الفنون بمؤسسة خالد شومان.
-
تم نشر هذه المادة في “القدس العربي” في العام 2004