الكاتب والمكان: حول الكتابة عن القدس في الأدب

الكاتب والمكان:

حول الكتابة عن القدس في الأدب

*عادل الأسطة

لم أقرأ كتاب ( غاستون باشلار ) الذي ترجمه غالب هلسا . قرأت الاقتباسات الكثيرة التي استقاها منه الدارسون وهم يخوضون في عنصر المكان ، وقرأت ما كتبه عن الكتاب الناقد المغربي حسن نجمي في كتابه ” شعرية الفضاء : المتخيل والهوية في الرواية العربية ” ( ٢٠٠٠ ) . لم ترق ترجمة هلسا التي كانت عن لغة وسيطة هي الإنجليزية ، لنجمي ، ولغة الكتاب الأولى هي الفرنسية .
المكان الأليف والمكان المعادي والمكان المحايد والمكان المغلق والمكان المفتوح والمكان … والمكان … هي مصطلحات عديدة استخدمها الدارسون وهم يكتبون عن المكان في النص الأدبي . وقليلون منهم من ميز بين الفضاء والمكان اللذين ميز بينهما نجمي .
ربما أثرى ( الن روب غرييه ) في كتابه ” نحو رواية جديدة ” معلوماتي عن المكان والوصف في الرواية والفرق بين الأخير – أي الوصف – في الرواية الكلاسيكية التقليدية والوصف في الرواية الحديثة ، بخاصة حين كتب عن الوصف الذي يجعل القاريء يرى تأثير الزمن على المكان والأشياء وعن الوصف الذي لا وظيفة له ؛ الوصف الذي يكون لمجرد الوصف فقط .
وأنا أكتب عن القدس في الأدب الفلسطيني والعربي ، وأيضا في رواية ( ثيودور هرتسل ) ” أرض قديمة – جديدة ” توسعت في الكتابة عن علاقة الكاتب ، وهو يكتب عن القدس ، بالمدن الأخرى وتساءلت إن كان يكتب عنها كما رآها أو كما قرأ عنها في الكتب أو كما يتخيلها . ( رأى هرتسل القدس ، كما قرأ عنها ، مدينة من ذهب ، وحين زارها أحبط فلم تكن كذلك ، ولكنه رسم لها صورة متخيلة جميلة لما ستكون عليه .
هكذا كتبت عن مدن راشد حسين ومدن مظفر النواب ومدن أمل دنقل ومدن محمود درويش ومدن أحمد دحبور : القدس في ضوء مدن الشاعر التي كتب عنها .
عندما قرأت قصيدة عز الدين المناصرة ” القدس عاصمة السماء ” كتبت عنها ولم أمدحها ، فقد لاحظت أن الشاعر يفتعل الكتابة . لقد كتب عن القدس لأن الكتابة عنها منذ كتب تميم البرغوثي قصيدته التي ذاعت وانتشرت صارت موضة أو صارت جواز سفر للشهرة .
ثمة منهج يقرأ الجزء في ضوء علاقته بالكل ، فلكي نعرف مكانة مدينة ما في نظر شاعر علينا أن ننظر في علاقته بالمدن الأخرى ومكانتها لديه . أهو المنهج الجشطالتي ؟
لم تكن القدس المدينة الأولى لأي من الشعراء المذكورين ، وحين كتب تميم كتب عن تجربة مر بها وقبله فعل الشيء نفسه محمود درويش .
مدينة درويش هي حيفا وهي أيضا مدينة دحبور ، ومدينة دنقل هي المدينة المقاومة ( السويس ) لا القاهرة ، ومدينة مظفر النواب هي دمشق وبغداد وكتابته عن القدس جاءت ليعلن موقفا سياسيا ومثله دنقل .
ربما كانت القدس مدينة فوزي البكري الأولى والوحيدة وهي بالتأكيد مكانه الأليف كما لم تكن لغيره ممن زارها أو كتب عنها عن بعد ، وحين كتب عنها لم يفتعل الكتابة ولم يكتب لأن المناسبة اقتضت ذلك . كان البكري يكتب حياته في القدس قبل أن تكثر الكتابة عنها وقبل أن تعقد المؤتمرات العربية والإسلامية لأجلها وقبل أن تعلن عاصمة للثقافة العربية ، وظني أن أكثر القصائد التي كتبت عنها في بداية الألفية الثالثة كتبت عنها بدافع الخوف على ضياعها وضرورة التركيز عليها للحفاظ على طابعها العربي والفلسطيني والإسلامي والمسيحي . ( في القصة والرواية والمذكرات أذكر السواحري وشقير وهنية مثالا )
طبعا ينبغي ألا ننسى أن بعض الأدباء والشعراء العرب ممن يقيمون في المنافي قد تربطهم علاقة روحية بالقدس فكتبوا عنها من هذا المنطلق ، هنا أعني الأدباء والشعراء ذوي التوجه الديني ، ومع ذلك فقد كان هؤلاء نادرين قبل ١٩٦٧ .
وأنا أكتب عن حضور المدينة في الشعر الفلسطيني لاحظت أن شاعرا فلسطينيا هو المتوكل طه لم يكتب عنها قبل العام ٢٠٠٠ الكثير ، ولكنه بعد هذا العام أفرط في الكتابة إفراطا لافتا ، علما بأنه كان يعمل فيها قبل العام ١٩٨٧ وتيسر له في حينه التجوال فيها بحرية ، بخلاف الفترة التي تلت العام المشار إليه .
في العام ٢٠٠٩ مثلا أصدر المتوكل كتابا أنيق الإخراج عنوانه ” نصوص ايلياء ويبوس ” ، وهو كتاب يجمع فيه نصوصا نثرية وشعرية ، ولكنه في حدود ما أعرف لم يتلق تلقي قصائد درويش وقصيدة تميم على مستويي الإصغاء إلى صوت الشاعر وكتابة دراسات نقدية حوله . لقد كتبت حول قصائد درويش وتميم دراسات عديدة . ومع ذلك لم يتوقف المتوكل في الكتابة عن القدس ، إذ عاد وخصها بقصائد جديدة كلاسيكية البناء ومنها قصيدة ” القدس اسم عاشقة ” وقصيدة ” القدس مطلع عيدنا ” ، ولكن عبثا اشتهرتا اشتهار قصيدتي الشاعرين المذكورين وحظيتا بدراسات عديدة من دارسين مختلفين ، علما بأن محمد حور قال عن المتوكل في كتابه ” تجليات القدس في الشعر المعاصر ” بأنه كان في الأولى مختلفا عن بقية الشعراء ( صفحة ١١٨ ) .
يستطيع القاريء أن يتأكد من آرائي التي أذهب إليها بالعودة إلى ما كتب من دراسات أو متابعة الفيديوهات التي تشاهد ويصغى إليها بصوت الشعراء .
هنا يجب البحث عن السبب : أيعود إلى أسبقية الكتابة أم إلى جماليات القصيدة أم إلى صدور الكتابة عن تجربة أم إلى قدرة صاحبها على الإنشاد أم إلى كاريزما الشاعر أو موقف سياسي ووطني منه ؟
إن عدنا إلى كتاب عبدالله الخباص ” القدس في الأدب العربي الحديث في فلسطين والأردن “(١٩٩٥) فسنقرأ إحصائية بأسماء عشرات الشعراء الذين ذكروا القدس في قصائدهم ، وقد أضفت إليهم شعراء آخرين كتبوا بعد انتهاء الخباص من دراسته ، وأضاف إلى الدراستين محمد حور في كتابه أسماء جديدة ذكرت القدس في قصائد كتبتها بعد ١٩٩٨ .
صارت الكتابة عن القدس مفرطة لدرجة لا نلوم فيها من يكرر أسطر محمود درويش في العام ١٩٧٣ :
” يا أيها الشعراء لا تتكاثروا
ليست جراحي منبرا ” .
لعلني مخطيء !!
الكتابة تطول والمساحة محدودة

* عن الأيام الفلسطينية

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *