نساء البساطي

(ثقافات) 

 

نساء البساطي

(قصة قصيرة )

هناء متولي

أرخت طرحتها الريفية، سقطت على كتفيها، شعرها الأسود يتخلله ضوء الشمس المُشِّع من النافذة الوحيدة بالغرفة، بدا شعرها لامعًا بغرابة، جلست فوق السرير النحاسي الذي يتوسَّط الغرفة وقد كشفت عن ركبتيها، لم يتحمل البساطي نظراتها المشتعلة، قطع السنتيمترات القليلة وهو يلهث حتى جاورها، ثم ترك رأسه تهبط فوق صدرها، وأغمض عينيه.

***

القهوة المغلية، والجلسة المُعتادة على المقهى ذاته ، أعواد الثقاب وسيجارة تلو أخرى، الأوراق البيضاء التي لم تُسجِّل حياة جديدة، بينما يظل على مقعده يراقب حركة الأجساد من حوله، يتأملها، يفتش عن شيء، لكنه لا يجده. فقد حماسته كأن إلهامه يعاقبه على أمرٍ لا يعرفه.

قرصته معدته من الجوع، بينما وجدها تقف على ناصية الشارع تبتسم له كالمرة السابقة، يسيرُ إليها دونما إرادة منه أو مقاومة، ينظر في عينيها الكحيلتين؛ تفتنه، تعطيه زوجًا من البيض المسلوق..

– افتكرتني؟

– أنا خفت تكوني وهم وأكون اتجنيت.

– أنا همشي وإياك تمشي ورايا، ومش هتشوفني تاني إلا لما تفتكرني يا محمد..

محمد! نادرًا ما يناديه أحد باسمه الأول، حاول أن يجرها إلى نقاش أطول، لكنها تحركت سريعًا، ووجد نفسه يتأمل مؤخرتها، ظلَّ ينزلق بعينيه حتى وصل إلى كعبيها الحمراوين، وشبشبها المميز، وهنا تذكر حوارًا قديمًا على لسان نساء القرية، نميمة عن بطلته التي لا بد وأنها تحك قدميها في اليوم عشر مرات، فناداها قبل أن تختفي تمامًا.. “فردوس! أنت فردوس؟!”

***

وضعت أمامه قطع القراميط الكبيرة، واكتفت بمصمصة الرؤوس، يتعجب لشهيته الغريبة؛ فقد التهم حلة الأرز بالبصل ولم يشبع! يداعب ساقيها أسفل الطبلية، بينما أصابع قدمه تطبق على إصبع قدمها الأكبر، تبتسم؛ فيقرص فخذها في خفة.. تصب له الماء.. يجفف يديه في منشفة تتدلى على كتفها.. ويقبل خدها في وداعة.. “حد يشوفنا يا محمد”، يجفلُ؛ فتمسك يده وتسحبه إلى الفراش.

يفيق البساطي ليجد نفسه في فراشه داخل بيته، يتسحَّب بهدوء إلى المطبخ، يكرع ماءً باردًا، ثم يجلس في الشرفة يدخِّن سيجارة، ويأمل في هواء الفجر البارد لعله يطفئ ناره، تأكد أن ما رآه كان حلمًا.

على المقهى، عاود تصفُّح رواية فردوس وقرأ مشهدًا مشابهًا لما حلم به.. “فردوس وهما”.. يطلق زفرة حارة بينما يفتش في وجوه المارة بعينين حائرتين.

الكلمات تلك العاهرة اللعينة، لا تزال تراوغه، يبحثُ عن إلهامه الضائع بين المقاهي وشرفة منزله، سيجارته لا تنطفئ، تزيد من حنقه على ليالي القاهرة الصيفية، يطرد شبح فردوس كلما حاصره، يفكر أنه لو التقى بها ثانيةً سواء كانت وهمًا أو حقيقة فإنه لن يفلتها.

***

نثر على طاولة المقهى أوراقه البيضاء، والقهوة المغلية استقرت في موضعها، وظلَّ ينتظرها رغم اعتقاده أن مَن ننتظره لن يحضر، لحظات حتى شعر بلمسات خفيفة تداعب رأسه، وصوت يهمس في أذنه: “عريانة يا خالة.. عريانة”.. وجدها تجلس إلى جواره، تأملها عن قرب، خليط من الفضي والرمادي كسر ظلمة شعرها الحالك، خطوط دقيقية أسفل جفنيها، ونحافة طرأت عليها وأخفت منحنيات جسدها.

– بقى فيه واحدة تقلع ملط وهي عارفة إن ابن جوزها قاعد يتبصص عليها من خرم الباب يا محمد؟ فضحتني يا راجل يا …

– أنت حقيقة؟

– أنت اللي بتسأل؟!

أشار إلى النادل، وأشار إلى فردوس.

– شوف الست تشرب إيه؟

– مش هشرب حاجة.. الرجالة مش نضيفة زينا، لما تزورني تاني هعملك حلة محشي ودكر بط وشاي بالنعناع يظبط دماغك.

ابتسم البساطي وشعر بالجوع.

– بتكتب قصة جديدة؟

لم يرد.

– ويا ترى الستات فيها بيخونوا جوازهم ولا بيناموا مع كلاب الشوارع؟!

قضى نهاره يحادثها، سارا معًا بين شوارع القاهرة القديمة، وكان خفيفًا وصافيًا كنبعٍ. في الليل تحسَّست شعره مرة أخرى، واختفت.

***

تشوح دجاجة محشوة، بينما في إناء آخر تذيب السكر والنشاء في اللبن قبل غليانه.. “مفيش زي طبيخ الفلاحين” ثم تغمز له بعين سابلة وفم منفرج باسترخاء، شاركها الطعام مع حرصه ألا يفقد خفته في الفراش، تمدد فوق السرير النحاسي ذي الأعمدة، بينما كانت فردوس تمشِّط شعرها وتدعك قدميها بالحجر، أغمض عينيه وفتحهما؛ فرأى امرأةً ممتلئةً ترتدي قميص نوم من السَّتان بشعرها المنكُوش وعينيها الباكيتين، على الفور عرفها؛ سعدية زوجة مسعد الجزار. لم تزل دهشته حتى ظهرت ليلى بدورها، ترتدي ملابس رياضية ضيقة وتدخِّن السَّجائر وتنظر إليه بسخرية واضحة.

علم البساطي أن فردوس كانت طعمًا للإيقاع به، لما سمح لها بالعبور؛ عبرت معها بقية شخصياته. نصبت له النساء محاكمة، لم يتوقفن عن توجيه اللوم والتهم إليه، حمَّلنه وزر أوجاعهن بخلقهن شخصيات ضعيفة ومخطئة.

– أنتم وهم وخيال.

قالت ليلى:

– لكنك حولت الخيال إلى حقيقة، روح وجسد ومصير وسيرة متداولة إلى الأبد.

أنكر البساطي افتراءاتهن، وأكد أنهن بلا وجود مادي، مجرد وجود في خياله، عندما يموت الكاتب تدفن معه شخصياته، لكنهنَّ ابتسمنَ، وتركنه يعود إلى منزله ليغرق في حساباته، لكنه كان يفيق من تلك النوبات، وهو واثق أن الكتابة خلق وهمي لا يؤذي الكيانات المادية.

****

سار البساطي بين الناس يفتش عن شخصياته الهاربة من الورق، وشخصيات بقية الكُتَّاب، وجد السيد أحمد عبد الجواد كثيرًا، ورأى في وجوههم مسخ كافكا، وفقراء تشيخوف.. “لماذا تظهر لك النساء فقط يا بساطي؟!”.. تذكر جدالا قديمًا في إحدى ندواته مع امرأة لم تتوان عن توجيه كلام قاسٍ عن شخصياته النسائية، وقذفت في وجهه جملة لا تنسى.. “يبدو أنك لا تكتب إلا عن العاهرات”..

استأجر غرفة صغيرة في بنسيون بوسط البلد اعتاد المكث فيه بحثًا عن الإلهام والاستقرار، كان خائفًا أن تفسد النسوة علاقته بزوجه وأولاده، لن يفهم أحد موقفه. في ليلته الأولى بالبنسيون، شعر بفردوس تشاركه الفراش، لم يكن بحاجة إلى إشعال الضوء ليعرفها، وضع رأسه على صدرها ونام.

***

صراخ سعدية وتهديدها لا يتوقف، سخرية ليلى واحتقارها له، رغبته المشتعلة ناحية فردوس، الشخصيات تحاصره في كل مكان، نوبات من القلق والحزن تجتاحه، توقفه عن الكتابة عقاب لم يتحمله. طلب هدنة من نسائه.. رفضن، وعرضن عليه الخيار، الخلاص الأبدي أو البقاء معه. لم يفهم قصدهن؛ فقالت ليلى:

– ببساطة كل واحدة فينا مش راضية عن مصيرها، فغيره على هواها، فردوس مثلا لازم تتطلق وتاخد ورثها من أخيها، وهتحوله لتجارة كبيرة وهتكون ست غنية ومعروفة. أما سعدية فأنت جنيت عليها كتير، لازم تخلقها في زمن تاني وعالم تاني تكون فيه فنانة شهيرة. أما أنا فطلباتي بسيطة.. سفرني برا مصر أكمل حياتي مع ناس يشبهونني.

***

حاول البساطي إقناعهن أن طلبهن مستحيل، كيف يغير نهايات رواياتِه التي طُبعت غير طبعة فضلا عن نسخها الإليكترونية، كما أنَّ شرفه ككاتبٍ يُحتِّم عليه عدم التنصُّل من أفكاره، إلا أنَّهنَّ لم يقتنعنَ بما قاله، ولم يتعاطفن معه، خاصمته فردوس، وعادت سعدية إلى الصراخ، وليلى إلى التذمر، بل صرن يعذبنه بتذكيره بحوادث متفرقة من ماضيه، لقد احتللن كيانه وتلاعبن بذاكرته، رفضن أيضًا أن يكتبَ أجزاءً جديدةً من “فردوس” و”بيوت وراء الأشجار” و”ليال أخرى”.. إنَّهنَّ مُصرَّات على تغيير المصير لا اسئنافه.

معاناته وسأمه منهنَّ تتضاعف، حتى مشاعره لفردوس نضبت، كره الكتابة، ود لو كان نقاشًا بسيطًا أو مزارعًا لا يُجيد القراءة حتى، لكنهنَّ شخصياته التي رسم خطوطها البدائية ورضي لهن بنهاية تعجبه. وفي لحظة لمعت فيها عينيه، قال لهن:

– أنا موافق على طلباتكم.. لكن محتاج وقت وتركيز لتعديل ثلاث روايات.. ولازم أختار رواية أبدأ بيها.

نظرن إليه في ريبةٍ، فنطقت سعدية:

– هتبدأ بفردوس طبعًا..!

– طبعًا فردوس.. هي الأقدم.

وقفت سعدية على الفراش وخلعت قميصها الستان ليظهر جسدها البض الممتلئ، تمالك البساطي نفسه في مشقةٍ. قالت ليلى:

– بتعملي إيه يا رخيصة، أنت فعلا متستحقيش فرصة جديدة.

– أنت غيرانة مني عشان وحشة ومعصعصة..

صفعتها ليلى وجرَّتها إلى أرضية الغرفة واشتبكتا في عراكٍ انتصرت فيه سعدية، وفردوس تشاهد عن قرب. قامت سعدية إلى البساطي خلف مكتبه تطلب منه تفحُّص جسدها، وأن جمالها هو الأحق بالعودة إلى حكاية جديدة، انتفضت فردوس، وسحبتها بعيدًا، وتجدَّد الاشتباك هذه المرة بين ثلاثتهنَّ.

استغل البساطي الموقف، إنه يبدو فرصته الوحيدة، عرف أن خلاصه في هذه اللحظات وإلَّا سيظل هكذا، جهز الأوراق والحبر، وقرر حبسهن في رواية جديدة والتخلُّص منهن إلى الأبد، فكتب في صدر الورقة البيضاء (ثلات نساء في غرفةٍ ضيقة).. نظر إليهنَّ وابتسم ابتسامة واسعة، واستأنف كتابته.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *