رواية “ليلة واحدة تكفي”: فنّ التشويق عند قاسم توفيق

(ثقافات)

 

رواية “ليلة واحدة تكفي”: فنّ التشويق عند قاسم توفيق

د. موسى برهومة*

 أكثر ما يميّز رواية الكاتب الأردنيّ قاسم توفيق “ليلة واحدة تكفي” الصادرة 2022 عن (الآن. ناشرون وموزعون- عمّان) هو الحفر العميق والمتمهّل في أغوار الشخصيّات، وتشظياتها وأشواقها، بلغة حذرة مكثّفة لا تتورّط في حرق المراحل، كما أنّها لغة يقظِة لجهة عدم الإسراف في التعاطف مع الشخصيّة. الأمر ليس وصفيّاً بحتاً، كما يمكن أن يُفهم للوهلة الأولى، لكنّه إبحار في محيط متلاطم من المشاعر بقارب بسيط ومجدافين خشبيّين يشبهان غصنيْ شجرة.

المشي على نصل الحافة هو الميزة الأخرى لهذه الكتابة التي لا تُفصح عن شغفها بسهولة، ولكنّها لا تتمنّع في ذلك. الكتابة في “ليلة واحدة تكفي” متوتّرة تلهث، لكنّها بلا صوت، أي بلا ضجيج مسموع. وهنا تلتمع البراعة في تطويع التدفّق اللغويّ، وعدم إرخاء الزمام للكلمات كي تجرّ الراوي أو السارد إلى فخاخها. تلك لعبة محفوفة بالمخاطر.

ميزة ثالثة فائقة الحضور، هي العناية بالتفاصيل، بالمهمل منها، بالمعتِم، وبالمهجور، هو إنطاق يؤثّث به الكاتب ردهات الرواية، ويسدّ ثقوبها. الفراغ هنا يشقّق المعمار ويصدّعه، وهو ما يتجلّى في هذه الرواية التي لا تعرف اليقين على امتداد فصولها الأربعة.

ميزة رابعة تسجّل لمصلحة هذا العمل، تتمثّل في التحكّم في السرد؛ ثمة مايسترو يقبض على عنق اللحظة بكلّ فيها من رهبة وعنفوان.

الحِيل الروائيّة كثيرة ومتنوّعة عند قاسم توفيق، وهذه ميزة خامسة: الاستذكار، السرد عن طريق الاستفزاز، خبث الراوي العليم في العبث بصبر القارىء، والتلذّذ في جعله يتقلّب على جمر الانتظار. الإسهاب حيث ينبغي، والكثافة الموحية عندما يتطلّب المشهد الروائيّ ذلك، ولا بأس بين هذه وتلك من ثرثرة تكسر إيقاع الجديّة، وتصبّ ماءً بارداً على أحداث ملتهبة. وهذه حيلة سارد عابث، يكتب وهو يقهقه، كما يفعل قرصان عديم الرأفة!

لا يُسرف توفيق، وهذه ميزة سادسة، في شعرنة السرد، رغم اقتداره في ذلك، وهذا زهد يصدر عن كاتب يعرف مقاصده، ويتبيّنها من دون الاختباء وراء الاستعارة.

تبادل الأصوات، الرسائل المشغولة بتقنيّة ذكيّة، من حيث تنوّعها، والجهدُ المبذول في جعلها طبيعيّة، ومقنعة، وابنة الحياة، وليست زينة استعراضية للسرد، ميزةٌ سابعة تتوهّج.

قاسم توفيق

تكثيف زمن متشظٍ ولملمته في ليلة، مهمة عسيرة. إنها أشبه بمرور فيل في خرم إبرة، ولكنّ الكاتب تمكّن من ذلك، في ميزة ثامنة تحسب لروايته التي طافت في منعرجات حياة “وجدان” الممرضة و”ذيب” عامل البار. أزمنة ممتدة وثقيلة تنعجن في لحظة، لا تغيّرها الأمكنة سواء في بيروت، أم عمّان، أم في الاقتلاع الهمجيّ القسريّ من فلسطين. الناس تكتب الوقائع، وتتهجّأ الأحداث، وتقع بلا إرادة منها ضحيّة ما صنعته أيادي القدر العملاقة، أو المصادفات العمياء.

