دوائر الخفاء : سيميائية الإشارة الصوفية في الخطاب الشعري الحديث

(ثقافات)

دوائر الخفاء

سيميائية الإشارة الصوفية في الخطاب الشعري الحديث

تأليف: خلدون أحمد امنيعم

عرض وتقديم : سمير أحمد الشريف

صدر الكتاب موزعا على مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة ، عرض في الفصل الأول السيميائية  ، مسلطا الضوء على إشكاليات الاصطلاحية ومفهومها وموضوعها  ، واتجاهاتها  التواصلية والدلالية والثقافية  ، و لسيميائية النص الأدبي وعلاقته بالمناهج النقدية ، وصولا  إلى الاتجاه المعتمد في الدراسة والمتمثّل بسيمياء التأويل وعلاقته بالإشارة الصوفية في الخطاب الشعري الحديث ، مبينا استراتيجية عنونة الدراسة .

في فصل الكتاب الثاني ، أصّلت الدراسة مصطلح البرزخ النصيّ في موائمة مفهومية لرؤيتين معرفيتين :مفهوم البرزخ عند ابن عربي ، ومفهوم المناص ضمن المتعاليات النصية عند جيرار جينيت ، مقاربة المصطلح في ثلاثين برزخا نصيّا موزعة بين ديوان وقصيدة ،تميزت بتوظيف تقنيات أسلوبية ،تكثيفا وغموضا ، وتمطيطا ووضوحا ،بالقلب والإبدال ، والحذف ،فاتحة للإشارات الصوفية أفقا قرائيا ممتدا ،فتنوعت بذلك مدلولات البرازخ ،وفقا لتنوع مساربها وتعددها .

في فصل الكتاب الثالث ، تابع البحث دراسة السيرورة الدلالية للإشارة الصّوفية ،وتنامياتها ، وتحولاتها في الخطاب الشعري الحديث، موزعا الإشارة في اتجاهات أربع :الاجتماعي السياسيّ في مفردات رئيسة ،تتمثل في علاقة المثقف بالسلطة ،والثاني، الاتجاه الثقافي الذي يرصد علاقة الشاعر بالكتابة ، والثالث ،الاتجاه الصوفي العرفاني ،الذي  يحيل على التجربة الصوفية ، والدينيّ في معطاه الحرفي المباشر ، والرابع ، الاتجاه الوجوديّ في حقلين :النفي والاغتراب ، والإيروسية بين الانفتاح والانغلاق .

إنّ الكشف عن الأنساق الدّلالية للإشارة الصوفية وبيان حركيتها ، وارتحالاتها ،وتوالدها الدلالي ، وسياقات تلقّيها في الخطاب الشعري الحديث ،يتوسّل سيمياء التأويل اتجاها نقديا لقدرته على رصد المستويات اللغوية الرمزية والإشارية، وكشف أبعادها الدلالية في الخطاب الإبداعيّ : الصوفيّ والشعري الحديث ، ذلك أن الخطابات الإبداعية ، في توازيها ، وتعالقها ، وتقاطعها ، لا تشتغل أنساقها الدلالية بالآلية ذاتها ، فكل خطاب ينشىء  نسقه الخاص.

تتشكّل خصوصية الخطاب الصوفي من امتلاكه طاقات وأنساقا دلالية ، تحوم في دوائر الخفاء ،لاستناده على جهاز معرفي عرفانيّ، قوامه التجربة الباطنية :ذوقا ،وإلهاما ، وكشفا ، وفق منظومة لغوية تنهض على الإشارة والرمز والمصطلح، بثنائية الظاهر والباطن ،ما أضفى عليه خصوصية في التأسيس والإنتاج والتأويل ،فتميز بها عن غيره من الخطابات ، وحيث أن تمثّل الخطاب الصوفيّ في بعديه : المعرفي والفني ، أساسي في مقاربة ارتحاله إلى الخطاب الشعري الحديث ـ. اعتمدت الدراسة الإشارة الصوفية دون الرمز والمصطلح.

يضفي على الإشارة الصوفية ،في الخطاب الشعري الحديث ،معان ودلالات جديدة ، لا تتصل بالضرورة للمرجعية الصوفية الدينية بصلة ، وتنحاز في غالبيتها للمرجعية اللغوية والثقافية ، لتشكّل ظاهرة أسلوبية شعرية صوفية ، تكشف عمق اتصال الشاعر الحداثيّ بتراثه العربي والإسلاميّ عامة والصوفي منه على وجه التحديد، ما جعل من لغة الخطاب الشعري الحديث مستوى لغويا ثالثا يلزم لفك رموزه اعتماد سيمياء التأويل مسارا منهجيا ضابطا ، بسبب أن فعل التأويل فعل مركّب بين أهلية المتلقي وأهلية النص لأن الخطاب بنية  ذهنية مجردة ، يشكّل النص تجسيده الفعليّ.

خلص الباحث في فصل دراسته الثاني إلى أنّ البرازخ النصية استندت في الخطاب الشعري الحديث إلى التجربة الصوفيّة ولغتها ، في مستوياتها الإشارية والرمزية ،دون أن تستدعي المحمول الديني والعقائدي أو تخوض فيه إلا لماما ،، مؤسسة لشعرية صوفية ، تقوم على المغايرة والاختلاف ،لا المطابقة والائتلاف ،لتغدو التجربة الصوفية في الخطاب الشعري تجربة فنية إبداعية في الدرجة الأولى ، تنفتح على تجارب حياتية ، تُنتظم في سياقات رؤيوية للمبدعين ، تفسّر كنه وجودهم ،وتضبط موقعهم فيه ،وموقفهم منه ، من خلال تقنيات فنية :تكثيفا وغموضا ،وتمطيطا ووضوحا ،بالقلب والإبدال ، والحذف ، فاتحة للإشارات الصوفية أفقا قرائيا ممتدا ،يماثل عمق التجربة الصوفية ذاتها .

إنّ البرازخ النصية ،في تنوعها وغناها ،أضفت على سيميائية التأويل مشروعية القراءة المنهجية ، لأن البرازخ قامت في بنية تركيبها على الغموض بالتكثيف والحذف من جانب ، وعلى الحضور النصيّ امتدادا، والانفتاح الخارجي تناصيّا من جانب آخر ، مما نوّع المقاربة السيميائية بين برازخ الدواوين وبرازخ القصائد ،حيث تميزت برازخ الدواوين بالتركيب الاسمي الإضافي في حذف وإقصاء للمسند إليه   ، وهي تحولات العاشق وتحولات المقنع بن أبي لهب ،ومعلقة الإشارات ،ومقام البوح ،وتصوّف الحواس  ،وكذا برازخ القصائد التي سحبت تسميتها على الدواوين ، وهي دفتر الأحوال والمقامات ،ورقصة عرفانية ،ووردة النور ،وقمصان يوسف ، ومن تجليات حورية البحور السبعة ،أما القصائد المفردة ذات الحضور الإشاري الصوفي التي لم تبن على  تعالق مع برزخية الديوان ،فقد اتسم بعضها بالوضوح والمباشرة مثل طه ، تباريح ، اشتعالات ، ابتهالات ، وبعضها الآخر بالانفتاح على سياقات تناصية قرآنية   وأدبية صوفية كقصائد القناع عند عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور ، واتسم بقيتها بالغموض لانحرافها الدلالي عن معطى التجربة الصوفية ولغتها مثل :مقام فاس لمحمد القيسي وموسم الصفات لمحمد بنيس والموت المؤنث لزكي الصدير .

أورد الباحث في خلاصة فصل كتابه الثالث أن الاتجاه الاجتماعي والسياسي شكّل حاضنة وموئلا ،انتهت إليه  حركية الإشارة  الصوفية في الخطاب الشعري الحديث ،ليس بوصفه اتجاها أوحد ، استقطب تحولات الإشارة الصوفية ، إنما بوصفه أبرز الاتجاهات وأكثرها حضورا لتجلي وانكشاف الإشارة الصوفية ، حيث تمثّل سبع شعراء : البياتي وعبد الصبور ومحمد يوسف وريم حرب وزكي الصدير ومحمد بنيس ، الإشارة الصوفية وطوّعوها  بالقلب والتحريك لمصلحة رؤيتهم  الشعرية ،فانحازت الإشارات للقيم الإنسانية  على حساب معطاها الدينيّ، فحضرت قيم الحرية والعدالة والمساواة والثورة والانتماء الوطني العميق ، على أن حركية الإشارة في هذا الاتجاه امتدت في قصائد البياتي القناعية جميعها ،كذلك في مسرحية الحلاج لعبد الصبور وديوان تحولات المقنع بن أبي لهب لمحمد يوسف ، ولعل أبرز ما يميز حضور الإشارة الصوفية في هذا الاتجاه هو اختفاء الغنائية وبروز البعد الدرامي أو الصوت الجمعي ، يعود ذلك إلى أن القيم التي انزاحت صوبها الإشارات ، لا ترتبط بصوت واحد أو بنداء فرديّ، بل شكّلت مطلبا جماعيا .

هذا ويكشف الاتجاه العرفانيّ عن تمثّل عميق للتجربة الصوفية التي امتد حضورها في ديوان مقام البوح لعبدالله العشي   وديوان حفيد الشوق لمحمد ضمرة الذي سيطر عليه البعد السردي، في حين تميّز الاتجاه الوجودي بغموض حركية إشاراته ، وصعوبة ضبطها في قصيدة “دفتر الأحوال والمقامات” لكثافة لغتها الرمزية التي استندت إلى الانزياحات في عناوينها الداخلية ، وفي النسيج النصيّ بسبب تضخم الشعور بالنفي والاغتراب الذي يظلل القصيدة ، الاتجاه الثقافيّ بدا أكثر استحياء في حضوره ، إذ حضرت الإشارة الصوفية ،في تحركها مفردة في تجربة عبدالله العشي ،على أنها حضرت في غنى دلاليّ ذي امتداد أسطوري ،وصوفيّ ودينيّ ،إضافة إلى حضورها في ديوان تحولات العاشق لأدونيس ، وذلك في قراءة التشاكلات في القصيدة .

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *