(ثقافات)
رواية (المتشائل): الفلسطيني بين شؤم الاحتلال وفأل المقاومة
بقلم: أسيد الحوتري
تتعدد مناهج النقد وتتنوع، ولعل منهاج النقد الاجتماعي من أنسب المناهج التي يمكن أن تتعاطى مع رواية (الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد بن أبي النحس المتشائل) للروائي الفلسطيني إميل حبيبي ولذلك لأن المنهاج النقدي الاجتماعي يقول بجدلية العلاقة بين الأدب والمجتمع، فالأدب يؤثر في المجتمع، وكذلك المجتمع يؤثر في النتاج الأدبي. لقد تأثرت أحداث (المتشائل) بشكل واضح وجلي بما أصاب المجتمع الفلسطيني بعد النكبة والنكسة من قتل، وسجن، وتعذيب، ولجوء، وخسارة للأرض، وللممتلكات. هذا وقد عمل أميل حبيبي بكل ما أوتي من قوة أدبية خلال صفحات (المتشائل) على التأثير في المجتمع الفلسطيني، واتبع في سبيل ذلك النقد اللاذع والساخر من سلبيات المجتمع الفلسطيني أملا في أن يساهم نصه في إحداث تغيير إيجابي في هذا المجتمع. وهذا هو بالضبط ما يقوم به معظم الروائيين، فالأدب لم يكن يوما آلة تطبيل أو معول هدم ولكنه كان دوما انتقادا يسليط الكاتب فيه الضوء على مواطن ضعف المجتمع بغية معالجتها، أو مديحا لتعزيز مواطن القوة في المجتمع، والمحافظة عليها، والارتقاء بها إلى مستويات أعلى. لم يكتف حبيبي بتوجيه النقد الذاتي للمجتمع الفلسطيني بغية إصلاح مواطن الخلل، بل وتجاوز ذلك إلى انتقاد الاحتلال وفضح جرائمه التي ارتكبها في حق الشعب الفلسطيني.
إن ثيمة الخيانة هي أكثر ما ركز عليه أميل حبيبي في روايته، وهذا لا يعد خافيا على القارئ، فالشخصية الرئيسة في هذه الرواية هي شخصية سعيد أبي النحس الخائن لوطنه العميل للمحتل الصهيوني، وسعيد هذا ورث الخيانة كابرا عن كابر! فلقد أصبح على ما أمسى عليه والده أبو النحس. قصص كثيرة ومتنوعة قصها علينا حبيبي عن الخيانة كان الهدف منها الإشارة إلى أصل الداء وإلى أساس البلاء الذي تسبب في ضياع فلسطين. يبدأ حبيبي روايته بالتطرق إلى ثيمة الخيانة بسرعة فائقة ابتداء من الصفحة الثانية حيث يورد مجموعة قصص عن الخيانة يأكد من خلالها بأن الخيانة قد استشرت منذ القدم عالميا وعربيا ومحليا، والسبب في ذلك يعود إلى أن الخيانة أصبحت عادة! “ولكننا تعودنا. فلم نعد نجد في خلع الملوك خارقا ولا في بقائهم” (المتشائل: 60). ويبدأ حبيبي بتدشين موضوع الخيانة بسرد قصة حدثت في سنة (44) قبل الميلاد عندما هاجم مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الروماني (يوليوس قصير)، فقاومهم في البداية، ولكن عندما رأى صديقه (بروتس) يطعنه مع الطاعنين قال: “حتى أنت يا بروتس؟” “Et tu, Brute?” ومات. وهنا يؤكد حبيبي أن الخيانة لم تعد ذلك الفعل المستهجن الذي يكتب عنه الكتاب، ويقول: “فبروتس لم يعد أمرا فذا تكتب الروايات عنه: حتى أنت يا بروتس!” (نفس المرجع: 60). وينتقل حبيبي بعد ذلك إلى النسخة العربية من قصة (يوليوس قيصر) و(بروتس) والتي هي قصة السلطان المملوكي المظفر سيف الدين قطز وركن الدين بيبرس، فالخيانة هي الخيانة والأسماء تتشابه؛ كما وقد كان قطز وبيبرس أصدقاء أيضا. وعندما انتصر المسلمون بقيادة قطز في معركة عين جالوت على التتر بقيادة هولاكو، كان بيبرس تحت إمرة قطز، ولأنه أبلى بلاء حسنا في المعركة، توقع من قطز أن يوليه على مدينة حلب، ولكن خاب ظنه، فأضمر بيبرس الشر لقطز، وعندما أكب صديق لبيبرس على يد قطز ليقبلها، أهوى بيبرس بالسيف على عنق السلطان قطز فقتله، وأخذ منصبه، وكان ذلك في (1261) من الميلاد. وهنا يقول حبيبي:”ولا تقول العرب: حتى أنت يا بيبرس! وذلك أن السلطان قطز لم يخرج من فيه سوى حشرجة تركية” (نفس المرجع: 60).
وبعد هاتين الخيانتين الرومية: خيانة (بروتس) لـ(يوليوس قيصر)، والتركية: خيانة بيبرس لقطز، يأتي دور الخيانة العربية، فينتسب سعيد، ويخبرنا باسمه وبنسبه الذي يرجع إلى جارية قبرصية من حلب، أسرها (تيمور لنك)، وأرسلها “مع أحد قواده إلى بغداد لتغتسل فتنتظر عودته. فاستغفله” (نفس المرجع: 63). وهنا نرى كيف خان أن أحد أتباع (تيمورلنك) سيده واستغفله في جاريته، وكيف أن جدة سعيد القبرصية خانت أيضا (تيمور لنك) مع أحد قواده. وهنا يجد القارئ نفسه أما خيانة تترية قبرصية حلبية! فالخيانة ماركة عالمية شعارها ضعف النفس، وإعلاء الصالح الخاص على الصالح العام، فالخيانة لا عرق لها ولا دين. ويواصل سعيد الحديث عن خيانة جدته القبرصية الحلبية فيقول: “وفرت مع عربي من عرب التويسات، اسمه أبجر…فطلقها عندما وجدها تخونه مع الرغيف بن أبي عمرة، من غور الجفتلك، الذي طلقها في بير السبع” (نفس المرجع: 63). وهنا تظهر للمرة الأولى الخيانة بمشاركة عربية أصيلة تمثلت بظهور الرغيف ابن أبي عمرة. ومما يرويه سعيد عن أجداده وجداته يدرك القارئ أن للخيانة جذورا متأصلة في عائلة أبي النحس المتشائل. ويواصل سعيد وصف تجذر الخيانة في أجداده فيقول: “وظل جدودنا يطلقون جداتنا حتى حطت بنا الرحال في بسيط من الأرض…قيل أنه عكا..” (نفس المرجع: 63). أما الطلاق بسبب الخيانة فهو خصلة أصيلة في العائلة، يقول سعيد:”من الضروري أن أعرفك بخصلة أصيلة أخرى من خصال عائلتنا العريقة، بالإضافة إلى التشاؤل وإلى أننا مطلاقون…” (نفس المرجع: 79). وفي هذا إشارة إلى الخيانة المتأصلة في جداته. بعد ذلك وفي سنة 1948، تبعثر أفراد عائلة المتشائل في الدول العربية ، وهنا أشارة إلى أن الخيانة التي دمغت عائلة المتشائل قد انتشر على المستوى العربي، “في سنة (1948)، تبعثر أولاد عائلتنا أيدي العرب واستوطنوا جميع بلاد العرب التي لما يجري احتلالها” (نفس المرجع: 63). هذا ويؤكد سعيد عقب كل ما ذكر من خيانات كانت تجري في المؤسسة الزوجية، أن والده أبو النحس كان خائنا على مستوى مختلف، فقد كان خائنا لوطنه فلسطين عميلا للصهاينة، “ووالدي، رحمه الله، كانت له أياد على الدولة قبل قيامها. وخدماته هذه يعرفها تفصيلا صديقه الصدوق ضابط البوليس المتقاعد، الأدون سفسارشك” (نفس المرجع: 63). ثم يورد سعيد ما يبرر خيانته الشخصية لوطنه قائلا: “ونجونا بجلودنا إلى لبنان حيث بعناها واسترزقنا. فلما لم يعد لدينا ما نبيعه. تذكرت ما أوصاني به والدي وهو يلفظ أنفاسه على قارعة الطريق. قال: رح إلى الخواجة سفسارشك، وقل له: والدي، قبل استشهاده، سلم عليك، وقال: دبرني! فدبرني” (نفس المرجع: 64). وهكذا كان الفقر ونفاذ ما يباع المبرر الذي قدمه سعيد لبيع نفسه ووطنه للعدو.
صورة أخرى من صور الخيانة كانت لزوجة شقيق سعيد التي لم تهرب في حياة زوجها، ولكنها “هربت بعد سنتين [من موته]، مع رجل آخر” (نفس المرجع:66). وهذا الفعل إن لم يكن خيانة على المستوى القانوني والديني فهو خيانة على مستوى العادات والتقاليد المجتمعية، فالأرملة لا تتزوج بعد وفاة زوجها، وإن تزوجت لا تتزوج إلا بموافقة أهلها ولا تهرب مع حبيب.
يستمر حديث الخيانة والوشاية حتى يصل إلى أحد زملاء سعيد الذي خان الصداقة ووشى به إلى مدير مدرسة صديقة سعيد “يعاد”، ليتسبب ذلك بضرب سعيد في محطة القطار ولم تعد “يعاد” إلى ركوب القطار للذهاب إلى المدرسة، يقول سعيد: “فقد وشى بي إلى مدير مدرستها” (نفس المرجع: 70). مع ذلك وبعد أن ضُرب سعيد انتقم من زميله الذي وشى وبه ووقعا من القطار على رمل الشاطئ، وعادا إلى حيفا مشيا، تقع خيانة جديدة في طريق العودة، فيخون المضيف ضيفه ويحتال عليه ويسرقه، يقول سعيد: “وأطعمنا الغوارنة خبز الصاج بالزيت وبالملح وسرقوا المزودتين” (نفس المرجع:71).
ينتقل سعيد إلى بلدة معليا حيث ينزل هو وشقيقته وعشيقها ضيوفا على أحد البيوت، فتخون زوجة صاحب البيت زوجها مع عشيق شقيقة سعيد الذي يعقب على هذه الحادثة قائلا: “فيبقى عفاف أختي مصونا بفضل زوجة مضيفنا في معليا” (نفس المرجع: 78).
يقص علينا سعيد بعد ذلك قصة خيانة جديدة. يذهب سعيد وصديقاه إلى لبنان ليجلبوا السلاح والذخيرة للجهاد في
