(ثقافات)
اقتلوا هذا البريء
د.صحر أنور
عِند الغُروب في سَاحةٍ كَبِيرةٍ بِوَسطِ البلّدةِ، جَلس القَاضِي على مِقْعَدٍ عَظيِم فوْقَ مَنصةٍ مهيبةٍ وَبِجَانبِه عَددٌ مِن المُسَاعِدين، على يَمِيِنِه قَفصٌ من الحَدِيدْ بهِ مُتهمٌ مُقيد اليدين، بَدا ضَعِيفًا مُنْكَسِرًا، جَالسا على الأرضِ سَاندا رأسُه بين يَديهِ في حُزنٍ شديد، مُحاطًا بحراسة مُشددةٍ من كُل جَانبٍ لِضَمانَ سَلامتهِ. جَلس أَهَالِي البلّدة على شكلٍ نِصف دَائري أمَام القَاضِي حيثُ اجتَمَع الخُصُوم. الكُل في حالةِ صمتٍ مُقدسٍ رَهيبْ، جَمُدَ الجميع في أمَاكِنهم من دون حِراك، القُلوبُ تَدقُ سَريِعًا بخوفٍ وقلقٍ، الأعْينُ زَائغةٌ مَا بين القَاضِي والمُتهم المَاثلِ بالقفص، الهَواءُ الباردُ يأتي بِنسماتٍ تُهدأ الأعَصَاب المُشْتعِلة، القاضي ينْظُر مُتَصفحًا وُجوهُ أصْحَاب القضايا من آبَاءٍ وأمُهاتٍ وأبناءٍ، وأزواجٍ وزوجَاتٍ وأقَارب.. يقْرأُ قضايا الظُلم والإِيذَاء والطْلاَق، جرح الكرامة والمْشَاعر، إِلتَفت يَجُولُ بِبصرهِ إلى الأحْبَاب والعُشَاق الذين خَدعهُم هَذا المُتهم وَتَسلل إلى قُلوبِهم وأروَاحِهم ونَفخَ فيها المْشَاعر والإِحسَاسيس فَوقعُوا في قصص الحُب والغرَام التي لمْ تَكّتَمِل. كَمْ من جَرائمِ خِيَانةٍ وغدْرٍ وقتْلٍ ونصبٍ تمْ ارتكَابُها باسم المُتهم، رغم أن الأسْبَاب الحقِيقية هي سلُوكِياتهم وأخلاَقِهم، كُل هَذا إِستَرجِعَهُ القاضي في ثَوانٍ معْدُودةٍ، بينْمَا كانت بالنسبةِ للجَميع دَهرًا طَويلاً ، ثم بدأ يتحدثُ قَائلاً : قرأتُ شكوَاكُم وتأكدتُ أن هَذا المُتهم المَاثلُ أمَامُكم هو المُتهم الحقيقي في كل قضَايَاكُم، ولكن قبل الحُكم علينا أنْ نسمعَ مِنْهُ أسباب ارتكَابِه هذه الجرَائِم المنْسُوبِة إِليهِ، أَشَار بيدهِ للمُتهم ليتحدث: قال المُتهم : إسِمي الحُب، خلقني الله في الوجود والقلوب من أجل الحياة، بين ضلوعكم وأيديكم ، باب جنات الأرض، أنا الروح التي تتجلّى بالقلوب فتنير ظلماتها، أنا لغة العشق والعاشقين، سخرني كي أجمع بينكم على الود والخير والرحمة. أنا الحب المُقدس الذي أرسلني الله مع ملائكته من السماء إلى الارض ليمنح قلوبكم وأرواحكم والوجود الحياة، من دوني تصبحوا موتى، وتصيروا جمادًا كالحجارة . أنا الحب ..الذي يجمع بين المحبين والعاشقين والآباء والآمهات والأبناء، الأزواج والزوجات لتكتمل الحياة بينهم، سمة الرُسل والأنبياء والعارفين والصديقين .. كيف أكون مُتهماً .. وكلُ مَا في الوجُودِ يُجب، لمْ أظلّم يوما ولمْ أرتكب أي من هذه الجَرائِم، فأنْتُم من ارتكبْتُمُوهَا بإسِمي، وصنعتُموهَا من أجل أهدافُكم، وصرخَ هَاتفًا أنَا بَرِيءٌ من أفعَالِكُم ..يا سيدي القاضي أُقْتُلُنِي في قلُوبِهم فَهُم كَفَرُوا بوجُودِي ، لمْ يُقدِّروا نِعمةُ الله التي مَنْحَهَا لهُم. لِتَعُدْ المنْحةُ إلى خَالقِهَا . إِرتَبكَ الجَمِيع وبَدا على وجُوههِم الذُهُول، كيف سَيُقْتَلُ الحُب في قُلوبِهم، كيف تكون الحياة بِدُونِه. صَاح القاضي مُؤيدًا كَلاَم المُتهم، وأعْلن بِأعْلَى صوتِه قَائلًا : تمْ إِصدار الحُكم بقتلِ المُتهم (الحُبُّ) وإِعدامِه في قُلوبِهم، فلّتحْيُوا إِذن اصنامًا أحجارًا مُتحركة، يَمْلأ قُلوبُكم الحِقد والغْل والخِيَانة ولتقْتُلوا بعْضُكُم بعْضَا . صرخ الجميع اعتراضًا لا .. لا تقتُلهُ ، صراخ وهمهمات.لاَ حياة من دونهِ ، هو الماءِ والهواء، السرُ الربَانِي فِينا، السعادة والبهجة اللتان تملأ بيوتنا، هو الحبلُ السُري الذي يجمعنا .نظر القاضي إِليهم مُتعْجِبًا قائلاً : لِماذا إِذنْ كانت كل الجرائِم تُرتكب باسم الحُبُّ ؟؟ قالوا ندِّمْنَا على ما فعلنا فلاَ تأخُذهُ مِنَّا ؟ ردَّ بَاسمًا: خُذوهُ إِذنْ معكم، عُودُوا بهِ إلى قلُوبِكم وأسكِنُوهُ بين ضُلوعِكُم وعمِّروا بهِ بيوتكُم وافرِشُوا لهُ الأرض وردًا ليمنح حياتُكم عُطورالسكينة . حافِظوا على الحُبّ في قُلوبكُم فهو السُّر الربَانِي الذي نُثرتْ ذراتُه من بقاعِ الأرضِ إلى عنانِ السماء، فَانْشُروا الحُبَّ وارحَمُوا واعْطِفُوا وامْنَحُوا .. وأفْشُوا السلامَ ليملأُ الكون السلام.
- أديبة وأكاديمية من مصر