قراءة في رواية “أيّام الخُبز” للكاتب مطر محمود مطر

*ثقافات – سامر حيدر المجالي

أولاً: ولوج إلى الرواية

“الخـبز ليس أرغفة تُباع وتُـشترى، ويلتهمها الناس بشـراهة، إنّه شيء يشبه الخوف المزروع في فطرة الإنسان، إنّه أفيون الوجود..”

حين قال هذه العبارة، كان “حسن” بطل رواية “أيام الخبز” قد بدأَ يولد من جديد، ولا عجبَ في أن تصقل تجارب الحياةِ شخصيّاتنا، لكنّ الأمر مع “حسن” كان فيه حِصة لا بأس بها من الدراما؛ فهُو القادم من غربة طويلة، الذي ظنَّ أنّه قد أنجز القِسط الأكبر من واجبه في الحياة وعاد ليستريح. “حسن”، بدا ساذجاً؛ سذاجةَ كلّ مغترب راهن على أنّ وطنه مُحصّن ضدّ تقلبات الزمان، وأنّ ذكرياته ما زالت تنتظره عند المنعطفات نفسها التي شكّلت فهمه لكلمة وطن، وأنّ بلادَه باقية على العهد الذي كان بينه وبينها، يوم خرج منها باحثاً عن نفسه، وعن لقمة عيشه.

ولأنّ الأمر كذلك، تحوّل “حسن” في غمضة عين من شخص مُسالم إلى شخص حراكيّ، يعتصم في الساحات، ويركض في الأزقة هارباً من المطاردات الأمنيّة. لكنّه أدرك بعد ذلك أنّ ولادته تلك كانت خروجاً من شرنقة ووقوعاً في فخ في آنٍ معاً. لقد صار حراكيّاً بالروح القديمة نفسها التي لم تدرك عناصر المعادلة؛ فأصرَّت تلك الروح على أن ترى الكالح ورديّاً، وانساقت وراء العواطف الجيّاشة، وصدّقت ملامح الوجوه التي كانت تُسرُّ غير ما تعلن. فخرج من نضاله الحراكيّ صفر اليدين؛ بدون مال بعد أن غامر بجنى غربته في استثمار غير مضمون، وبدون سمعة؛ فقد لفظه الحراكيّون بعيداً عنهم، وأصدروا بيانات خوّنوه فيها، واتّهموه بما لم يكن فيه.

على أنّ “حسن” كان فيه كذلك، قبل ولادته الجديدة، شيء من تلك الشخصيّات المحايدة وغير المبالية، التي لا تتحرك من تلقاء ذاتها، وإنما تنتظر تيّار الحياة كي يحرّكها معه كل مرة إلى النهايات التي لا تُشارك في صنعها. ولأنّها شخصيّات من هذا النوع فإنّه يصعب توقُّع مسارها. لكنّ “حسن” افترق لاحقاً عن تلك الشخصيات، بفضل الخبز، الذي بصّره بأولويّاته ونقله إلى مجال المبادرة. لقد أبحر مع حلمه الحراكيّ الرومانسيّ أولاً، ثمّ ترك حلمه واقتحم الحياة العمليّة كي يضمن كرامته وكرامة أولاده التي جسَّدها رغيف الخبز، ولا شيءَ غيره.

يقول “حسن” ما قبل الولادة الجديدة:

“لن أقـترب من أيّ تجمع احتجاجي لأنـّني أكره المشاكل، وأكره المعارضات بكلّ أشكالها. أنا إنسان مسالم تربيّتُ على الرضا والحياديّة”.

مع ذلك، تورّط في دور البطولة، ودخل مرحلة الولادة فوصف بطولته عندئذ أنّها كانت “قيصريّة”، وهبطت عليه دون مقدّمات. فلمّا تحقّقت ولادته علِمَ أنّه تورّط بشيء أكبر منه، وارتجف، وكاد ينسحب لولا أنّه أدرك أنّ مسألة الخبز مسألة كرامة، وأنّ “رفع أسعار الخـبز لا علاقة له بالجوع، ولكنّه يرتبط بالخضوع والركوع”.

وهكذا، يلفت السردُ نظرَنا إلى مشكلة شبه عامّة في مجتمعاتنا؛ ذلك أنّنا نستطيع توصيف الأشياء، لكنّنا لا نملك الأدوات ولا الخبرات التي تمكننا من التعامل معها بنجاعة.

