«زهر القطن» التي ضاقت بها أرضها
إبراهيم عبد المجيد
خليل النعيمي كاتب اختار لنفسه متعة الكتابة ولا شيء بعدها. لا يسعى إلى جوائز ولا لقاءات إلا نادرا، وليس عنه في الغالب، لكن في قضايا عامة. كتب حتى الآن عشر روايات منها « الرجل الذي يأكل نفسه» و«الشيء» و«الخُلعاء» و«دمشق 67» و« قصّاص الأثر». هو في الأصل ابن بادية الشام. ترك البادية والشام ليعيش في باريس منذ سنوات الشباب. يبدو أن البداية في البادية جعلته كثير الترحال في بلاد الله يكتب عنها، وله فيها خمسة كتب منها «كتاب الهند» و«الطريق إلى قونية» وأتاحت له السوشيال ميديا أخيرا أن ينشر بعض صور له في حله وترحاله. هذه الرواية نشرتها مؤخرا المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت.. عنوانها «زهر القطن» وليس زهرة القطن، لكنك حين تصل إلى نهايتها، أو قبل ذلك حين يدخل بالرواية إلى دمشق وجامعتها، تعرف أن الحديث عن الزهر يمكن ببساطة أن يكون عنه هو. صحيح أنه ظهرت زهرة أخرى يسميها بحرف واحد هو «سين» ويمكن مع النهاية إذا كنت تعرفه أن تدرك أنها ربما تكون الكاتبة سلوى النعيمي رفيقة الرحلة والحياة، وربما تأتي رواية أخرى في ما بعد عن بقية الرحلة.
أنت مع الرواية كقارئ عادي لا تشعر بأنها سيرة تخص شخصا واحدا، ولا حتى مجموعة شخصيات، هي في الحقيقة خلت من كل ما يميز السيرة من أسماء، أو أحداث حقيقية، لكن الإشارة إلى «سين» تجعل من يعرفه وسلوى النعيمي يقول إنها رحلته. خليل النعيمي في رواياته مشغول بالبادية دائما أكثر من غيرها. وهنا تأخذ البادية أكثر من ثلثي صفحات الرواية، التي تبلغ مئتين وستين صفحة.
خليل النعيمي مشغول ككاتب كبير ببناء الرواية وشكلها، كما هو مشغول بموضوعها. شكل الرواية الذي يساهم في فهم موضوعها عنصر أساسي يدرك هو شأن كل مبدع كبير أن للبناء الفني أهميته الفكرية أيضا، بل هو معنى الكتابة الحقيقي. عرفت ذلك في كل أعماله منذ قرأت الرواية القصيرة «الخلعاء» التي كانت تقريبا عبارة واحدة لا تنقطع. في هذه الرواية التي بين يديّ كما قلت وتقع في مئتين وستين صفحة أول ما لفت انتباهي هو تعدد فصولها الذي يصل إلى اثنين وسبعين فصلا. هذا عدد كبير جدا من الفصول قياسا على صفحات الرواية، لكنك حين تقرأ تجد كل فصل تقريبا عن مكان أو نبتة أو شجرة أو حدث عابر أو مؤثر، أو عن لحظات من الزمن لشخصيات الرواية التي يلعب فيها الطفل الدور الرئيسي، بعد أن يأخذ الأب والأم كثيرا من الصفحات في البداية.
الأسرة التي تنتقل من البادية إلى مكان جديد يقف عند كل ملمح منه. من أهم ما يقف عنده هو الحكايات وكيف أن الطفل يريد أن يحكي كما يحكي الكبار، ومن ثم فالرحلة كلها للحكي وكيف يصل إليه. يقدم خليل للرواية في ثلاث فقرات، الأولى لتشارلز داروين، والثانية والثالثة ليستا لأحد، لكنك حين تقرأ الرواية تعرف أنهما له من سياقيهما ولغتهما. الفقرة الأولى تقول، «بينما يظل هذا الكوكب يدور طبقا لقوانين الجاذبية، كانت وما زالت تتطور، من مثل تلك البداية البسيطة، صورة لا نهائية من الحياة، غاية في الجمال وفي العجب «الفقرة الأولى كما قلت لتشارلز داروين من كتابه أصل الأنواع، وما أن تقرأ حتى تجد الكاتب يقدم إليك من البدايات البسيطة، صورا لانهائية من الحياة غاية في الجمال والعجب، ليس لأنه كاتبها فقط، لكن لأن المكان والزمان هما الباعثان عليها، بما فيهما من بشر وأشياء. المكان يتجسد في البادية، حيث الأب والأم والابن الصغير. مشاعر الأب والأم التي يدركها كل منهما في الآخر قبل أن يسأله أو يعترف له. الوقوف عند العادات من النبات إلى الحيوان إلى الطعام إلى الغرام، وشطحات الأب ذات مرة مع امرأة أخرى، لكن وسط ذلك يسمع الطفل حكايات ويريد أن يحكي مثلهما. رحلة طويلة مع المكان بكل مفرداته البدوية، حتى يقرر الأب أن يتعلم ابنه ليحكي، فندخل في رحلة مع مكان آخر على تخوم المدينة، فيه أشجار القطن البيضاء التي يأتي ذكرها أول مرة، في وصف الأم البيضاء كنبتة القطن وسط الصحراء.
رواية حافلة بالخيال الذي يجعل البادية حلما ضائعا. يمكن أن يقول قارئها، خاصة إذا كان يعرف خليل النعيمي أنها سيرة، لكنها في الحقيقة سيرة التناقض بين البادية بأشجارها وناسها وفطرتها في كل شيئ، والمدينة بالحُكم الذي يحدد للناس خطواتها.
تنتقل النبتة، دون أن يصرح بذلك في ابنها الذي سيترك الأرض هذه المرة، بعد أن تعلم في المدرسة، ثم التحق بالجامعة في دمشق، في الفصول الأخيرة من الرواية. مع كل فصل يتنوع الكلام واللغة، ويأتي خليل بخلاصات وعبر وعبارات نهائية في الوصف والتفسير بنت المكان والزمان، وتأمُّل أهل البادية، فيتحقق ما قاله داروين في الفقرة الأولى، خاصة أن العجائب ستصل أن يترك الشام كله، مدنه وباديته. تتذكر الفقرة الثانية وهي «تاريخ الكائن متعدد الأبعاد. ما يحكيه لنفسه وما يحكيه للآخرين وما يفعله» في طريقك إلى النهاية حيث الفعل الأخير بعد الحكي، وهو الرحيل. وتأتي الفقرة الأخيرة «لا علاقة بين اللغة والحقيقة، ولا بين الحقيقة والأشياء. الحقيقة صيغة ذهنية محضة» وأنت تراه في السفينة مترددا بين الرحيل والعودة، لكن يتم إغلاق أبواب السفينة وتتحرك بمن فيها، وتكتشف أن ما استقر عليه ذهنه من المغادرة هو الحقيقة، رغم جمال كل ما مرَّ عليك من حقائق في البادية، وغرابة ما مرَّ عليك في المدينة دمشق، حين وجد نفسه لأول مرة مع شخصيات من مذاهب فكرية مختلفة، ليس كما كانوا في البادية ابناء للطبيعة، رغم اختلاف الحكايات. الفصول الأخيرة في مواجهة الفصول السابقة رغم تتابعها، فتعرف أن الطريق منذ البداية ليس مجرد رحلة للرحيل، فلم يأت لجامعة دمشق كي يتركها، لكنه وجد، دون أن يقول مباشرة، أن الحياة السياسية هي الغالبة، مهما اختلف الناس في أفكارهم، ومن ثم يتعرض لتحقيق سياسي عن ديوان شعر لا نعرف تفاصيله، لكن نعرف أن من سمح بإصداره، فهناك رقابة على الكتب، سيتعرض للمحاكمة. تم إطلاق سراحه هو، لكن الطريق انفتح أمام عينيه إلى بيروت، التي زارها من قبل مرة واحدة، ومن بيروت يركب سفينة الرحيل.
يلتقي بـ«سين» وينتظرها، الفتاة الجميلة التي يهتز جسدها وهي تمشي بمشاعرها، ويتم اللقاء فتشعر بأنهما سيلتقيان من جديد خارج البلاد. لا يقول لك باريس، وليس مهما أن تعرف، لكن يظل في روحك روعة البادية وأهلها ونباتاتها وقمرها وشمسها ورياحها وترابها، وعقم السياسة التي لا يتحملها قلب شاعر، وليس مهما إذا كان قد كتب الشعر يوما أوغيره، فأنت مع رواية وليس سيرة. رواية حافلة بالخيال الذي يجعل البادية حلما ضائعا. يمكن أن يقول قارئها، خاصة إذا كان يعرف خليل النعيمي أنها سيرة، لكنها في الحقيقة سيرة التناقض بين البادية بأشجارها وناسها وفطرتها في كل شيئ، والمدينة بالحُكم الذي يحدد للناس خطواتها. هو زهرة القطن الغريبة بلا شك و«سين» الزهرة الأخرى، وكان لا بد لزهر القطن أن يبحث عن سفينة للرحيل ليزهر في مكان آخر. لم يعد ابنا للطبيعة مثل الأم ليبقى فيها، لكنه صار ابنا للحقيقة التي صاغها ذهنه وتعليمه عن البلاد.