في النص ما يكفي من ذكاء
لمحة عن كتاب “ليس في النص ما يكفي من جسد” لتسع كاتبات أردنيات
سامر حيدر المجالي
“الكتابة فعل صمود لنتمكن من ركوب الأمواج بمرونة، لنميل مع كل موجة دون أن نقع، ونعلو مع كل انحسار دون أن نغتر، لنقاوم اليأس بعد كل تلك التفاصيل المكررة، المملة والمؤلمة، في حياتنا كنساء، لننظر في عين الشمس، وعيوننا تحرقنا من ملح المحيط، لنقول: أنا ما زلت أحاول، إذن أنا موجودة”.
هذا ما يرد في خاتمة “ليس في النص ما يكفي من جسد”، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في العام 2025، وهو عمل مشترك بين تسع كاتبات أردنيات قررن الكتابة عن الجسد إثنوغرافيًّا؛ أي بوصفه علاقة متبادلة بين الفرد ومحيطه الاجتماعي والثقافي. يعيدنا هذا المنهج المتَّبَع إلى سوسيولوجيا دوركايم الذي رأى أن الجسد هو “عامل الانفرادية” الذي تنمذجه التحولات الاجتماعية والثقافية ليعبر عن المرجعية الرمزية للمجموعة، أو -تجاوزًا لدوركايم- للمرحلة كما يحدث في عصر ما بعد الحداثة.
إنها جدلية إذن بين فرد ومجموع، والمساران متاحان. هناك جدلية أخرى هي الثنائية الواردة في العنوان (نص/ جسد) والتي شغلت جزءا لا بأس به من الكتاب. النص كتابة ضرورية، بيد أن العلاقة ملتبسة؛ فمتى ما تعلَّق الأمر بالجسد شابت الضرورةَ رغبة في التحدي أو مهابةٌ أو مخافةٌ؛ وربما إحجام بسبب “كلفة الانفصال عن النظام السائد”، ومن ثم سيقت للكتابة مبررات في غير نصٍّ من نصوص الكتاب.
تخبرنا المحررة أننا بين حدَّين: غياب عن الكتابة هو في حقيقته حضور؛ إثر انسحاب كاتبة عاشرة، وحضور صارخ لم تحدثنا عنه لكنه بدا واضحًا في نصها الوارد ضمن نصوص الكتاب.
مثلا، الاقتراب من الجسد هو اقتراب من “أغوار مخفية ومخيفة في الآن ذاته” هذا ما تراه تغريد أبو شاور التي تخوض التحدي حاملة نفسها والمجتمع معها إلى النص، شاهرة في وجه المجتمع الذي دجَّن المرأة لغةً حادة. التدجين قتلٌ لا سيما إذا جاء من النساء أنفسهن في “جلساتهن الوبائية” التي يُرحن بها “أدمغتهن الطحلبية”! تخبرنا الكاتبة أنها أحجمت عن أن تكون أمًّا بسبب رفضها لواقع المرأة الذي تراه أمامها، وخاضت معركة فُرضت عليها مع اضطرابات غدتها الدرقية، ثم انتهت بعد طول معاناة إلى أن جسدها الأربعيني هو “مكمن الجمال الإنساني” الأسمى من كل رغبة ونشوة ونزوة.
والجسد مركز الألم.. الألم أيضا عنصر هامٌّ في هذا الكتاب، ألم مُوظَّف في اعتزاز الأنثى بنفسها وتحويلها -ربما- إلى كائن خارق. مرَّت بالألم تغريد أبو شاور لكنْ توقفت عنده مطولا يارا زريقات؛ ألم الدورة الشهرية وأكياس الشوكولاتة الذي تكرر كما العود الأبدي؛ كأنما هو قدر للمرأة وطبيعةٌ فيها يتناسل معها من جيل إلى جيل. إنه مرآة لما هو أعمق من أسبابه البيولوجية، الألم يكمن في روح المرأة ويولد من معاناتها ورهافة حسّها ويثمر؛ فالمرأة -بحسب يارا زريقات- فنان بالفطرة، الأمهات والجدات وجدات الجدات، من الألم يولد الجمال والحلم، وفي داخل كل امرأة فنان كبير ينتقل من جيل إلى جيل، وكل إبداع إنما هو تعبير عن موروث ارتحل من محطة إلى محطة حتى وجد طريقه إلى الظهور.