ومن مزايا هذه الرواية، إعادة اكتشاف الجمال، وإعادة تسمية الأشياء، وتهديم الصور النمطيّة عن السعادة والحقيقة. ثمة الثقل العنيف للخوف، والقيمة الباهظة للصمت، وللعزلة، والاكتفاء من الآخرين. المجاملة التي لا تجرح. اللعبة التي يتورّط فيها الكثيرون وهم يعلمون أو لا يعلمون، أو لا يكترثون بأنّها قائمة على الوهم، لأنّ الوهم يحرّر الكائن من الخوف، كما تقول الرواية، أو كما يقول “ذيب” لـ”وجدان”: “عزيزتي، الوهم هو الحقيقة الوحيدة لوجودنا”، حيث “الحياة كذبة جميلة”. أو قوله: “سلّمتُ نفسي للوهم مثلما يفعل القبيح الذي يحبّ شكله”. كلّها أفكار ينثرها السرد في عروق الرواية، بجرعات متفاوتة على امتداد الصفحات المائة والسبع والثمانين.

حياة “ذيب” الشحيحة (نظرياً) تستبطن احتجاجاً هادراً لا ضجيج فيه. يشبه الانسحاب، يماثل إيقاف زمن يمضي بسرعة البرق، إلى أن يأتيه من يكبحه. العيش على الهامش يوقف ذلك الهذيان المرّ للزمن، يروّضه فيُنتِج السأم.

ومن المزايا كذلك، تفتيت الأفكار. الاستعادات المتكرّرة لبعض المواقف والعبارات. هذا لا يصدر عن سارد مشتّت، بل عن رغبة في تذرير تلك الأفكار إلى أصغر جزء ممكن؛ جزء غير مرئيّ بالعين المجرّدة؛ جزء ممحوّ، هبائيّ.

يصحّ أن تُنسب الرواية إلى فضاء الأدب النفسيّ الذي يحفر في ثنايا الكائن، ويسبر مخابئه، وصناديقه السوداء، ما يذكّرنا بروايات مارسيل بروست، وجيمس جويس، وكافكا، وديستوفسكي، وهيرمان هيسه، وميلان كونديرا، وأمبرتو إيكو، وبعض أعمال نجيب محفوظ.

أحداث الرواية تتزامن مع حرب الخامس من حزيران 1967، والتي مُني العرب فيها بهزيمة نكراء توازي هزائم “ذيب” و”وجدان” من حيث الشدّة وانهيار الرهانات. هذا التوازي بين العام والخاص يعني أنّ هزيمة الإنسان هي مقدّمة ونتيجة حتميّتان لهزيمة الحرب، ذلك أنّ الشخصيّتين الرئيسيّتين في الرواية تكشفان منذ البداية، وبلا مواربة، عن أنّ لا أمل يُرتجى من هذه الحرب، ولن تجدي نفعاً أو إقناعاً الأغاني الحماسيّةُ، ولا البياناتُ العسكريّة الصاخبة التي تحصي خسائر العدو، لأنّ أيام الحرب المعدودة انكشفت عن عار جديد، وأفق مسدود، وسماء ملوّثة بالأوهام، ومثقوبة بالأكاذيب.

الروائي يجرّب لعبة البوح الذي يحرّر. خيّل لـ”وجدان” أنّ تلك الليلة أعادت من جديد، ومن دون أن تنتبه بناءَ عالمها الذي انهار، لا سيما بعد أن اطلعت على بعض رسائل “ذيب” التي طوّحت بمشاعر هذه المرأة، فأحزنتها وأغضبتها وقذفت في قلبها التيه.

وبعد أن نصل إلى الصفحة الأخيرة، يضرب الروائيّ ضربته الفنيّة المدهشة، وهذه جوهرة المزايا، إذ نعلم أنّ صندوق الرسائل الضخم مكتوب من “ذيب” وإلى “ذيب”، في خطّة جعلت لعبة الوهم تصل إلى أقصاها. فأية مكيدة دبّرها قاسم توفيق، وكيف يغدو الوهم أفيونَ الكائنات، وعزاءها، وفردوسها المشتهى؟

ـــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ الإعلام في الجامعة الأمريكية بدبي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *