* حاتم السروي
عندما تسمع أغنية وأنت في أشغالك مشدودًا إليها وشبه نائم مغناطيسيًا ولا يبدو أنك ترى أو تسمع أو تشعر بغير ما أنت فيه ثم تسمع لحنًا بديعًا وكلمات رائعة وغناء عذبًا فاشهد لمن قام بهذه الهارمونية بأنه فنان.
وعندما تكون في أسوأ حالاتك ويتجاذبك الحزن من ناحية والغضب من أخرى ثم تسمع أغنية يرق لها القلب وتنفذ إلى شغافك وتدخل بين لحمك وعظامك ويهتز لها جميع بدنك، فاشهد للمطرب والملحن والعازفين جميعًا بأنهم سحرة، وسحرهم أدهى من ساحر بابل وأوقع من شباك عيون امرأةٍ فاتنة.
الموسيقى هي لغة الروح، وهي لغة لا تقف أمامها أسوار، ولا تحدها جغرفيا، لغة عابرة يفهمها الجميع بلا استثناء، فإذا كنت مصريًا مثلي ومن عشاق غناء عبد الوهاب وكارم محمود ومحمد فوزي ثم استمعت إلى مقطوعة (شمس العدالة) التي لحنها اليوناني (ميكيس ثيودوراكيس) وشدا بها تلميذه المطرب الراقي ذو الحنجرة الذهبية والإحساس العالي (يانيس كوتسيراس) فإنك حتمًا سوف تشعر بالمتعة.
لذلك من الضروري والمهم أن نهتم بتعليم الموسيقى بشكلٍ حقيقي لأطفالنا في المدارس، لتنمية أذواقهم، وتدريبهم على الإحساس، وحتى يعتادوا سماع الجمال ورؤيته، ومن أسفٍ أن لدينا معلمين للموسيقى ولهم رواتب ثابتة وهم موظفون تم تعيينهم في مؤسسات الدولة، وإذا وصل أحدهم إلى التقاعد فإنه يحصل على (معاش) دائم طوال حياته يقبضه كل شهر، ثم تتقاضاه أرملته أو ابنته بعد وفاته مالم تتزوج، كل هذا ومعلم الموسيقى لا يعلم شيئًا! وقد شهدنا أجيالاً تواترت على أرض مصر وغيرها من البلاد العربية وهم لا يعرفون من الغناء سوى أنه (لهو) أو مجرد ألحان راقصة يتخللها كلامٌ فارغ، وياحبذا لو رقصت على أنغامه امرأة خليعة، وبهذا الشكل أصبح الغناء حرامًا، وكان من الطبيعي أن يصبح ضمن المحرمات، طالما فيه الصخب والمجون، وهل يرضى والد عن ولده وهو يرقص على وقع أغنية لـ (حمو بيكا).
وكنت قد كتبت غير مرة عن مطربي المهرجانات في مصر، والمهرجانات تعني حفلات غنائية صاخبة يحييها شباب يغلب عليه الإدمان والضياع والجهل الشديد والغباء المستفز، وألحانهم دائمًا تهيج الأعصاب، أما الكلمات فهي سافلة يعاقب عليها القانون، ولكن العامة يحترمونهم، لماذا؟ لأنهم من أصحاب الملايين، مع أن الملايين لا فائدة منها فهي تضيع على الحشيش والهروين، والناس تدفع من قوتها لهم، وهم يضيعون الأموال في الدخان الأزرق، وأصحاب العقول في راحة.
والمدهش حقًا أن الشاب من هؤلاء تراه يرقص على أغاني (حمو بيكا) و(حسن شاكوش) ويعجبه جدًا أن يشاهد اللحم الأبيض المتوسط وهو يترجرج أمام عينيه، ثم يقول أن كل هذا حرام ويغضب الله ويجلب الشؤم! حسنًا، إذا كان الأمر هكذا فلماذا تستمع وتشاهد وترقص أيها المأسوف على عقله وشبابه؟! ما هذا الخبل؟.
ولست أدري حقيقةً هل توجد هاوية أخرى بعد التي وصلنا إليها؟؟ إن شر البلية ما يضحك، ونحن لسنا في بلية بعد إذنكم، نحن في كارثةٍ فقط؛ لقد مسخنا كل المعاني الكبرى التي قامت عليها الإنسانية، فالفن أصبح نهبًا مشاعًا لكل من لا مهنة له، ولكل من لم يحصل على تعليم مناسب، أو لم يحسن حرفة يتكسب منها، وأصبحنا لا نسمع الصوت العذب واللحن الشجي والمعاني المبتكرة، فالغناء بهذه الشاكلة هو أكبر مضيعة للوقت.
ولا أريد أن أرتدي زي الواعظ ولكنني في المقابل لست ممن يجيدون دفن رؤوسهم في الرمال؛ فنحن في أزمة فنية، وأنا أعتبر أنه لولا الموسيقى لكان ثمة خطأ في الحياة، والغناء الآن فيه اللحن المسروق والصوت النشاز، والأسخم أنك تجد من النقاد من يدافع عن المطربين جاعلاً منهم ذوي مواهب وزاعمًا أنهم يمتلكون خامات صوتية جيدة، وينقصهم فقط شيء من التدريب.
ولذلك أطالب هؤلاء النقاد بالاستماع والتركيز في صوت عبير نعمة من لبنان، و(يانيس كوتسيراس) و(ألكيستيس بروتوبسالتي) من اليونان، و(دانيز سكِّي) من تركيا، وهؤلاء كلهم على سبيل المثال وليس الحصر، وفي العالم كله نهضة غنائية جديرة بالاحترام، ماعدا بلادنا العربية، التي كان غنائها يثير الحب والشجن،غناءٌ أصيل ومعبر، ومن ذا الذي ينسى وديع الصافي وهو يشدو: (دار يا دار) وآهٍ عندما يقول:
لياليكي كانت نور.. يسبح في ضيه بحور
صبحت فضا مهجور.. مرسوم في كل جدار
ومن ينسى فيروز وهي تغني:
بعدوا الحبايب بيعدوا بعدوا الحبايب.. عا جبل بيعدوا والقلب دايب
دبلوا زهور وبين ها السجرات في طيرين.. عم يسألوا لوين ها الأصحاب راحوا لوين
ومن ينسى العندليب عبد الحليم: ومين ينسى.. ومين يقدر في يوم ينسى.. شعاع أول شرارة حب
أيام جميلة في زمن صار بعيدًا عن ناظرينا ولكنه سيظل قريبًا من قلوبنا، زمن الفن الجميل وإن شئت فقل زمن الناس الأجمل.. يا خسارة
- عن الجمهورية