في “ورطتها” حين تكتب عن الجسد (ما زالت الكتابة شأنًا مهيبًا) تعاود دانا جودة طرح فكرة الألم الذي يخرج من الداخل، بيد أن الجسد عندها فكرة وجودية، والولادة بداية للطفل والأم -ستعاود أسيل فاخوري وعلا خليل طرح هذه الفكرة-، كلاهما يولد على هيئة جديدة تصيب المرأة بالارتباك. “اكتئاب ما بعد الولادة” هو هذا الارتباك الذي تعيشه المرأة في لحظتها الوجودية الجديدة. والجسد كذلك علاقة مع العالم، أوركسترا تقودها المرأة فتتعدد الوجوه التي يظهر بها الجسد أمام الناس. ما تتحدث به دانا جودة هنا يحقق ما يسميه دافيد لو بروتون “واقعية العلاقة بالعالم الخارجي”.. هذا غير مختص بالمرأة وحدها بكل تأكيد؛ الإنسان عامَّة كذلك، ولكل جسد أنشطته الإدراكية وطريقته في التعبير عن المشاعر وتفاعلاته مع الآخرين. -وبحسبها- ولأن الجسد يحمل معه تطورات الروح فإنه يصبح حاملا للكينونة. علينا أن نستحضر روح هيدغر هنا.. الجسد يوجد “في العالم”، يعبّر عن نفسه، يتطور ويثري الكينونة، ويتفاعل مع محيطه، ويعزف الأوركسترا الخاصة به.
تشير أسيل فاخوري إلى ضرورة الحذر من تلك الكتابة التي تغيّب الجسد حين تغرق في روحانيتها، الكتابة تستطيع خداعنا إذن! عندئذ يبقى الجسد في الهامش، بل مطرودا منه، تبدو الحاجة ملحّة عندها لتفويه الجسد والتعبير عنه. يتحول الجسد الذي تتجاهله الكتابة إلى قفص يحد من حرية المرأة، ربما لأن الناس أعداء ما يجهلون، لذا تُدشّن حوارا مع الجسد، تكتب “له” وليس “عنه”، تمتزج بالسماء، بل تصبح السماءَ نفسَها عند ولادة طفلها، ومن ثم تتحقق جنسانيتها التي تجعلها فخورة بجسدها المشارك في كينونتها؛ فـ”أجسادنا ليست مرآة لنا، هي ببساطة جزء منّا”.
تقرر ضحى أبو الزيت أن تواجه الجسد بآلامه وأمراضه.. ما زال الألم سيد الموقف! كان مستوى الألم عاليا هذه المرة، فأثمر ذلك مواجهة أجبرت الكاتبة على العودة إلى جسدها. للألم سطوة لم تستسلم لها الكاتبة فخاضت صراعاتها التي خرجت منها منتصرة وقادت نفسها إلى تجويد حياتها وتحقيق نمائها الشخصي. يمكن القول إنها خضعت لسطوة الألم أولا، ثم استثمرته، واغتربت عن جسدها برهة واصفة إياه بأنه “لم يعد يشبهني ولا يسعفني أن أكون من أريد”، ثم تجاوزته في محاولة لتحييده حين لم يعد صورة تعبر عن جوهرها، ثم تقبلته وتصالحت مع ذاتها واعدةً جسدها بالاستماع إلى إشاراته واحترام ألمه وضعفه.
بالألم نعود إلى الجسد. ظهر الألم في حياة رنيم أبو رميلة وهي ما تزال في الحادية عشرة من عمرها فعادت إلى جسدها وانتقل إدراكها نقلة نوعية شعرت بسببها أن الطبيعة تحمّلها أدوار بطولة لم يكن لها رأي في اختيارها.. هناك شعور أنثوي طاغ يتوارى خلف هذه الكلمات، بل نوع من الاعتداد بالأنوثة وما تلعبه من أدوار مع هذا الجسد المتألم. رغم ذلك، ترى أبو رميلة أن هوية الأنثى الجسدية مستباحة والمجتمع يختزل الأنثى في جسدها ويطبق أحكامه عليه. الجديد في كلامها، واللافت جدا، رؤيتها أن الجسد مستباح من الأطياف جميعها؛ تلك المحافظة وتلك التي تدعي الانفتاح، كلا الطرفين ينمذج الجسد بحسب رؤاه/ تفضيلاته/ أيديولوجياته/ أفكاره، كلهم يختزلون الجسد منتجين أنثى أحادية الهوية ليس لها عمق ولا أفق تسير باتجاهه. وتقرر بمنتهى الوضوح أن “التحرر والتخلف، الشرف والعهر، لا يمكن اختزالها في الجسد”.
تخرج علا خليل على مألوف هذا الكتاب، فتعلن أن اللامبالاة شكّلت تاريخ علاقتها بجسدها رغم المجاهر التي كانت دائما مسلطة عليه، لكنها -وبحسب ما يمكننا استنتاجه من النص- لا مبالاة عن سبق إصرار ووعي. وقد أخذت الكاتبة بيد قارئها إلى هذه النتيجة بمنتهى الذكاء محدثة لديه ما يشبه الصدمة؛ إذ تحدثت طويلا عن سيرتها الذاتية وعملها وأمومتها دون أن تشير إلى موضوع الجسد أدنى إشارة، ثم انعطفت نحو الموضوع انعطافة مفاجئة بينت فيها كيف عادت إليه واكتشفت ما انتابه من تغيرات حين قررت العودة إلى استئناف حياتها العملية؛ تلك المرحلة التي شارفت فيها على الأربعين فأدركت ما حلَّ بالجسد من تغيرات قد لا تمكّنه من الوفاء بما كان قادرا عليه قبل ذلك. لم يكن الألم جزءا من علاقة علا خليل بجسدها، بل نظرت إليه دائمًا -حتى حين اكتشفت نقصه- من أفق عقلي وروحاني، نظرت إليه وظيفيًّا في ماضيه وفي حاضره أيضا بعد أن أدى مهامه البيولوجية المتعلقة بالحمل والإنجاب.
لماذا ذلك؟ رأت الكاتبة أن العقل والروح في تناقض مع الجسد، وحاولت دائما أن تشعر بعقلها عبر التحرر من إرهاصات ذاك الجسد، لكنها لامت ثقافة ترى أنه لا يمكن الجمع بين الشعور بالعقل والجسد معًا. هنا يظهر نضوج الكاتبة فقد باتت أقرب إلى المبالاة دون أن تتخلى عن أولويتها العقلية؛ نبهت إلى “الانقسام المزيف” الذي لا يعترف بحد وسط بين الاحتمالين، أي العقل والجسد، وحذرت كما حذر زيغمونت باومان من الثقافة الاستهلاكية التي تروّج للجمال الاستهلاكي وأنماط الحياة الزائفة التي تبثها التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي؛ أي من تلك الحالة التي تُكسر فيها القواعد الطبيعية فيصل الجسد إلى ما لم يصل إليه من قبل. أشارت إلى أهمية الدورة الشهرية في كونها أولى الخطوات التي تمكن المرأة من اكتشاف جسدها، ونبهت إلى أن خصوصية جسد المرأة تظهر في كشفه؛ ما يؤكد أن جسد المرأة حالة استثنائية، ويتركنا مع هذا النص وسط أسئلة تتوالد.
شعرت آلاء جانبك بجسدها منذ وقت مبكر بسبب طولها والشعر الذي ظهر على ساقيها. انتابها الضيق أولًا؛ إذ من المؤكد أن المجتمع سلَّط عليها مجاهره، لكنها عادت وتقبَّلته. عاشت طفولتها وسط الطبيعة فتناغمت مع الكائنات، وطوعت جسدها كي يكون جزءًا من تلك الطبيعة الفاتنة. بعد سن الثامنة شعرت بتغيرات حقيقية، صار جسدها أنثويا، خسرت سجيتها الأولى فرفضت هذه التغيرات إلى حين، وحلت لحظة المواجهة مع الدورة الشهرية؛ مع آلامها وسطوتها، لكنها تمكنت من تجاوز ألم الدورة، وقررت تحويلها إلى ظاهرة طبيعية تبدأ من المحيط وتعود إليه. لقد شكل توقها للطبيعة جزءا من شخصيتها الجسدية، فنجحت في دمجه بالطبيعة خلال مراحلها العمرية كافة.
مع مريم الدجاني سننظر إلى أخص شؤون المرأة من زاوية جديدة.
تخوض الكاتبة مواجهة عابرة مع الألم، كانت إبرة مطعوم، تجاوزتها سريعًا لتشرع في رحلة مع جسدها وتكتشف التباينات التي تنشأ بين حاجاته ومتطلبات المجتمع. كانت الدجاني شديدة الإحساس بجميع تفاصيل جسدها وتغيراته ما جعلها تقول: “تاريخ جسدي هو تاريخ وجودي”. وبرغم إيمانها بأن القيمة كلها تكمن في العقل، ورغم ما انتقل إليها من موروث يرى الجسد عبئا تجب تغطيته، إلا أنها اهتدت إلى المصالحة بينهما، وإلى اكتشاف دور العقل خلال النشاط الجنسي للمرأة؛ إذ يمكّنها العقل من تحقيق لذتها الخاصة بها، لذة شخصية لن يفهمها الرجل الأقل تطورًا في هذا الشأن. إنها إحساس يجتاح الجسد بأكمله، يهرب من القيود والبيولوجيا إلى بيولوجيا أرقى فتتحقق ثنائية العقل والجسد على أكمل وجه.
ثم تقرن هذه اللذة بلذة الكلام التي هي أيضا لذة حسية تجتاح الجسد بأكمله، وربما نال الكلام من محاولات الكبت ما نال الجنس، فمنع المرأة من الكلام هو منع لها من حق طبيعي يشي بالخطورة وتهديد مراكز القوى، تماما كما يحدث عند ختانها؛ فالفم يُختن أيضا، وفي هذا سلب للحق وطمس للوجود.
…
كانت فكرة الكتابة في حد ذاتها إشكالية في هذا الكتاب؛ ربما لأن الأنثى ما زالت محاصرة بمجتمع قد نمذَّج الجسد وألبسه رؤاه الخاصة، وبين إقدام وإحجام استطاعت النصوص جميعها أن تستثمر الكتابة في تقديم تجربتها الخاصة، ثم جاء النص الأخير لمريم الدجاني ليذهب إلى أبعد نقطة ممكنة في تحدّيه للنسق الثقافي المهيمن.
سيطرت الثنائيات على النص (جسد/ نص) (فرد/ مجتمع)، لكن برز الألم فردًا. الجسد كينونة منتجة للألم، وباعثة لمواهب المرأة ولها انعكاس على الروح، حتى في غياب الألم -كما في نص علا خليل- بدا حاضرا؛ لأن الغياب تمّ عن سبق إصرار ووعي.
جماليات النصوص عالية، وفيها كثير من الأفكار المبتكرة: المرأة التي تتحول إلى سماء عند الولادة، المرأة الفنان بالفطرة، تفويه الجسد، سيرورة العلاقة مع الجسد كما عند ضحى أبو الزيت، والكائن الأنثى الذي تطور عن الإنسان.
في الكتابة منهجية لا يخطئها القارئ؛ تقدم الكاتبة نفسها أولا ثم تشرع في الحديث عمّا تشاء. كثير من الكاتبات اخترن أن يقدمن أنفسهن بطريقة غير نمطية، أشارت كل واحدة إلى خصوصيتها. هناك اعتداد واضح بالنفس عند كل كاتبة، وتنصل من المشابهة أو التكرار. قبل ذلك هناك اعتداد بالأنوثة نفسها واستثمار لفكرة الألم في الصعود بالأنثى وجسدها إلى مقام عالٍ. هذا يحسب لهن، لا سيما أمام موضوع إشكالي وتحدٍّ كهذا.
كانت اللغة كذلك منضبطة، وبرز الطابع الأنثوي في بناء العبارة واختيار المفردات.. بالمناسبة، قلت في مناسبة سابقة إن كتاب “ألف ليلة وليلة” كتب بيد أنثى أو مجموعة من الإناث، هذا ما يدركه أي محرر متمرس، وهو ما ينطبق على هذا الكتاب بكل تأكيد.
- عن الرأي الثقافي
ثقافات موقع عربي لنشر الآداب والفنون والفكر يهتم بالتوجه نحو ثقافة إيجابية تنويرية جديدة ..!