*أحمد ثامر جهاد
عرض فيلم (فيكتوريا) للمخرج الألماني الشاب سيباستيان شيبر في فعاليات مهرجان دبي السينمائي الدولي بدورته الـ 12 ضمن برنامج (سينما العالم) . وسبق للفيلم أن حصد العديد من الجوائز لدى عرضه في بعض المهرجانات السينمائية الدولية، من بينها حصوله على جائزة أفضل تصوير في مهرجان برلين، فضلا عن نيله أهم جوائز مهرجان الفيلم الألماني: أفضل فيلم وإخراج وتصوير وممثل وممثلة.
حينما يقلّد الواقع نسخته السينمائية
لدينا 138 دقيقة من دون مونتاج، فيلم مشغول من لقطة طويلة واحدة (Long Take) وسيناريو لا يتجاوز 12 صفحة، تدريبات أداء استمرت لثلاثة أشهر. تصوير في نحو 20 موقعا وسط برلين. المحصلة مغامرة فنية أثارت النقاد والمشاهدين أينما عرضت، لاسيما وهي تعيد “خارج ما ترمي إليه كدراما سينمائية” مع محاولات سابقة مقاربة (هيتشكوك في فيلم “الحبل” وسوكوروف في ” السفينة الروسية” وغونزاليس في بيردمان) طرح السؤال التقني في عمل السينما: كيف يحدد الشكل السينمائي خيارات التعاطي مع المضمون؟
في فيلم فيكتوريا لم تعد ضرورية تهيئة أجواء تقليدية مصطنعة للإقناع بقصة السيناريو (وهي ليست استثنائية) فالواقع كله مسرح للأحداث التي تجري في عدد من شوارع برلين، والتصوير عبارة عن حركة كاميرا متواصلة لا تتوقف، إلا في لقطة أخيرة ثابتة عند نهاية الفيلم، حيث تسير فيكتوريا متوارية في الكادر. أما الشخصيات فقد ترك لها أن ترتجل حواراتها في بعض المواضع، سنحتاج إذن ان نثبت الكاميرا ونستمر بالتصوير من دون قطع مونتاجي لمتابعة ما يجري والتنبؤ بما ستؤول إليه الأمور. هل ينبغي علينا(كمشاهدين) الانسياق والتفاعل مع إيهام من نوع آخر يحتمهُ الاستغناء عن بعض العناصر المكونة لما يعرف بالحقيقة السينمائية على الشاشة؟
في مؤلفه(الكتابة السينمائية) يعتبر الناقد “بيير مايّو” ان العناصر السردية الأساسية التي يمكن لكاتب السيناريو التعامل معها والتي تؤثر بدورها على طبيعة العمل السينمائي وصياغة مادته،هي الديكورات( الفضاءات والأماكن) والأضواء (الأزمنة والفصول) والشخصيات (المواقف والانفعالات) والتي إذا ما جمعت مع بعضها البعض ستشكل كل ما يُرى ويُسمع على الشاشة. وعليه فانه في حال تم استبدال احد هذه العناصر أو الاستغناء عنه أو تشويهه بطريقة ما، فإن العمل السينمائي سيأخذ مسارا آخر من نواحي الشكل والمعالجة الإخراجية.
إذا ما عالجنا الواقع عبر الكاميرا وبوسائل فنية عدة لنقربه-قدر الممكن- من حواس المشاهدين ومخيلتهم ونمنحه واقعيته المنشودة على الشاشة من دون رتوش، فبأية وسيلة يا ترى يمكن لواقع الشاشة (الافتراضي) هذا أن يكون واقعا قائما بذاته، ربما اشد واقعية من الواقع العياني-منجم الأفكار والصور والخيالات؟ كيف يحصل ذلك لدرجة أن تغدو “الصورة عينها” واقعا بديلا عن الواقع نفسه.
سيقول المشاهد: إذا ما حدثت هذه الواقعة التي يسردها الفيلم فعليا، فإنها لن تحدث إلا على النحو الذي ظهرت فيه. أي أن الواقع سيقلّد نسخته السينمائية وليس العكس.
ليل المدينة، سحرها وحماقاتها
قد تكون قصة فيلم (فيكتوريا) تراجيديا عصرية ذات إغواء أدبي، الخروج عن قوانينها يجعلها كابوسا مزعجا ينبغي الصحو منه. ولانها قدمت شخصياتها بشكل واقعي انداح خيالها السردي أو توارى إلى حين، فثمة تساؤلات لها صبغة عقلانية؛ منغصة ومتوقعة، حول حكاية الفتاة الشابة فيكتوريا، بوصفها شخصية رئيسية فاعلة في المنحى الدرامي للفيلم، ستعرقل بدرجة ما مسار نمو الأحداث وتماسكها. بيننا من يرى ان انسياق فتاة أجنبية شبه عاطلة عن العمل في بلد تحكمه قوانين وضوابط إزاء المهاجرين، إلى عوالم أشخاص غرباء لا تعرف عنهم شيئا في ليلة سُكر عابرة، ناهيك عن الإقدام على مساعدتهم في أمر خطير(قيادة المركبة التي تقلهم خلال عملية سطو مسلح على احد البنوك) هو إجمالا أمر غير مقنع. لكن في المقابل ثمة انصياع حسي وشغف عاطفي يصعب تفسيره(حتى بالنسبة لفيكتوريا) لولوج مغامرة من هذا النوع لا تعرف عواقبها بالنسبة لفتاة بدت بارعة في العزف على البيانو من دون ان تنال فرصتها، تترقب كالعشرات مثلها، حصول إثارة من نوع ما تزلزل نواميس حياتها الرتيبة، مثل من يترجى عقابا سماويا شافيا لسوء تدبير حياته.
عبر جولة ليلية في شوارع برلين بين الساعة الرابعة والنصف فجرا والسابعة صباحا وبمفاجآت وتطورات تبدو عادية للوهلة الأولى، لكنها سرعان ما تتطور إلى حالة معقدة تحبس الأنفاس، سنرى ان كل ما يحصل بوصفه أمرا اعتياديا؛ قبول فتاة اسبانية الأصل بمرافقة أربعة شبان (سون، بوكسر، بلينكر، وفوس) للتسكع والثرثرة في شوارع برلين ليلا) هو كابوس حقيقي يؤجل إجلاء نهايته العنيفة، والأصح أن نقول – نحن الذين سنراقب مسار نمو الأحداث ونسعد في دواخلنا كوننا لسنا مشاركين فيها- انها دعابة ثقيلة صاغها المخرج الألماني”سبباستيان شيبر” بالشراكة مع المؤلف “اوليفيا نيرغارد هولم” كحكاية معبرة عن هواجس جيل غاضب يرفض راهن المدينة ويتعالى على همومها، يضعها الإخراج في مكانها الصحيح أمام المشاهدين، فيتاح لنطفة الكابوس المعالج سينمائيا على الشاشة ان يرتد إلى مكانه الأصلي، عند ناصية شارع برليني، سيمر به نفر من الناس ويتخيلون ان فيكتوريا (الممثلة لايا كوستا) كانت هنا قبل بضعة أيام،وقد عاشت حكاية حب حقيقي مشؤوم مع سون(فردريك لو)، حب منذور لموت موحش ستصطبغ بفعل قسوته بياضات الغرفة الباردة بحمرة قانية لا مفر منها.
هذه اللعبة السينمائية الممتعة والمثيرة التي تقرّب بناء الفيلم من وجهة السرد الواقعي للأحداث تحفز المشاهد للتعامل مع الروائي كما لو انه تسجيلي (مدونة مرئية موثوقة)، ويمكن لذلك ان يستحث تأثيره بفعل عوامل أخرى مساعدة سواء في الأداء المنضبط وتقمص الشخصيات أو تلبس ردود فعلها الحقيقية أو في الشكل الفني المقترح أو حتى في طبيعة الحكاية، نعود للقول ان لعبة من هذا النوع باتت مهضومة ومثيرة للجمهور، لكنها ليست مأمونة دائما. ولنا أن نتذكر هنا فيلم (مشروع الساحرة بلير-1999) الذي كان رائدا في تمرير حكاية متخيلة ومفزعة صدق الجميع ان تفاصيلها حقيقية، فما أن تكررت المحاولة حتى أُفسدت الأحجية.
في فيلم “فيكتوريا” لا شيء خارقا سوى ان الممثلين يتصرفون بتلقائية ويوحون للمشاهد انهم ينسون أمر الكاميرا، من يقف خلفها والى جوارها. سيكون كل شيء واقعيا تماما، أو لنقل واقعا أعيد إنتاجه كواقع ليس إلا. لكن الغريب أن يكون الواقع ذاك، اشد إدهاشا من كل خيالاتنا المجسدة على الشاشة. ربما من المناسب وضع فيلم سيباستيان شيبر الذي مثل واخرج عددا قليلا من الأفلام،في سياق موجة سينمائية ألمانية شابة حققت نجاحا نقديا وجماهيريا في عدد من الأفلام السابقة: اركضي لولا ، الموجة، وداعا لينين.
فرادة فيلم فيكتوريا ليست في حكايته ولا جودة ممثليه ولا حذاقة إخراجه، بل في عزفه خارج المتوقع، وكسره قواعد فيلمية راسخة شكلت مزاج تلقينا للفيلم السينمائي طيلة عقود.يمكن وصفه بفيلم فائق الحداثة، مشغول بروح مجربة تعي خصائص النوع، ومحصن بمنظور يتشكل عبر تسلسل درامي وحدث متدرج يستبعد الغموض لصالح تخليق فيلم رصين، مفهوم ومعدٍ في آن.
______
*المدى