ثمّ لـمّا أحسّ بمرارة الحاجة، ووجد أنّه كان كمن يحرق نفسه كي ينير الطريق لشخص أعمى، خاطب صديقه صلاح، الذي ذهب للقتال في سوريا ومات هناك: “مؤلم يا صلاح أن يموت الإنسان من أجل أشياء يؤمن بها، لكنّ المؤلم أكـثر أن يعيش لها”. وأقرّ أنّ الظروف قد أجبرته على الانحناء وترك المثاليّات والأحلام، ذلك أنّه “عندما يتعلّق الأمر بالخبز تنتهي كلّ المبادئ، ويصبح الخبز يبرّر الوسيلة”.

يا له من تغيّر صادم، لكنّ النقيض لم يصل بعدُ إلى ذروة تناقضه مع رومانسيّته الأولى. وما زلنا بانتظار سخطه الذي ظهر حين خاطب بلاده قائلاً: “يا بلاد الشيح ساعدينا –نحن الصامدين- كي نـبرَّك أكـثر، وكي نحبّك أكـثر، فكلّ الحقائق تغـيّرت لما كبرنا، وبقينا أوفياء لا نتغـيّر”. وأخيراً تعدّى الأمر ذلك إلى حدود الانفصال عن مجتمعه وإيثاره مصلحة نفسه قائلاً: “أنا لن أُضيّع نفسي من أجل شعب لا يهتمّ بتضحيات الآخرين”.

بهذا اكتملت ملامح الانتقال من النقيض إلى النقيض.

ثانياً: النَّصُّ ومؤلفه

  1. تماهي الكاتب مع بطل الرواية

إذا كانت تلك سيرة “حسن” فهل يمكن قراءتها بمعزل عن سيرة كاتب الرواية الذي جعل “حسن” فيها شخصيّة مهيمنة على كافّة أجزائها، والذي اختار لها أن تُسرَد على لسان الشخصيّة نفسها بضمير المتكلم “أنا”، فمضت من أوّل كلمة فيها إلى آخر كلمة دون فصل أو تبويب؟

هناك رأي قويّ يميل إلى ربط الرواية بكاتبها ربطاً يجعلها أداة من أدوات التحليل النفسيّ. فقد ذهب كلود ميّار إلى أنّ هناك علاقة قويّة بين الفنّ والتحليل النفسيّ؛ فالفنُّ هو أحد أبعاد هذا التحليل وأحد تصوراته[1]. والأدب بحسب الناقد جان بيلمان “يقدّم وجهة نظر حول واقع الإنسان ووسطه، وحول الكيفيّة التي يدرك بها الإنسان هذا الوسط والروابط التي يقيمها معه”[2]. أي أنّ الكاتب متورط إلى أبعد حدّ في نصّه، إنّه يقيم روابطه مع الآخرين من خلال النصّ إلى درجة لا يمكن معها الفصل بين الاثنين، بل ربما وصل الأمر في بعض الأحيان إلى تماهٍ بين الكاتب وإحدى شخصيّات روايته!

ويمكن لنا أنْ نلاحظ شيئاً من هذا التماهي بين تيسير السبول و”عربي” بطل رواية “أنت منذ اليوم”، غير أنّ حالة مطر محمود مطر، رغم ما أرجّحه من تماهٍ وأوجه شبه كثيرة بينها وبين شخصيّة “حسن”، مختلفة عن حالة تيسير؛ ذلك أنّ مآل البطل الذي صنعه مطر كان المبادرة والقتال، وخلق الخيارات من أجل صون النفس والحفاظ على كرامتها. أما تيسير فجسّد عبر “عربي” ثيمته المكتئبة: “ما لي نفس” التي تحرّكت في الرواية من أوّلها حتى آخرها، وصارت جزءاً من كيان المؤلف، وأطبقت على أنفاسه بعد ذلك وقادته إلى الانتحار.[3] لقد عجِزَ البطل عند تيسير عن إيجاد حلٍّ لمشكلته، بينما كان البطل عند مطر مرناً وقادراً على الخروج من عنق الزجاجة.

هذا الكلام لا يعني تفضيل خيار على خيار؛ فلكلّ رواية فضاؤها وسياقاتها المختلفة، غير أن الذي يهمّنا دائماً هو فهم ذاك المعنى الثاوي في بطن الروائي، الذي يتلقاه القارئ بقصد أو دون قصد من الكاتب.

إنّ الكاتب في “أيام الخبز” شاهد عيان على أحداث واقعيّة بدأت منذ بواكير الربيع العربيّ، وما زالت تنتج نفسها، ربما بصيغ مختلفة حتى اليوم. والتفاصيل التي دارت حول أماكن الاعتصامات، ووجهات النظر المتبادلة، والأساليب الأمنيّة للتعامل مع المعتصمين، وصعود الحراك ثم تقلّص دوره، هذه كلّها أحداث واقعيّة شهدتها الساحة الأردنيّة منذ العام 2011، ونقلها الكاتب لقارئه بتفاصيلها.

لكنّ ما يجعل الأمر على درجة عالية من الذاتيّة وتوظيف البطل كي يتكلّم بلسان الكاتب هو النهاية المغلقة التي انحازت لواحد من الخيارات على غيره. إنّه خيار “لا تُتعبْ نفسك من أجل هذا الشعب”، وإن كان ثمّة أمل فليُترك للأقدار “فربما غداً أو بعد غد، وربما بعد أعوام، سيصل الطريق إلى الأحلام”. لكن أيّ أحلام؟ وهل يحقّ لمن لا يصنع مصيره بيده أن يقول أنّه يمتلك أحلاماً؟

واختيار الحراك متناً للرواية فتح أمامها احتمالات كثيرة فاختار مطر أيسرها، وكانت له طريقته الفنيّة الجميلة في تقديم هذا الاختيار. غير أنّه فتح على نفسه نيراناً صديقة؛ فالرواية أرّخت للحراك، وتناولت واحدة من أهمّ القضايا التي ناضل من أجلها، ثم تغاضت عن التطورات اللاحقة، رغم أنّ زمن الرواية قفز إلى العام 2018. وهذا العام هو العام الذي فرض فيه المعتصمون على الدوّار الرابع إرادتهم وأسقطوا حكومة بأكملها. هذا التغاضي حقٌ للكاتب فنحن في النهاية أمام عمل فنيّ أجاد فيه كاتبه وأبدع. لكنّ النيران الصديقة لا بد أن تصيبه؛ لأنّه يصعب أحياناً على المتلقي أن يفصل أيديولوجيته الخاصة عن الأدب الذي يطّلع عليه. إنّ هذا الأمر ذو صلة جوهريّة بطبيعة الأحداث التي قدمتها الرواية؛ أيْ بالحراك، ومنه حراك إربد الذي هو المتن الذي انطلقت منه أحداث رواية “أيام الخبز”، وكان له في الواقع دورٌ فاعلٌ في اعتصامات الرابع سواء بالمشاركة على الدوّار، أو بالمؤازرة من إربد،كما فعل حراك طيبة إربد على سبيل المثال.

ليس المطلوب في مثل هذه الحالات إطالة زمن الرواية، ولا تعديل أحداثها، لكنْ يمكن تقديم رؤية استشرافيّة تمهّد لشيء قادم. أمّا النهاية المغلقة إغلاقاً تامّاً فلا تفعل شيئاً سِوى أنّها تؤكّد أنّ الرواية كانت شأناً لا يمكن فصل مطر عنه؛ فهو جزء منه، ونقل فيه مشاهداته الواقعيّة التي قدَّمها كما هي، ثمّ أضاف وجهة نظره الخاصة إليها. واختار أنْ يصل ويفصل بالطريقة التي رآها تُحقّق المعنى المحسوم سلفاً، الذي أراد إيصاله للقارئ.

  1. وصف أم رؤية؟

غير أنّ هناك سؤالاً يجب طرحه عند هذه المرحلة: هل غلب على رواية “أيام الخبز” الجانب الوصفيّ، أم أنّ الجانب الرؤيويّ كان هو المسيطر؟

دعونا نقرر أولاً أنّ الرواية عمل فنيّ جماليّ بالدرجة الأولى، وليس مطلوباً من الراوي أن يبتكر حلولاً أو يُقدّم رؤىً، أو يسعى لنهايات سعيدة تهب قارئه الاطمئنان. بل إنّ الأمر على العكس من ذلك، إذ ربّما كانت النهايات غير المتوقّعة سبباً في شدّ انتباه القارئ وتقوية صلته بالعمل الفنيّ، وربّما كان الجانب الفنّي الذي يبتعد عن المباشرة وطرح المواعظ أجدى لخلود العمل وانتقاله من جيل إلى جيل[4]. كذلك ليس على الرواية أن تحقّق وجهة نظر “بلزاك” فتنافس سجل الأحوال المدنية؛ لأنّها في النهاية تخييل ومتعة.

