من ألعاب الأسطورة في ديوان “حَيِّزٌ للإثم” لمؤمن سمير

(ثقافات)

 

من ألعاب الأسطورة في ديوان “حَيِّزٌ للإثم” لمؤمن سمير

بقلم/ دعاء عبد المنعم

من متابعة أعمال الشاعر المصري مؤمن سمير، نجد أنه يحرص جمالياً على أن يوظف الأسطورة بمختلف تشعباتها، ونجد أن ذلك يتضح بصورة ملموسة في ديوانه (حيز الإثم) الصادر عن دار “بتانة” 2017، ففي نص بعنوان (إشارات صعود الساحرة) يقول:

وما زالت المحرقة والعيون كلها تدوي والقلوب تدق الساحة برائحة الرعب، الأوغاد الطيبون يظلون خائفين، هكذا قال قلبي.. وكذا يقاومون الشفقة كأنها عَدْوى! وحق أبينا كلنا لست ساحرة والشيطان لا يلوح من يدي ولا يندهكم من تحت ملابسي المبلولة، ولكنَّ عيونهم المجنونة تشوف مالا يُرى والمسكينة أمي صدقتهم، أنا التميمة التي أنزلت المطر ومسحت الخطية، لست التي شقها إبليس بمنجله..

في الجزء الفائت من النص يستلهم الشاعر مؤمن سمير قصة حقيقية من الموروث المسيحي وهي قصة القديسة (جان دارك) ويضفرها مع قصة السيد المسيح وقضية صلبه، ولكن بوجود مقابلات واختلافات لا تقلل من قيمة ووجود توظيف التناص بها، حيث المسيح على الصليب، وجان دارك علي المحرقة، ونفس المصدقين الجبناء موجودون يكبلهم الخوف والرعب، فتطلق الذات الشاعرة عليهم “الأوغاد الطيبون يظلون خائفين”، ونفس الأم المكلومة ولكن الكتاب المقدس لم يذكر تصديق السيدة مريم سيدة الأحزان للهرطقة والاتهام الذي وُجه لأبنها السيد المسيح، نفس المشهد الموجع جُسِّد في التراث الإسلامي في قصة صلب عبد الله ابن الزبير علي يد الحجاج ابن يوسف الثقفي، واستشهاد الحسين، ونفس الأوغاد الطيبون يتصدرون المشهد خائفين، الذين تُصورهم الذات الشاعرة بأنهم لا يقاومون الظلم و الادعاء الكاذب بالهرطقة الذي وُجِّه للمسيح إبطالاً لديانته الجديدة والتي تهدد سطوة كهنة المعبد، ووجه لجان دارك للقضاء على شعلة المقاومة التي اوقدتها ضد البريطانيين، ففي الحالات السابقة جميعاً رموز وأيقونات عُذبت من أجل رفع الجور عن المعذبين الجبناء..

وتقول الذات الشاعرة علي لسان القديسة جان دارك:

(وحق أبينا كلنا لست الساحرة والشيطان لا يلوح من يدي ولا يندهكم من تحت ملابسي المبلولة) في إشارة لنفس الاتهام بالهرطقة والشعوذة الذي اتهم به السيد المسيح وأتبعوه باتهام بالعهر لمريم المجدلية بعد توبتها. وتتابع الذات الشاعرة موضحة وعارضة أدلة براءتها، كاشفة عن كينونتها الحقيقية، فهي التميمة التي أنزلت المطر ومسحت الخطية. والخطية هنا تتخذ دلالتان أولهما الخطية للشعب اليهودي والقائمين علي العهد القديم من متاجرة باسم الله وتشوية لمعني الهيكل، وتلك الخطية طُهرت بوجود المسيح. الدلالة الثانية للخطية، خطية الجرائم التي قام بها الانجليز ضد الشعب الفرنسي فيما عرف ب”حرب المائة عام” والتي ناضلت فيها جان دارك ضد الاحتلال الانجليزي وهي عذراء بسن السابعة عشرة وانتصرت عليهم في عدة مواجهات وحروب عندما قادت شعبها في حربه ضد بريطانيا في “أورليانو” وعدة مواقع أخرى، فكانت تميمة التحرير إلي أن قبض عليها و أسرت وعذبت بتهمة الشعوذة والهرطقة  لتنطفئ شعلة المقاومة، وأحرقت في مايو 1431م بتهمة العصيان وادعاء الإلهام وهي بعمر 19 عاماً وتخلى عنها من ناضلت من أجلهم، حتي والدتها صدقت اتهامها بالهرطقة وتركوها تواجه المصير المؤلم وهو الموت حرقاً، وبعد سنوات من حرقها برئتها الكنيسة الكاثوليكية ومنحتها لقب فارسة قديسة.

وتعاود الذات الشاعرة التناص مع قصة السيد المسيح و قصة القديسة جان دارك عندما أعلنت مسامحة أعدائها وعندما تلت موعظة من الكتاب المقدس تماثل تلك التي تلاها المسيح في الإنجيل قائلاً:

يا رب أسرع وأعنِّي ليخزَ ويخجل طالبوا نفسي وليرتد إلى الخلف الذين يطلبون لي الشر.. كذلك نخلتنا التي قالت لي مرةً يا صديقتي الغاليةِ، لم تعد تحاذيني إلا لترشُقَ سهامَها في قلبي : مكمن الداءِ، لكني في البكورِ وقبلَ أن ينادي الذئبُ، لا أملكُ نفسي و أحبكم..

تنجح الذات الشاعرة في عمل إسقاط لصورة الذئب علي الخائنين في كلتا القصتين وفي وقت البكور قبل صياح الديك كما في قصة المسيح.. وينتقل الشاعر لفقرة أخرى من نفس النص، موظفاً فيها الموروث الأسطوري لصورة الشيطان وما تتداوله كتب السير الشعبية من وصف خارجي للشيطان تجعله علي صورة منفرة ومخيفة فيقول:

رغم أنني أكرهُ الشيطانَ من كلِ قلبي، بقرونِهِ الناريةِ والذَيْلِ المجدولِ.. أظافرهِ القذرةِ.. اختارني دون بناتِ القريةِ بلا استئذانٍ ليبني بحورَهُ وسماءَهُ ويُمَهِّدَ طرقاً يزينها كلَ صباحٍ بالدمِ، إلا أنني أضبطُ نفسي أرفُّ مرتعشةً وأنا أقَدِّرُهُ، هو الوحيدُ الذي أَحبَّني حتى النهايةِ.

في معالجة للموروث الشعبي الأسطوري لقصص الساحرات التي باعوا أرواحهن  للشيطان للحصول على بعض المحبة والقرب، كنوع تعويضي عن الحرمان والاهتمام الذي حرموا منه من الأهل والمجتمع فرضخوا للشيطان الذي منحهم بعض الاهتمام والمحبة المغموسة بالخطايا والذنب.

يستكمل الشاعر مؤمن سمير شحذ الأسطورة تارة، وتضفيرها مع الموروث الديني الإسلامي تارة أخرى، متناصاً مع نص حديث شريف يشير لبعض الأدعية ومسح الفراش قبل فعل الجماع  فنجده في نص بعنوان (أصوات تحت الأظافر) من نفس الديوان يقول:

فاتت على أبي تعويذةُ العائلةِ فشارَكَهُ الشيطانُ في أمي. هكذا طَلُعتُ ابنَ جِنٍ، رأسي كبيرٌ ويسري في عروقي دمٌ أسودْ.. الجَدةُ يقيناً كانت تعلمُ، كلما بَعَثْتُ ظِلِّي تزومُ وتُناجي السقفَ الذي خَبَّت فيهِ إشراقَها.. بكت مرةً وتقلَّصَت مسالكُ الأنقاضِ حزناً على الذي طارَ لأنني قَبَّلْتُهَا على قبلةِ الربِّ.. ومرةً ماتت عندما شافت في مرآتها ضَحكاتِ محبتي، الوحشيةِ.. كانت أمي تَشوفُنِي مبروكاً وتَقْلِبُ رعبها مع الجاراتِ والحقلِ زهواً ، بالولدِ الذي تكبرُ جُثتَّهُ في المساءِ ويُحيي الكتاكيتَ ويصنعُ من ماءِ الأكفانِ فطائرَ وعرائسَ ورقيةٍ تُظهِرُ عيونَ النارِ المُخَبَّأةِ.. أما ذكرياتي فأشيلُها تحتَ الأظافرِ، كلما أَقتَنِصُ ابنَ عرسٍ وأشويهِ بنظرةٍ.. العَنْزاتُ ، تسيبُ لي سيقانها لأحجِلَ في الحفرةِ طولَ الليلِ ، و الحوائطُ تنقُشُ خريطةَ ثقوبِها في ردائي فأبيتُ أسفلَ الصورِ، وأَنْخُسُ أمواتهم ..

تشير الذات الشاعرة إلي غياب سُنَّة يومية كان يتبعها الأب قبل القيام بفعل الجماع، قد يكون النسيان عن طريق السهو أو الاعتياد، ولكن السهو في تلك الليلة تحديداً كانت نتيجته غير مفجعة، حيث تشارك الشيطان الزوجة مع الأب فكان نتاج تلك الليلة جني صغير. تبدأ الذات الشاعرة في إسقاط مخزونها من الموروث الشعبي والأسطوري في شكل ذلك الجني، فهو ذو رأس ضخم ودم أسود علي الرغم من عدم رؤية ذلك الدم. وقد خفي على الجميع الحقيقة المروعة لذلك الكائن، حتي ظنه البعض مبروكاً، وكان في مقدمتهم الأم . ولكن الجدة، تلك الروح المؤمنة لم تنطلي عليها تصرفات الجني الصغير منذ لحظة ميلاده، فكانت كل تصرفاته الشيطانية مفضوحة أمامها، حتي انه حاول ممارسة فعل الغواية معها كثيراً وأخفق، ورغم ذلك الإخفاق لم ييأس حتي تمت الغواية (بكت مرة وتقلصت حزناً على الذي طار لأنني قبلتها فوق قبلة الرب)

هنا تقر الذات الشاعرة وقوع الاستسلام لفعل الغواية والضلال الذي وقعت فيه الجدة حتي انتصرت قبلة الشيطان علي قبلة الرب أي على الرشاد الذي كانت عليه، حتي توحي لنا الصورة في الجزء التالي بانتحار هذه الجدة ندماً علي استسلامها للغواية (.. ومرة ماتت عندما شافت في مرآتها ضحكات محبتي الوحشية..) كما جاء في الموروث الشعبي بأن الشيطان يسكن المرايا.

علي النقيض تماماً كانت الأم تزهو بالولد الذي ظنت غرابة أطواره مباركه من الرب، حيث كان يكبر في المساء ويحي الكتاكيت ويأتي بأفعال سحرية تضلل المحيطين، كنموذج مصغر للموروث عن المسيخ الدجال. أما ذكرياته الحقيقة فكان يحتفظ بها تحت أظافره أو مخالبه كإشارة دالة علي التوحش والخروج عن الفطرة ، والتهامه لابن عرس عندما تحين له اللحظة المناسبة، واستعاره أرجل الماعز ليمرح بها، كما انه يسكن الصور علي الحائط ويمارس أفعال شيطانية من خلالها، وينتحل صور الموتى في تجليه بالليالي الطويلة والطرق الخاوية.

وفي النهاية وفي نص (صيد الساحرات) يتناص الشاعر مع أسطورة الساحرات الطائرات أو ساحرة المقشة الطائرة، حيث يخرجن بالليل مغنيات ليمارسن المرح واللعب، مستمتعين بأفعالهم الغرائبية متسليِّن و مستمتعين بالعبث بالبشر فيقول:

ردهاتنا الآن ملأى بالساحرات، يقعدن علي مقشات أطول من عدونا ويطرن قرب قرون المحبة، المدهوكة تحتنا.. يقلبن آبائنا خفافيش والأمهات أظافر مدهونة..

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *