*نصير شمه
لم ينتبه العالم إلى مأساة اللاجئين السوريين خارج وطنهم، كما أنتبه عندما كان الإعلام العالمي مجتمعاً يغطي خطوات زيارة أنجلينا جولي لهم، وينقل وقائع احتضانها للأمهات والأطفال بحنو غير مصطنع، الصحافة العالمية تناقلت صور أنجلينا وانتبه من لم ينتبه من قبل إلى مأساة بالغة.
ومن أنجلينا وصورها استعدت إلى ذاكرتي كوكب الشرق أم كلثوم، صورتها تلك التي ما فارقت خيالي أبداً، وهي تنزع سوارها الذهبي عن معصمها مفتتحة به حملة تبرعات ضخمة لأجل مصر، كانت مبادرة مهمة في ذلك الوقت، وبالنسبة لي كانت درساً عظيماً بما يجب أن يكون عليه الفنان الحقيقي.
وعندما بدأت أولى خطواتي على طريق الموسيقى كانت صورة كوكب الشرق ماثلة أمامي.
الفنان يجب أن يشكل ضميراً جمعياً لوطنه، أن يكون أيضاً مرآة تعكس وطنه وأرضه، ولا يستطيع أي فنان وكل فنان أن يفعل هذا، وليس بالكل قادر على تشكيل رأي جمعي يعكس ما يريده المجتمع فعلا، فالمجتمع أحيانا لديه احتياجات لا يعرفها بعض أفراده، فالأمي مثلا يحتاج إلى أن يتعلم حتى يكون شخصاً ضالعاً في بناء وطنه، لكنه لا يدرك هذه الحاجة، لأنه لا يدرك أهمية ضلوعه ومشاركته في البناء.
الثقافة هي أساس كل هذا، ففنان بلا مرجعية ثقافية قوية لن يستطيع أن يسهم في بناء مجتمعه، إلا بشكل صوري يشبه إعلانات التلفزيون، الثقافة ركيزة أولى وأساسية للفنان.
أم كلثوم كانت مثالاً صارخاً على هذا، لم تدرس في جامعة ولكنها تثقَّفت وعلمت نفسها وقرأت وتابعت وعرفت من دون كلل أو ملل، لهذا عندما كان الوطن يستغيث بأبنائه لم تنتظر دعوة، لم يتصل بها أحد طالبا مشاركتها، بادرت وصنعت أمثولة في الكيفية التي يجب أن يكون عليها الفنان المثقف.
يستطيع الفنان بما يحظى به من جماهيرية وقاعدة عريضة من متابعين أن يكوّن رأياً جمعياً، والكارثة الكبرى لو كان صاحب القاعدة العريضة من الجماهير من دون مرجعية ثقافية، حينها سيكّون رأياً جمعياً معتماً وقاتماً وقاتلاً.
استعيد عبد الحليم حافظ، صباح، هدى سلطان، شادية ونجاة الصغيرة، وهم يغنون لوضع لبنة الأساس في بناء السد العالي، حينما يستطيع نشيد أن يحوّل افتتاح سد يخص مصر إلى سد عربي، وحينما يغنون جميعاً بصوت واحد على ألحان محمد عبد الوهاب «وطني حبيبي وطني الأكبر»، اللحظة التاريخية التي استطاع فيها الفنانون أن يجمعوا الشعب العربي كله حول السد العالي بنشيد.
لدى زيارتي منذ بداية النزوح السوري لمخيم الزعتري الذي يضم اللاجئين السوريين في الاْردن، كنت أفكر كيف أستطيع أن أساعدهم، وعندما أطلقت حملة كرفان لكل عيلة، لم أكن أقصد أن أتحمل وحدي عبئاً مادياً ليس في قدرتي أبداً، بل فكرت تماماً مثل أم كلثوم، وهي تضع سوارها معلنة افتتاح حملة التبرعات، كنت أضع اللبنة، «مستغلاً» بوعي كامل احترام جمهور سيبادر للعطاء.
الفن ثقافة، والثقافة ليست مجرد شهادة جامعية أبداً، الثقافة حياة، والحياة بناء، وما يحدث اليوم في عالمنا العربي ضد الحياة وضد الثقافة وضد البناء، إنه الزمن الذي نحتاج به عشرات من أم كلثوم ليطلقوا راية المحبة عالية.
ولأن الفن رسالة ثقافية أساساً، رسالة تجمع المتعة مع رفع الوعي، كما تجمع بين تحليق الروح عاليا وبين حركتها على الأرض، ظللت أفكر دائماً في كل شيء حولي من مبدأ هذه الرسالة، نعم يستطيع الفنان أن يقدم لجمهوره فناً يجعله في حالة نشوة، أو طرب أو حتى يدفعه ليحرك جسده راقصاً، وفي الوقت نفسه يمسك رسالته بيده، ففي النهاية الفن للفن والفن للمجتمع أو هذا ما آمنت به كنت أتأمل ابنتي ليل وهي تنمو بعيداً عن وطن تمتلك هويته، تشاهد العراق عبر شاشات التلفزة فتلتقط عينها لحظة خراب غادرٍ، لا تعرف طفولتي هناك، لا تعرف الدرب الذي سلكه ناظم الغزالي ولا طريق سليمة مراد، وكنت كلما قلت لها أتمنى لو نعيش في العراق أراها ترجوني أن لا نفعل، فكل ما حفظته ذاكرة طفلتي صورا مشوهة لوطن جميل، وكان هذا يؤلمني دائماً، وفي لحظة قلت لها سأريك يا بابا كيف هو وطنك، ولأن ليل طفلة ككثير من الأطفال، قررت أن أمسك بأيديهم جميعاً وآخذهم في مشوار طويل للعراق الذي عرفت وأحببت، هكذا بدأت مشروعاً كبيراً لمساعدة العراقيين وجمعت الكثير من الشباب الجميل في ماراثون هو الأول من نوعه في العراق، هناك كانت الكاميرا تلاحق خطوات الشباب الذي يركض ليعلن موقفاً، شباب ضد العنف وضد الموت، الشباب نفسه الذي سيصنع غد العراق، وكنت كلما هاتفت ليل التي تتابع على التلفزيون أخبار الحملة اسمعها تقول هو العراق فعلا به هؤلاء الناس اللطيفين؟ لحظة ليل هي لحظة وطن، ولحظة كل طفل الآن في عالمنا العربي تشبه لحظة ليل، هي ليست واحدة كما أن الألم ليس واحداً، نحتاج الآن فعلا إلى أم كلثوم بعدد شعر الرأس تجتاح رؤوسنا جميعاً وتخضنا، لنغني معها ونحلم ونطرب، يحتاج كل منا أن يكون فدائياً، ونحتاج إلى عبد الحليم ليؤكد لنا أن النهار “عدا”، وأن ما ينتظرنا أمل كبير.
وحده الفن الصادق بوسعه أن يحمل رسالة التغيير ويعلن لشباب الوطن أن الأمل لم يمت.
عندما اعترف الأبنودي بالنكسة ليعبرها هو والشعب وغناها عبد الحليم، عدا النهار والمغربية جايّه تتخفى ورا ظهر الشجر، وعشان نتوه في السكة، شالت من ليالينا القمر.
_____
* القدس العربي