(ثقافات)
من يقرأ ديستويفسكي اليوم..؟!
يحيى القيسي *
أنتمي إلى الجيل الأدبي الذي ظهر في بداية التسعينات من القرن الفائت، وقد تعرفنا مباشرة إلى ثلاثة أجيال على الأقل من الذين سبقونا في عالم الإبداع والثقافة، كما نحن اليوم نتجاور مع أدباء الألفية الثالثة بكل سلاسة وألفة .
لقد وعينا على كتّاب سابقين ونقاد لا يجاملون في رأيهم بالكتابة والجيل الجديد حينها، ليس بدعوى “قتل الابن” والإلغاء بل لأجل النصيحة، فكلّ كاتب شابّ كانت تلقى عليه دائماً تلك القاعدة الذهبية “إقرأ كثيراً . . واكتب قليلاً” وكان علينا أيضاً أن نخضع لاختبارات فجائية أمام أدباء آخرين من نوع:
“هل قرأت ماركيز؟، “لا تحاول الكتابة قبل أن تهذب لغتك بقراءة كتب الرافعي”.. “لا تستعجل بالكتابة”، وابدأ أولاً بقراءة نجيب محفوظ، ” كلّ القصاصين خرجوا من معطف غوغل، اذهب واقرأ كتبه، ولا تنس دوستويفسكي، وتورغنيف، وليرمنتوف، وبوشكين .
“تريد أن تصبح شاعراً ولم تقرأ رامبو، وطاغور، والمتنبي، والسياب، ودنقل، ودرويش . . .؟!” .
كانت القراءة المكثفة بالدور على تلك الكتب تأخذ منا وقتنا وجهدنا، لكنها في المقابل كانت تمنحنا الكثير من الثقافة والمعرفة وسعة الاطلاع، لا بل إن المجتمع الأدبي حينها كان يتقبل المثقف كثير القراءة أكثر من تقبله لكاتب ضعيف الإبداع وقليل النشر، وكان الواحد منا يشعر بالخجل والنقص إذا ما ذكر اسم كاتب عربي أو عالمي لا يعرفه، أو لم يقرأ بعض كتبه على الأقل، وهكذا بدأت جيوبنا “الفارغة تقريباً” تذروها الرياح بسبب اقتناء الكتب والمجلات الثقافية أولاً بأول، إضافة بالطبع إلى التبادل والاستعارة، لا بل إن بعض الأصدقاء من الكتّاب حينها كان يضع لافتة على مكتبته البيتية “الاستعارة ممنوعة . .الرجاء عدم الإحراج”، وكان إخراج كتاب منها مسألة في غاية الصعوبة، وبالتالي كانت المكتبات العامة ملجأ عظيماً للكثيرين .
وما زلت أذكر أن نقاشات كثيرة دارت بشأن الكتب في صيدلية الروائي والتشكيلي محمود عيسى موسى، ومختبر الأسنان للأديب هاشم غرايبة، والعيادة النسائية للشاعر الراحل إبراهيم الخطيب، ومحل بيع الملابس المُستعملة “البالة” للشاعر أحمد الخطيب وذلك نهاية الثمانينات وبداية التسعينات في مدينة إربد، ثم لاحقاً في منزل المفكر الراحل فايز محمود، ومكتب الروائي الراحل مؤنس الرزّاز في وزارة الثقافة، إضافة بالطبع إلى مكاتب المُحرّرين الثقافيين في صُحف الرأي والدستور وصوت الشعب..، وأيضاً ردهات رابطة الكتاب الأردنيين في جبل اللويبدة .
واليوم يلتقي الواحد منا عشرات الشعراء والروائيين من الجيل الجديد سواء في الواقع الحقيقي أو الافتراضي، ويبادرك كثير منهم بالقول “الأخ كاتب كما يبدو . . .؟!”، وليس مُهمّاً ألا يعرفك بشكل شخصي، ولكنّه على الأغلب لم يقرأ لك كتاباً، ولا حتى أيّ مقال عابر، ولم يسمع ربّما باسمك أبداً، فما بالك بجهابذة الإبداع العربي والعالمي من الأسماء الراسخة التي لم يسمع بها أيضاً، فإن بدأت النقاش معه حول قراءاته لا يكاد يعرف غير أبناء جيله، ولا أريد أن أجعل الأمر عاماً رغم أنّه يبدو لي كذلك إلا من رحم ربّي من الكُتّاب الشّباب المُشتغلين على أنفسهم بالقراءة المُكثّفة والبحث عن المعرفة، فمن كان منكم له رأي آخر فيما ذهبت إليه فليدل بدلوه، فلا أريد أن أظلم أحداً ..!
أقول كل ذلك لشعوري بأنّ هناك استسهالاً فظيعاً في مسألة الكتابة هذه الأيام، وبالتالي فإنّ الكتب الضعيفة التي صارت تُفرض على القرّاء يومياً ويجري لها حفلات توقيع وترويج تكون غالباً نتاجاً لقراءات ضحلة، وكثيراً ما تعرضتُ إلى نقاشات حول القراءة فإنْ ذكرت للواحد منهم اسم كتاب أو كاتب معيّن، قال لك: هل لك أن تُزودني به، أي يريد المعرفة المعنوية والمادية معاً من دون أن يبذل جهداً حتى في شراء الكتاب أو البحث عنه، وكثير منهم يعتمد على قراءة مقتطفات لكاتب معيّن أو الاطلاع على سيرته او مقالات عن أدبه عبر الإنترنت، ويكتفي من الغنيمة بالإياب .
لا يتعلق الأمر اليوم في القراءة لعيون الأعمال الأدبية كما ضربت أمثلة من قبل في هذا المقام فحسب، بل ماذا عن الفلسفة، وعلم النفس، والفكر، والفنون، وحتى العلوم الحديثة التي أصبحت تساهم في تغيير البشرية بشكل يومي وشامل، وماذا عن مشاهدة الأعمال التشكيلية والمنحوتات والأفلام السينمائية، فمن يرضى بنفسه أن يقدم الجديد للبشرية عبر إبداعاته الشعرية والسرديّة لا بد أن يكون عميقا ومتأملاً ، فما تزرعه من القراءة والتأمّل تحصده في نصوصك، وكم من الزرع لا يستقيم طويلا، تذروه الرياح كالزبد لا يمكث في الأرض ولا ينفع الناس، بل ولا يسبب لهم حتى لذة القراءة وغبطة المعرفة …..!!
-
روائي وباحث أردني يقيم في بريطانيا