لكنّ الرواية أيضاً صراع ومعاناة. إنّ ما يحدث فيها من تخييل وتوريط للقارئ يهبه معرفة لها مذاق خاصّ، فتتسع المدارك التي ينظر من خلالها إلى موضوع الرواية ويفهم نظام الأشياء ويدرك الظواهر ويعرف أين يتموضع الناس في هذا النسق المعرفيّ[5].

وقد نجح مطر محمود مطر في كلّ الجوانب؛ فهو أولاً قدّم عملاً وصفيّاً من الدرجة الأولى، هذا إذا تحدثنا عن الجانب السياسيّ للرواية. وهو استطاع ثانياً أن يشاكس القارئ، ويقدّم له قناعة براغماتيّة ابتعدت عن المثاليّات والتنظير في تصورها لشكل العلاقة بين المواطن ورغيف خبزه. وهو قدّم ثالثاً، نظاماً من العلاقات البينيّة التي نشأت داخل الحراك، أو ربطت الحراك بغيره من عناصر المجتمع الأردنيّ.

ونقول “قناعة” بدل “رؤية” لأن الكاتب ترك أمر التغيير مبنيّاً لمجهول قد يأتي أو لا يأتي في المستقبل، كما أوضحنا خلال حديثنا عن النهاية المغلقة عنده قبل قليل.

ونجح كذلك في رصد التحولات النفسيّة التي قد تقود أيّ واحد منا إلى تغيير مواقفه، وتلك واحدة من أهمّ سمات العمل الروائيّ؛ إذ إنّه يرصد التغيّرات الدقيقة والتراكمات النفسيّة التي تقودنا إلى التغيير. وهذا الرصد هو حاجة ملحّةٌ في حالتنا نحن بالذات –أعني مجتمعاتنا العربيّة المعاصرة- لأنّ شرائح عريضة في مجتمعاتنا ما زالت تمارس تصنيف وقرطسة الجماعات والأشخاص، ولا تستطيع استيعاب النقلات التي ترافق تجاربنا في الحياة. إنّ اليمينيّ يجب أن يبقى يمينيّاً، واليساريّ يساريّاً، وإذا حدثت نقلة عند شخص ما، سارع خصومه، وربما أصدقاؤه، إلى استدعاء تاريخه، وتذكيره بالذي مضى من شأنه.

وهذا بالطبع مخالف لديناميكيّة النفس البشريّة وتطوّرها. وللعمل الروائيّ قدرة فائقة على تجاوز هذه الحواجز، وعلى شرعنة التغيير، وتوضيح آلياته ونسقه[6]. فشخصيّة “حسن” كانت إحدى هذه الشخصيّات المتغيّرة، التي بدأت مثاليّةً ومناضلة، وانتهت أنانية. وهذا النوع من الأنانيّة يمكن تبريره، لا سيّما إذا تعلّق بواجبات أب نحو أبنائه.

إنّ من أهمّ مقاطع الرواية ذاك المقطع الذي وصف فيه “حسن” سعادته حين عاد إلى البيت بربطة خبز، فكان كالفارس العائد من معركة حقق فيها نصراً مؤزّراً. أو تلك اللحظة التي وصف فيها مشاعره حين وجد أن الدينارين ونصف الدينار التي كسبها من عمله سائقاً على سيارته الخاصة، لا تكفي لسداد جزء يسير من مصاريف بيته اليوميّة. هذه اللحظات كانت ذروة سنام البناء الدراميّ الذي جعل القارئ قادراً على قبول التغير في شخصيّة “حسن”، بل وعلى تبرير الأنانيّة السعيدة التي انتهى إليها حراكيّ كان يجري في أول الرواية وراء مثاليّات.

وفي كلّ الحالات، بنت الشخصيّة نظرياتها الخاصة بها، ورسمت لنفسها الأولويات، وعدّلت مسارها، تارة بقناعتها الذاتيّة حين وجدت نفسها مفلسة تماماً ولا تستطيع تأمين ابسط ضرورات الحياة لأطفالها، وتارة أخرى بما واجهته داخل الحراك من إقصاء وتخوين، ولاحظته فيه من تشتّت وغياب للأهداف.

ثالثاً: المكان الخجول

هل على الروائيّ أن يهتمّ بتفاصيل المكان الذي تجري فيه أحداث الرواية؟

هناك أقوال كثيرة، لكنّ الذي يبدو أقرب للمنطق أنّ للمكان قدرة فذّة على بثّ الروح في الحدث الروائيّ، وثمّة أعمال لا تُنسى كان للمكان فيها روح وأنفاس. أذكر على سبيل المثال: “وداع للسلاح” لأرنست همنغواي، و”1984″ لجورج أورويل، و”دروز بلغراد” لربيع جابر، وسائر أعمال إبراهيم الكوني التي حضرت فيها الصحراء نابضة بالحياة.

بل هناك ما هو أكثر من ذلك في ثلاثيّة نجيب محفوظ، وسنأتي لها بعد أن نورد رأي حسن بحراوي الذي رأى أنّ “المكان ليس عنصراً زائداً في الرواية، فهو يتّخذ أشكالاً، ويتضمن معاني عديدة، بل إنّه قد يكون في بعض الأحيان هو الهدف من وجود العمل كلّه”.[7]

إن التغلّب على المكان هو السمة البارزة لعصرنا الحالي، وما ثورة الاتصال إلا قدرة مضاعفة للذات الفرديّة على الامتداد في المكان. هذا أحد جوانب العولمة، والقرية العالميّة الصغيرة؛ ذلك أن طيَّ المكان والهيمنة عليه منجز في آن، وسلاح ذو حدين في آن آخر، ولن نطيل هنا لأن هذا ليس موضوعنا.

يحضر المكان عادة في مستويات ثلاثة: المستوى الأول هو المستوى الفيزيائي الذي يتكون من ثلاثة أبعاد، ويشكل إطاراً لأحداث حياتنا اليوميّة، أو أحداث أحلامنا، أو الأحداث المتخيلة في العمل الروائي.

ثم يأتي المستوى الثاني، وهو المكان النفسيّ، الذي يكون مولّداً للمشاعر وقيّماً عليها. وهذا المكان يرتحل داخل الزمن، وتلعب الذاكرة الحسيّة عادة دوراً في استذكاره.

أخيراً ياتي المستوى الثالث من مستويات المكان، وهو المكان الذي يختصّ بالرواية، فتقطن فيه شبكة العلاقات البينية القائمة بين الأشخاص، أو بين الأشياء التي تشكّل أو تظهر في المكان.

ولنا أن نقول أن هذا المستوى الأخير بدا واضحاً في ثلاثيّة نجيب محفوظ؛ خاصة في السُكّريّة، حين حدث انقلاب في شخصيّة “كمال” الابن الصغر للسيّد أحمد عبد الجوّاد؛ فقد انقلب المكان على نفسه، وتحول حيّ الحسين من حيٍّ مُقدَّس يضمّ رفات شخصيّة عظمى من شخصيّات التاريخ الإسلاميّ، إلى مكان عاديّ، يسكنه الوهم، ومقام ليس فيه حسين ولا قداسة. هذه الصدمة المكانيّة نقلت كمال من مؤمن محبّ إلى ملحد أو لا أدري أو ما شاكل ذلك من الصفات؛ أي أنّه انتقل بفعل تلك الصدمة ذات الروح المكانية من النقيض إلى النقيض.

أمّا في حالة مطر محمود مطر فقد بدا المكان حبيبة نسمع عنها ولا نراها. إنّ ما يجعل المكان عنصراً فاعلاً في الرواية هو القدرة على ربط مستوياته الثلاثة ربطاً سلساً. فلا بد للعلاقات البينيّة من ذاكرة حسيّة تؤلف بينها، ولا بد لهذه الذاكرة من صورة ثلاثيّة الأبعاد تضمّ الجميع ضمن إطار واحد.

أحبَّ مطر إربد وتغزل بها كمعشوقة، لكنه حجّبها وبرقعَها، وضنَّ على القارئ بوصفها، واحتفظ لنفسه بذاكرته البصريّة والسمعيّة والشميّة واللمسيّة التي تقيم علاقة الإنسان مع المكان.

كنت أتمنّى أن يصفها أكثر، وأن يأخذنا إلى أزقتها، وساحاتها، وقراها، وسهولها، وزيتونها، وقمحها، وصيفها، وشتائها، وجامعاتها، وسهلها، وروابيها التي تطلُّ عليها. كنا نحبُّ أن نعرف عن مطاعمها أشياء إضافية، وأن نرى المارة في أسواقها بعيني مطر، وأن لا يكتفي بذكر مطعم ياسين الفوّال، وأن يحدّثنا أكثر عن المطعم الذي وجده عند سوق الذهب القديم، فدخله وتناول فيه صحن فول مع رغيف خبز شهيّ.

إنّ هذا العمل يقدم حدثاً أردنيّاً، لكنّ كاتبه يطمح بالتأكيد إلى أن يُقرأ عمله خارج الأردن كما يُقرأ داخلها. لذلك كان على المكان أن يفرض نفسه، وأنّ يشعر القارئ بمدى حميميّته وتأثيره في الحدث، لكنّ هذا لم يحصل، ولعلّه يحدث في عمل روائيّ قادم لكاتبنا العزيز مطر محمود مطر.

رابعاً: تنويه باللغة

لا بدّ قبل الختام من التنويه باللغة التي صاغها مطر في روايته. كانت اللغة جميلة وقادرة، وتعدّدت مستوياتها، وحلّقت في مواضع كثيرة، لا سيّما تلك المواضع التي بثّ فيها مطر أشجانه تجاه الخبز، أو عبّر خلالها عن عشقه لمدينته. وقد لاحظتُ أن لغة الرواية ذات طبيعة موجيّة؛ إذ تبدو الرواية مقسّمة إلى مقاطع، ولكلّ مقطع استهلال هادئ ونهاية صاخبة تجسّدها عبارة بلاغيّة من العيار الثقيل.

خامساً: الخلاصة

أنا سعيد جداً لبروز صوت روائيّ أردنيّ ذي موهبة حقيقيّة تُبشّر بمستقبل باهر. العمل مدهش وشيّق، ويشدّ القارئ من أوّل صفحة. إنّه من ذلك النوع الذي يحثُّ قارئه على إتمامه على نَفَس واحد؛ فبعض الروايات تلتصق بيد قارئها، و”أيام الخبز” واحدة من هذه النوع من الروايات.

وسعيد كذلك لأننا خرجنا بتجربة كاتب أردنيّ لم يؤدلج آراءه، وإنما عبّر عن نفسه كابن لهذه الأرض فقط. وهذه واحدة من ثمرات الربيع العربيّ الذي سقطت فيه الأيديولوجيّات، والنخب المزيفة، وبرز فيه صوت الأفراد غير المتحيّزين أو المحكومين بنظام فكريّ قَبْلي.

كل الأمنيات بالتوفيق..

مراجع مهمة:

  • كونديرا، ميلان، “الوصايا المغدورة”، المركز الثقافيّ العربيّ، 2015.

  • محبك، أحمد زياد، “متعة الرواية- دراسة نقديّة منوعة”، دار المعرفة، 2005.

  • المودن، حسن، “الرواية والتحليل النصيّ”، الدار العربيّة للعلوم ناشرون، ومنشورات الاختلاف، 2009.

[1]. المودن، حسن، “الرواية والتحليل النصي”، الدار العربيّة للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف، 2009، ص16.

[2]. المصدر نفسه، ص13.

[3]. يمكن تحميل رواية “أنت منذ اليوم” من موقع تيسير السبول الإلكتروني، وعبر هذا الرابط:

https://www.taiseeralsboul.com/wp-content/uploads/2018/11/أنت-منذ-اليوم.pdf

[4]. انظر: محبك، أحمد زياد، “متعة الرواية”، دار المعرفة، 2005.

[5]. المصدر السابق.

[6]. يُنصح بالاطلاع على تحليل ميلان كونديرا لهذا الجانب في روايات تولستوي. كونديرا، ميلان، “الوصايا المغدورة”، المركز الثقافي العربي، 2015، ص217-226.

[7]. محبك، أحمد زياد، ص29.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *