شيوعيان وإخونجي (في مديح أساتذتنا)

(ثقافات)

 

شيوعيان وإخونجي (في مديح أساتذتنا)

أحمد عمر زعبار

شاعر وإعلامي تونسي مقيم في لندن

كنت إخونجيا ملتزما ثم حاملا للفكر الإخونجي ومدافعا عنه لأكثر من 30 سنة ثم هداني الله فكفرت بهم ودخلت دين الإسلام. بعد التأمل في تلك التجربة الطويلة أجد أن أخطر مساوئ التدين الإخونجي أنه يعمي المريد تماما عن رؤية الحقيقة الماثلة أمام عينيه وأنه يلوي عنق البديهي ليُرى ويُفهم بمنظار تأويلات تّدّعي أن منطلقها السعي نحو الخلاص وأن أفقها هو الله.

ما الذي دعاني للحديث عن أمراض الإخونج والأصل أني أحببت أن أتحدث عن بعض أساتذتي خلال سنوات دراستي الثانوية بمعهدي الوردانين والمنستير؟.

لست أحب أن أطلق التعاميم فكل تعميم خطأ أو الأصح أن كل تعميم فيه نسبة من الخطأ. لكن التعميم في ما يتعلق بالحديث عن أساتذتي ليس خطأ لأني عشت التجربة وعايشتها طيلة سبع سنوات ولم أعثر على استثناء وحيد يشذ عن الحكم المستخلص.

ما أذكره جيدا أن أساتذتنا لم يكونوا مجرد معلمين ومدرسين فقط, يلقون علينا دروسا ليمتحنوننا بعدها .. أساتذتنا لم يكونوا أصدقاءنا يجاملوننا وينافقوننا .. كانوا أفضل من ذلك بكثير وكانوا أكثر من ذلك… أكثر بكثير. لا أعرف أستاذا درسني إلا وكان يحس ويشعر أن نجاحي ونجاح تلامذته هو مسؤوليته الخاصة وأنه مسؤول عنّا بشكل شخصي .. كانوا “مناضلين” يبذلون أكثر مما هو مطلوب منهم ويشعرون بالقهر في حال فشلنا ..

كنّا نتعلم منهم فعلا ونعتمد عليهم في تحصيل المعرفة .. لم أؤمن في حياتي بقيمة أستاذ لا أحس أني قليل العلم وقليل المعرفة مقارنة به وأنه سيضيف لي علما ومعرفة وطرائق في التفكير وليس تلقينا أو حفظا فقط.. كانوا ملمين جيدا بالمادة التي يدرسونها وكان اعتمادنا عليهم كبيرا, لم نعرف وقتها الأنترنيت التي أصبحت مصدرا أساسيا للبحث وتحصيل المعرفة وخزانا لا غنى عنه للمعلومات .. كان اعتمادنا أساسا على دروسهم وشروحاتهم وما يشيرون إليه وينصحون به من كتب .. كانوا خزان المعلومات الأساسي وشبه الوحيد الذي اعتمدنا عليه.

لم يكن التدريس مهنة فقط كان مسؤولية أولا وقبل كل شيء .. مسؤولية تجاهنا نحن كتلاميذ وتجاه عائلاتنا وربما يستغرب البعض أن أقول أنه كان لديهم إحساس المسؤولية الكبير تجاه الوطن, تجاه تونس وأن التدريس كان وسيلتهم للقيام بواجبهم نحو مجتمعهم ونحو بلدهم..

كانوا (صارمين) في تعليمنا صرامة الأهل, لا لشيء إلا لأنهم يريدون تحقيق هدف نجاحنا .. …

كانوا أهلا وكانوا صارمين كأهل لا أكثر وبعضهم كان يحزن ويقلق ويتعكر مزاجه حين يفشل بعضنا في امتحانات آخر السنة خصوصا امتحانات الباكالوريا.

كان البديهي والمنتظر هو أن يكون الأستاذ على هذه الدرجة الكبيرة من المسؤولية والواجب تجاهنا وكان الشاذ هو أن تسمع حديثا أو حكايات عن أستاذ غير مهتم أو لا يقدم الإضافة من أجل تلامذته.

شيوعيان وإخونجي

من ضمن كل أساتذتي في المرحلة الثانوية كان الأكثر تمسكا بالمبادئ: المؤدلجون .. الأديولوجيتان السائدتان والمتنافستان في معهد المنستير وقتها هما الشيوعية والإسلام السياسي (الإخونج) وقد كنت واحدا منهم قلبا وقالبا.

ثلاثة من أساتذتي كانوا مؤدلجين: أستاذ العربية سي صالح الصكلي, أستاذ الفلسفة سي الغزي وأستاذ التاريخ والجغرافيا سي محمد بودخان (تشيتشو).

سي صالح الصكلي أستاذ العربية بمعهد المنستير بداية الثمانينات كان مثالا حيا لأعلى مستوى من الرقي والإنسانية والتحضر والمسؤولية كان شيوعيا بكل خلية فيه وكنت أنا تلميذه إخونجيا بكل خلية في جسدي .. كان خلال شرح الدروس يفتح النقاش ويستمع إلى آرائنا لتنمو لدينا حاسة النقاش وكنت أناكفه (في إطار الاحترام طبعا) وأخالف شروحاته التي تعتمد المنهج الماركسي وكان يناقشني باحترام ونقاش الند للند دون غضب أو تعالٍ أو محاولة لفرض رأيه وكان في إصلاح الفروض يقبل الرأي المخالف ويضع ما يستحق النص من علامات جيدة وأحيانا مميزة. وكان حريصا على أن أنمي قدراتي وأن أتطور وأنجح, وعامل جميع تلامذته بمساواة ,الشيوعيين وغير الشيوعيين, ولم يميز أبدا بيننا وكان رغم محاولاته أن يكون صارما يعاملنا بحب أبوي وأخوي صادق.

أذكر أني عارضته كالعادة في شرح نص أدبي وخالفته في الفكرة(الشيوعية) التي انطلق منها كأساس لشرحه حين وقف أحد التلاميذ(ت.ح) لينتقدني بتذمر “أنت تخالف حبا في الاختلاف لا كثر .. لماذا تخالف استاذك ولست في مستواه.” أذكر كيف رد “سي صالح” بحزم “زميلك له آراء ومبادئ يؤمن بها ويجب أن تقدر وتحترم ذلك .. آراؤه دينية, هذا حقه.. نختلف هذا طبيعي بل مطلوب لأنه صحي.. أن تكون لك أراء ومبادئ وتختلف معي أفضل من أن تكون عبدا تابعا لا يفكر لنفسه” .. سي صالح الشيوعي الأصيل تعلمت منه أنا الإخونجي الملتزم ما لم أتعلمه من أحد غيره .. علمني معنى أن أكون إنسانا يكتشف ويرى ويقبل الآخر وأعترف أن جانبا كبيرا من شخصيتي تطور إيجابيا بفضل ما تعلمته منه.

سي محمد بودخان أستاذ التاريخ والجغرافيا (كنا نناديه تشيتشو) كان شيوعيا شيوعيا شيوعيا, لا يتنازل قيد أنملة عمّا يرى أنه حق ولا يتنازل أبدا عن مبادئه ولو على حساب صحته وعمله وكان مستعدا دائما أن يتحمل تبعات دفاعه عنا نحن تلاميذه ما دمنا على حق حتى لو أدى ذلك إلى مواجهته لإدارة المعهد أو فصله من عمله. كان عادلا في تعامله معنا وقلقا وحزينا علينا بسبب وعينا السطحي المزيف.

سي الغزي أستاذ الفلسفة كان من جماعة الاتجاه الإسلامي وصاحب مبدأ (خانه مرة واحدة حين تعارضت مصلحته الشخصية مع رغباتنا نحن تلاميذه) .. طريقته في التدريس جعلتني أعشق الفلسفة عشقا جنونيا كان له الأثر الكبير في تطوير ذاتي وأفكاري وكنت أتنافس على المرتبة الأولى في الفلسفة مع زميل شيوعي ومن عائلة كلها شيوعية كان رقيقا أنيقا لطيفا حنونا إلى درجة لا تصدق, إسمه (جلال خ) قيل لي إنه يعمل الآن ممثلا مسرحيا بأمريكا .. سي الغزي كان يحبنا ويدافع عنا ويقف في صفنا لكنه كما قلت خالف ذلك مرة واحدة من أجل مصلحته ولا أريد أن أذكر الواقعة هنا لأني فعلا تعلمت منه الكثير ليس على مستوى البرامج الدراسية فقط بل على المستوى الإنساني والفكري أيضا كالتسامح وقبول واحترام الاختلاف وعدم رفض الآخر وضرورة مناقشة الفكر المخالف بالمنطق وليس بالعاطفة … وهي أمور تبدو لنا بديهية الآن لكننا كنا مراهقين وفي فترة زمنية تصارعت فيها الإديولوجيات داخل المعاهد وخارجها .. الغريب أننا رغم اختلافاتنا الاديولوجية المتناقضة كنّا أصدقاء من الدرجة الأولى وكنا رغم التنافس على التفوق نساعد بعضنا ونتعاون في الدراسة ( جلال. خ) الشيوعي الملحد منافسي رقم واحد في مادة الفلسفة كان أيضا منافسي رقم واحد للحصول على المرتبة الأولى في مادة التربية الإسلامية وكثيرا ما كنا ندرس معا في مكتبة المعهد أو خارجها.

هل هناك غرابة في أن يكون أكثر أساتذتي تأثيرا وتمسكا بالمبادئ مؤدلجين (أستعمل الكلمة بموضوعية وليس كنقد أو كنقيصة)؟

صحيح أني لم أعد أومن بأديولوجيا معينة لها القدرة على الإحاطة بالحياة وتفسيرها فذلك يعني بالنسبة لي سجن مطلق الحياة في مفاهيم عقلية محدودة (الحياة مطلق والفكرة محدودة) لكني أعتقد أن الإديولوجيات ربما تكون ضرورية لخلق قاعدة ومجال تفكير لدى التلاميذ, علّمتنا الإديولوجيا أن الحياة مبدأ وعلمتنا أن ننطلق من فكرة لمناقشة فكرة أو أفكار مناقضة .. علّمتنا التحليل واستخدام العقل وكانت دائما دافعا للتفكير والمواجهة الفكرية لذلك لست أدين الإديولوجيات ولا المؤدلجين ما دامت كل (الصراعات) تحدث في إطار الصراع الفكري وليس العنفي وفي إطار توسيع آفاق الوعي والإدراك. أما ما يتعلق بالصراعات الدموية بين الأحزاب المؤدلجة في العالم العربي أو تحول عدد كبير من الشيوعيين والإسلامويين وبعض القوميين إلى خونة وجنود في فيالق أعداء أمتهم فهذا لا يدين الإديولوجيا بقدر ما يدين الأفراد ..هو خلل في الأفراد وفي وعي المجتمعات

ماذا ترك غياب الأفكار الإديولوجية عن ساحات جامعاتنا ومعاهدنا سوى نمو السطحية واللامبالاة وانتشار التسطيح والوعي المزيف وترك الساحة للفراغ أو الفوضى (هذا رغم صحته فيه بعض تعميم طبعا)

أخيرا:

1-لا يمكنني ذكر كل أساتذتي إنما اخترت نماذج ذات خصوصية مؤثرة لا تنسى, لكن لا يمكنني أن أتحدث عن أساتذتي بالوردانين دون ذكر أستاذنا حسن عزوز.. ماذا أقول عنه كان أستاذا وأخا وصديقا وأكثر وأكثر, أحد علامات معهد الوردانين البارزة (إلى جانب آخرين) وأعتقد أن كل الزملاء يقرون بذلك ويعترفون له بالجميل.

2-أرفض فكرة العبودية في “من علمني حرفا صرت له عبدا” ولا أعتقد أن أساتذتنا علّمونا لنكون عبيدا بل علمونا لنعرف كيف نتحرر. لست عبدا لأحد ولن أكون ولكني أقول لهم شكرا كنتم اساتذتنا وأهلنا ولن ننسى

3-أستاذي محمد الشتيوي أستاذ التربية الإسلامية بمعهد المنستير سابقا ورجل الدين المميز حاليا.. الشيخ الدكتور المختص في أصول الفقه, أثر في جيل كامل من أبناء الوردانين وغيرها .. وأنا لا يمكننني إلا أن أقر أنّه كان علامة فارقة في حياتي وأن جوانب كثيرة ايجابية في شخصيتي هي نتيجة ما تعلمته منه .. وهذا حديث آخر

شاهد أيضاً

الاُنس بمعاشرة الكُتب

(ثقافات) الاُنس بمعاشرة الكُتب د. طه جزاّع[1]  لعل من أصعب أنواع الكتابات، تلك التي تتناول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *