(ثقافات)
مثلث المرأة عند عباس محمود العقاد
نايف النوايسة
تمهيد
هل المرأة كائن معقّد إلى درجة الغموض؟
هل المرأة كائن بسيطٍ متناهٍ في البساطة إلى درجة التعقيد؟
من أي الأبواب ندخل إلى عالم المرأة إن كان لها أبواب عديدة؟
وكيف نفهمها إن كانت الحال تسمح لنا بذلك؟
الأولون فهموها على أنها متاع يُشترى ويُباع ويُستبدل، فظلموها.
الأولون عدّوها عبئاً من الأعباء، وإن الشرف متعلق بها، ولأنهم يعجزون أحياناً عن حماية هذا الشرف عمدوا في زمان ما إلى وأدها، فدسوها في التراب حية..
الأولون عدّوها: جارية.. غانية.. حريم.. ضلع أعوج.. ودمغوها بأقذع الأوصاف.
وفي الأولين كانت أسيا امرأة فرعون، ومريم بنت عمران أم عيسى، وبلقيس ملكة سبأ، وزنوبيا ملكة تدمر وغيرهن ذوات ذكر حسن، وجاءت الديانات السماوية وأنصفت المرأة وحققت لها حقوقاً كانت مهضومة.
هذا الاتفاق كان في الإسلام حينما ساوى بينها وبين الرجل، فلهن حقوق وعليهن واجبات كالرجال تماماً..
وفي زماننا، غرقت المرأة في دوامة الحيرة مرة أخرى، فهي تارة مظلومة إلى حد الإجرام، وتارة أخرى شقيقة الرجل على استحياء.
فهل المرأة لغز إذا ما عجزنا عن فهمها؟ وهل هي أزمة إذا استغلقت علينا أبوابها وأوصدت؟
يظن البعض أن المرأة كائن خرافي أو لغز غارق في الغموض، ويظن البعض الآخر أيضاً أنها كائن زائد عن الحاجة.
ونظر في شان المرأة العديد من المفكرين والفلاسفة، وكان منهم عباس محمود العقاد، المفكر العربي الذي وضع المرأة نصب عينيه ونصب لدراستها شباكه، وكلما فرغ من كتاب أدرك أنه لم يصل إلى غايته فيعاود الكرة مرة أخرى فيضع كتاباً آخر، وأظنه سيظل على هذا الحال لو مد الله في عمره.
العقاد لم يتزوج ، لكنه لم ينقطع عن أجواء المرأة، كان معايناً لهذه الأجواء، يقرأها مرة بعين الذَكَر الذي يشتاق إلى أنثاه وحين يتوقف عند حدود العفة يستيقظ في داخله الرجل فيغرق في سديم المرأة فيحتطب مرة في ليل، فيصدر كتاباً من عمق العماء يسميه” المرأة هذا اللغز”، ويجد مرة أخرى ضوءاً في الدرب المعتم فيلتمس من إدراكه الواعي قبساً كاشفاً فيكتب” المرأة في القران الكريم”، وفي هذا يقنعك وفي ذاك يقنعك؛ فتجد نفسك مع هذا المفكر القدير في حيرة داهمة. فتهرب إلى ضفاف إبداعية محاولاً أن تجد في ” سارة” إجابة على أسئلة هذا الكائن( المرأة).
نحن، إذاً، أمام مثلث خطر نصبته المرأة دون أن تقصد، وواجهه العقاد بعمق المفكر الواثق، واعتداد الرجل البطل.. فهل أفلح العقاد في مواجهته؟
لنرى…
المرأة عند العقاد على أنواع: الأم والأخت، والأهم من ذلك كله هي الأنثى التي وضعها محل دراسته في العديد من كتبه وكتاباته، ووصل إلى آراء جعلت البعض ينظر إليه على أنه عدو للمرأة، يقول أنيس منصور في ما كتبه عنه لصحيفة أخبار اليوم عام 1964م 🙁 إن كل ما كتبه العقاد عن المرأة يدل على أنه فهمها بوضوح، كأنه عرف المرأة منذ كان اسمها حواء، إلى أن أصبحت مي أو أليزة أو هنومة )، وتقول القاصة صوفي عبد الله في حديث لها: إن( العقاد لا يقول لك رأيه في امرأة أو جملة نساء محددات بزمان ومكان معينين بل يسوق إليك من خلال النساء الجزيئات اللاتي حللهن في معمله بعيداً عنك، رأياً كلياً في المرأة الخالدة أو الأنثى الصحيحة التي تقابل بطبيعة تكوينها طبيعة الرجل، وطبيعة تكوينه تتكيف بالظروف العارضة، من زمان ومكان من غير أن تفقد أهميتها التي تنفرد بها دون الجنس الآخر مهما كانت الظروف والأحوال)، وتذهب صوفي عبد الله إلى أننا أمام ( نظر) له صفة خاصة قد يتفق عليه البعض وقد يخالفه البعض الآخر، لكنه بجميع الأحوال وجهة نظر تعبر عن حياة فكرية ووجدانية امتدت خمسين عاماً في البحث والنظر.
ويرى عامر العقاد في كتابة” لمحات من حياة العقاد” أننا أمام فلسفة أو عقيدة خاصة للعقاد في المرأة لزمت صاحبها وكانت تعبر عن تجربته في الحياة، واطلاعه الموسوعي، ومزاجه وشخصيته وعوامل نشأته وتربيته.
المرأة ذلك اللغز
قام عامر العقاد عام1970م بإعداد هذا الكتاب من جملة مقالات لعباس محمود العقاد حول المرأة، وهو الذي اختار له هذا العنوان اجتهاداً منه؛ فاللغز ـــ كما يرى عامرـــ كلمة دالّة على ما يريد العقاد من مضامين مقالاته المكوِّنة للكتاب، ولا يناسب اللغز من أسماء الإشارة إلاّ “ما له دلالة على البعد” ، فجاء اسم الإشارة “ذلك” موافقاً لذلك، باعتبار أن العقاد بحث شأن المرأة في كل ما كتب عنها واستعصى عليه أمرها وبقيت رغم كل ذلك لغزاً محيراً.. ويضم الكتاب عشرين مقالة، نُشر معظمها في الصحف والمجلات المعروفة في زمنه كالهلال والدستور والكتاب..
يستعرض العقاد موقع المرأة في العصور القديمة، فيرى أن اليونان لم يرتفعوا بالمرأة إلى منزلة كريمة، فهي مرذولة في زاوية الاهتمامات جميعها، ورسخ عند الرومان أن النساء مصابات بالعته الطبيعي، فهن في كفالة الرجل إلى ما شاء الله، أما المرأة فهي أقرب إلى وقار الأمومة، ويدل الحذاء الحديدي القديم على مكانة المرأة في الصين والتي لا تتجاوز حدود الزينة لإرضاء الرجل، وفي الهند تحرق المرأة عند وفاة زوجها باعتبار إن وجودها ملحق به فلا تستقل بحياة أو الموت.
لكن حضارة بابل كانت أرحم بالمرأة من غيرها، فموقع عشتار في ملحمة جلجامش تدل على حرية المرأة عند البابليين لأن عشتار هي التي طلبت يد جلجامش، إلاّ أن الطلاق كان بيد الرجل، غير أن البابليين كانوا يميزون بين الزوجة الأولى والزوجة الثانية إذ يشترطون على الثانية أن تغسل قدمي الأولى، وتحمل كرسيها إلى المعبد وتظهر احترامها لها.
وفي الحضارة المصرية كانت المرأة تدعى ب( سيدة البيت) والذي يؤكد مكانة المرأة المصرية القديمة تجاور الملكة والملك في الموقع التي تم اكتشاف تماثيل الملوك والملكات فيها.
بعد ذلك جاءت المسيحية الأولى وواجهت حالة الانهيار التام في أخلاق المجتمع آنذاك فدعت إلى تطهير النفس الإنسانية من شرور هذا الانهيار وكان لها أثر بالغ في المجتمعات الأوروبية، بينما بقي التشريع الروماني هو مصدر القوانين، وظلت المرأة في هذه المجتمعات محجوراً عليها إلى ما بعد الثورة الفرنسية.
وجاء الإسلام بفرائض التشريع في الأخلاق والآداب، وسن للزواج والطلاق وحقوق المرأة أحكاماً متعلقة بالتشريع من ناحية، والآداب النفسية من ناحية أخرى.
ومن إحكام تخويل المرأة حق التعامل والولاية على أطفالها وضمان الرجل لمعايشتها، وقوامه الرجل عليها، وأباح تعدد الزوجات مع اشتراط العدل وترجح الاكتفاء بزوجة واحدة باعتباره ضرورة وليس فريضة.
ومما تجب الإشارة إليه أن الإسلام جعل من الزواج داعماً لأواصر المودة والرحمة لا عقد متعة وتجارة.
وأشار العقاد إلى إن الإسلام لم يفرق بين الرجل والمرأة في تلقى الخطاب والتبعة مستنداً في ذلك إلى قوله تعالى:﴿ إن المسلين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والعابدين والعابدات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين لفروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيما﴾ الأحزاب/35.
خلاصة الأمر في هذه المقالة أن المرأة، في المجتمع الذي تسوده آداب المسيحية والإسلام محمية بسلطان هذه الآداب، وضمنت الشريعة الإسلامية للمرأة حقوقاً في المعاملة والمعيشة بكفالة الإباء والأبناء والأزواج.
وقف العقاد طويلاً أمام إشكالية المرأة مأخوذاً بغموضها مشغولاً بحالها، معقداً ببساطتها، ونظر إليها من زاوية المساواة التي نادى بها الغرب، ولكن غلب على نظره وعي الإسلام للمرأة وفهمها، لذلك يقول:( على أن القضية في رأينا ليست قضية مساواة ولكنها قضية اختلاف في التكوين يتبعه لا محالة اختلاف في الاستعداد والوظيفة).
ويحدد العقاد موقع الرجل وموقع المرأة بقوله:( ونفهم بالبداهة والتجربة أن اختلاف الجنسين يلزمه اختلاف في الوظيفتين، وقد ارتسمت الوظيفتان من قديم الزمان، فنهض الرجل بمطالب الحياة العامة ونهضت المرأة بمطالب البيت وتهيأ الرجل لتدبير الجيل الحاضر وتهيأت المرأة لتدبير الجيل المقبل، وما كان تدبير الجيل المقبل اصغر شأناً وأهون عاقبة مكن التدبير السياسة وما إليها).
ونلمح وجهة نظر العقاد في مجمل مواد هذا الكتاب مشيداً بموقع المرأة في الإسلام حين ذكر جملة من الأحاديث النبوية الشريفة عن المرأة🙁 خيركم خيركم للنساء، ما أكرم النساء إلاّ كريم ولا أهانهن إلاّ لئيم، ما زال جبريل يوصيني بالنساء حتى ظننت أنه يحرم طلاقهن، وطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) رواه الترمذي وصححه الألباني.
إذاً، جاءت المنزلة الكريمة التي تبوأتها المرأة في الإسلام هي النموذج في نظر العقاد، وفي رأيي أن الإسلام أنصف المرأة وأعطاها كل حقوقها التي سلبها إياها الآخرون.
يوصلنا ذلك كله إلى المرأة الخالدة..
فمن هي المرأة عند العقاد؟!
إن جماع ما وصل إليه العقاد هو أن السيدة عائشة رضي الله عنها هي المرأة الخالدة؛ في دلالها ورضاها وغضبها؛ خالدة لأنها مثّلت المرأة العربية والإسلامية والعالمية، وما أروع العقاد وهو يوازن بين امرأة خالدة كعائشة وأخرى كخديجة وكلتاهما من أحب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه، إذ دخل العقاد في موازنة بين امرأتين من أبواب الغيرة والفضل والفرادة؛ فلعائشة خصائصها في الخلود وبؤرة ذلك أنها تغار من امرأة ميتة كان لها سبقها في الخلود وأكثر هذا السبق القولة الفاصلة للرسول صلى الله عليه وسلم بخديجة🙁 والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي حين كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورزقني منها الولد وحرمته من غيرها). أخرجه البخاري ومسلم
وأما سكوت السيدة عائشة فكان على مضض أمام هذه الإجابة الفاحمة، وعندما تسنح الفرصة لها سيحركها إحساسها بالخلود لتقف وتعاند.
المرأة في القران الكريم
يُعرف العقاد في الوسط الثقافي والاجتماعي المصري والعربي بأنه من أعداء المرأة أو أنه بعبارة أخرى من أشد المنتقصين من درجاتها، فهل هو كذلك?!
يرى العقاد في معظم ما كتب عن المرأة بأنها تابع والرجل وهو السيد المتبوع مهما كان وزن الرجل وقيمته ومهما كان وزن المرأة الاجتماعي والثقافي والسياسي وقيمتها، ويؤكد رأيه على ميزان الترجيح وتثبيته بأوزان المنطق والحجة والنظر، فنراه يقرأ القران الكريم قراءة خاصة ليتلمس موقع المرأة فيه على النحو الذي يعتقد ويسره، فوضع كتاباً من مجمل ما قرأ جعله خاصاً بالمرأة عنوان ب( المرأة في القران الكريم) ويضم هذا الكتاب أربعة عشر فصلاً، ولكل فصل عنوان دال، وجميعها تطابق ما بين أحكام القرآن، فيما يتعلق بالمرأة، وأحكام الواقع والمنطقة والمصالح الإنسانية.
قال تعالى:﴿ وللرجال عليهن درجة﴾ البقرة/228، عنوان قرآني واضح الدلالة، وقال عز من قائل:﴿ والرجال قوامون على النساء﴾ النساء/34، عنوان آخر له تأكيده الصريح واستند العقاد إليهما ليرجح حجته بتفضيل الرجل على المرأة في كل شؤون الحياة، والفرق بينهما وفق ما يرى هو في مستوى الثقة بما يقوم به كل واحد منهما على حده، ويصل العقاد إلى أن المرأة تكون على سوية عالية في الاكتشاف ولكنها تبقى منفذة ولا تقوى على أن تكون مبتكرة أو مبدعة على النحو الذي يفوق الرجل.
أما كيد النساء الذي ورد في القران الكريم، فهو وصف دقيق جاء على لسان العزيز في سورة يوسف حيث أدرك المصيدة النسائية التي نصبتها زوجة العزيز ليوسف عليه السلام، وهو الكيد الذي يقوم على ميزة خاصة بالمرأة هي ( الرياء)، وفهم العقاد إنها مجبولة على التناقض بين شعورها بالشخصية الفردية وشعورها بالحب والعلاقة الزوجية.
ويقرأ العقاد المرأة في الفصل الثالث وهو يطالع الشجرة الممنوعة التي ورد ذكرها في القران الكريم، يقول: ومن نقائض الطبع الأنثوي أن المرأة تخالف المرأة أشد المخالفة وتذعن كل الإذعان حين يضطرب الحس فيها بين إرادتها الفردية وإرادتها النوعية.
ويصل إلى نتيجة يؤمن بها في كل ما كتب هي بأن المرأة محكومة، وأما إذا أرادت أن تحكم غيرها فلا يتسنى لها ذلك إلاّ من طريقة الإغراء وأن قدرتها في الرياء والتظاهر هي أداة هذا الإغراء، ويقول:( إرادة المرأة تتحقق بأمرين: النجاح في أن تراد، والقدرة على الانتظار).
فوق كل ما ذكر يصرح العقاد بأن الرجال هم مرجعية كل عُرف تم الاصطلاح عليه في الأخلاق سواء أخلاق الذكور أو أخلاق الإناث، والمرأة تتلقى عرفها من الرجال حتى فيما يتعلق بها من خلائق الحياة والحنان والنظافة ونحو ذلك، ويعود العقاد إلى كتاباته القديمة ليؤكد منها أن سلطان الرجال في الأمة، إذا سقط سقط معه سلطان الأخلاق عامة( العرف والإرادة..).
أما مكانة المرأة التاريخية كما يراها العقاد فيؤكد أن المركز الشرعي لها تحقق زمن الدولة المصرية القديمة، وأما ما تلاها من حضارات فقد أعطت للمرأة مكانة مرضية هي أقرب للشفقة، وبمعنى آخر هي واضحة في الأمومة وتستوي فيها مع كل إناث الكائنات وفي اللهو والترف حين كانت عصور البذخ ترى في المرأة مجرد كائن للمتعة، وقد رأينا فيما مر مكانة المرأة في العصور الحضارية السابقة، والعقاد كعادته يؤكد مذهبه في أي شان من الشؤون في مقالاته وكتبة.
ونرى هنا كيف وازن العقاد بين موقع المرأة في الديانتين اليهودية والمسيحية وموقع المرأة في الإسلام، مبيناً أن مكانة المرأة عند العرب قبل الإسلام ليست بالمستوى الذي يفوق العصور الماضية.
وفي القران الكريم تحقق للمرأة شأنها المطلوب ومكانتها المنشودة من الحقوق مشروعة غير مسبوقة، ورفعها من المهانة والذل وجعلها إنساناً معدوداً من بني آدم، ورفع عنها لعنة الخطيئة الأبدية ووصمة الجسد المرذول؛ فالزوجان كلاهما وسوس لهما الشيطان، قال تعالى:﴿ فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه﴾ البقرة/36.
ويفصل العقاد في حقيقة الحجاب الذي يريد الغرب أن يلصقه بالإسلام، وقد توهم الغرب ما فرض على المرأة التركية وفق أنظمة خاصة بتركيا هو موافق لمرامي الإسلام، وفي حقيقة الأمر أن الحجاب هو سابق للإسلام وعرفته ديانات وشعوب سابقة، وذكر البرقع في كتب دينية ولم يرد في القران الكريم، وإما الحجاب فهو غير البرقع قطعاً؛ وحقيقته في الإسلام هو أدب خلقي يُستحب من الرجل ومن المرأة على حد سواء، هو أسلوب للمرأة بالكيفية المعقولة للخروج جنباً إلى جنب مع الرجل سواء في ميادين القتال أو الأماكن العامة، أما القرار في البيوت فهو خاص بنساء النبي عليه السلام.
إذاً، الحجاب في الإسلام لا يعني ــــ وفق فهم العقاد له ــــ الحبس والحجر والمهانة وإنما هو مانع للغواية والفتنة، وحافظ للحرمات وآداب العفة الحياء.
أما حديثه عن حقوق المرأة فأقامه على أساس القرآن الكريم وهو المساواة بين الحقوق والواجبات، إذ أنه يرى المرأة من خلال هذه الحقيقة بالهيئة المناسبة لها. لذا يقول:( إن المجتمع الأمثل ليس هو المجتمع الذي تضطر فيه المرأة إلى الكدح لقوتها وقوت أطفالها، وليس هو المجتمع الذي تعطل فيه أمومتها، وتنقطع لذاتها، وتنصرف إلى مطالبها وأهدافها، وليس هو المجتمع الذي ينشأ فيه النسل بغير أمومة وبغير أبوة، وبغير أسرة، وكأنه محصول من محاصيل الزراعة التي تتولاها الدولة عن الجماعة البشرية).
فحق المرأة في القرآن الكريم هو صون رسالتها الفطرية وأن يلتزم كل جنس( الرجل والمرأة) بما هو أوفق له وأقدر عليه ويبتعد عمّا لا يناسبه إلاّ على وجهة الاضطرار.. ومن هذه الزاوية ننظر إلى قوامة الرجل على المرأة، وشهادتها، ونصيبها من الميراث.
أما الزواج فهو صلة شرعية بين الرجل والمرأة بقصد حفظ النوع، والإسلام في نظام الزواج شريعة تامة، حتى فيما يتعلق بتعدد الزوجات، والذي يشكل مدخلاً لشبهات حول الإسلام..
ومن الواجب أن نوضح حقيقة تغيب عن بال الكثيرين هي أن تعدد الزوجات لم ينشئه الإسلام أو يستحسنه وإنما أباحه في حالات يشترط فيها العدل والكفاية، وعند الضرورة القصوى عندما يكون التعدد هو أفضل الحلول في ما بعرض للناس من أحوال، مثلاً: المرض العضال الذي يصيب المرأة، فيبعدها عن أمومتها أو القيام بواجبات بيتها، ونسأل هنا: أيطلق الرجل زوجته ويلقيها في الشارع أم يبقيها مكرمة في بيتها مع الزوجة الجديدة تخدمها عند الضرورة؟ وقد يكون للرجل المتزوج قريبة لا يؤويها غيره وعند اشتعال الحرب أو الأزمات والكوارث يصبح عدد النساء أكبر من عدد الرجال، فلأجل صيانة المجتمع وحفظة من الرذيلة يكون تعدد الزوجات مطلب ضرورياً. لكن الإسلام اشترط العدل بين الزوجات في حالة التعدد على أن لا يزيد عددهن عن أربع.
والزواج في القرآن الكريم يقوم على احترام المرأة، فكم من حالات زواج أبطلها الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها افتقرت للشروط التي تتوافق والشريعة الإسلامية؛ فالأصل هو العودة لكرامة الإنسان والتحقق من حصولها، والمرأة هنا هي البؤرة التي تدور حولها هذه الكرامة.
والحديث عن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يقترن بخصوصية النبي صلى الله عليه وسلم في أمر تعدد الزوجات؛ فالنظام الجديد ومقتضيات الدعوة ومصالحها وما توجبه من التزامات تناسب البلاد التي ولدت فيها كالأنساب وروابط المصاهرة وتمتين العلاقة بين الأسر، كل ذلك جعل لخصوصية النبي صلى الله عليه وسلم ما يبررها، فهي ليست حجة على الإسلام وإنما هي جزء مدعم لكمال الدعوة وبلوغ شأوها.. ويقول العقاد عن الخصوصية النبوية في تعدد الزوجات:( إنها لم تكن امتيازاً من القوة المسيطرة لتسخير المرأة في مراضاة خيلاء الرجل، وحبه للمتعة الجسدية، ولكنها كانت آية أخرى من معدن الأحكام القرآنية فيما تسفر عنه من العطف على المرأة وحياطته لها من موقع الجور والإذلال).
ونظام الطلاق عند العقاد هو في مبناه، يشبه الزواج في مبناه تماماً، قائم على الفطرة: الذكر يطلب الأنثى ولا تطلبه، والرجل يخطب المرأة ولا تخطبه، والرأي في الترك لمن له الرأي في الطلب والخطبة.. وكان ذلك عرفاً إلى أن تدخلت المجتمعات في مراحلها اللاحقة لتسجله وتحفظه لغايات حقوق أخرى مرتبطة في الميراث والنبوة ونحو ذلك.. ووجد الطلاق في الشريعة العبرانية وعند أتباع الكنيسة البروتستانتية كمهرب للمسيحيين في أوروبا وأمريكا من المصائب الكثيرة ” الزيجات” المتعثرة..
والطلاق في الإسلام مكروه وهو أبغض الحلال إلى الله كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا ما حصل الطلاق فهو بتدريج كي يفسح للزوجين مراجعة نفسيهما، وأن تكون هناك الواسطة بالصلح.. إلى إن تستنفد كل الوسائل التي ذكرها القرآن الكريم، عند ذلك يصبح الزواج عبئاً على الزوجين والمجتمع، فلا يعالج إلاّ بالطلاق على كراهيته.
وفي الفصول الأربعة الأخيرة من هذا الكتاب ينظر العقاد في موضوع السراري والإماء مبيناً نظر الإسلام في تشريعه للعتق وتحريمه للرق، وأقام موازينه لمواجهة مشكلة كانت أساساً قائمة باعتباره دين كرامة إنسانية لا دين عنصرية فوقية.. وفي موضوع معاملة المرأة مثل معاملة القانون، والنسب والأدب، فللقرآن الكريم شرعيته المحكمة في كل نوع من أنواع هذه المعاملات؛ فالرجل والمرأة سواء أمام القانون، والمرأة محترمة في القرآن الكريم أماً وبنتاً وزوجة، أما معاملة الأدب فهي مقترنة بالمعروف والحسنى باعتبار أن نموذج المرأة في القرآن الكريم قائم على دستور( المرأة الخالدة) في وظيفتها النوعية والتي على أساسها قام البيت والمجتمع.
ويعرض العقاد لنظام الأسرة في القرآن الكريم؛ فالرجل هو العائل وأبو الأبناء وبيده زمام الأمور، والزوجة معه بوظيفته الكريمة، وغير ذلك إما أن ينفرط عقد الأسرة فيغنّي كل واحد على ليلاه أو تصبح الشرطة ووسائط الصلح ودور القضاء مرجعاً يومياً ليوميات هذه الأسرة..
وينتهي في الفصل الأخير إلى مسالة مهمة هي أن القرآن الكريم وامتداده عبر الزمن حمى المرأة من أي مساس بحقوقها، قال تعالى:﴿ واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا﴾ النساء/34 وقدّم العقاد قراءة لهذه الآية، أثبت من خلالها صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان.
وفي تعقيبه على ما مر من فصول حول قضية المرأة يرى أن تاريخ هذه القضية في الغرب مثقل بما حمل من جهالة الوثنية وخرافة القرون الوسطى ومعارك الدين والدولة في القرون اللاحقة، وما أصابت المرأة من رعاية ممنون بها في القرن التاسع عشر.
وأما المرأة الشرقية فلها قضيتها أيضا المتعلقة بعواطفها وأخلاقها، وتكوينها واستعدادها، ووظيفتها في الأسرة ووظيفتها في الحياة العامة إلى أن أدركت الشريعة الإسلامية قضية المرأة وجعلتها في نصابها الحقيقي الذي حقق للمرأة كرامتها، ويصل العقاد إلى أن( ملاك العدل والمصلحة بين الجنسين أن تجري الحياة بينهما في الأمة على سنة التعاون والتقسيم لا على سنة الشقاق والتناضل بالمطالب والحقوق).
رواية( سارة)
هي الرواية الوحيدة للعقاد، ولا تصنف هذه الرواية عند الكثير من النقاد في السياق الروائي لأسباب عديدة منها:
-
فيها ثلاث شخصيات رئيسة هي: المؤلف والراوي وسارة.
-
كتبها العقاد على هيئة سلسلة مقالات في الهلال تحت عنوان:( مواقف في الحب) وتحدث فيها عن قصة حب عاشها، وما سارة إلاّ اسم مستعار لفتاه أحبها.
-
ثم اندمجت الشخصيات الثلاث في شخصية واحدة هي( همام)، وفق قول العقاد( أم أن صاحبنا، وليكن اسمه هماماً، وليكن منذ الآن سارة).
أما أحداث الرواية فتدور حول امرأة شابة هي سارة، تعرف عليها همام عند أحد أصدقائه في منزل مستأجر تديره امرأة فرنسية تدعى ماريانا، ويعجب العقاد( همام) بسارة وتتطور العلاقة إلى مواعيد وخلوات، وهمام رجل مثقف وذو شأن في وسطه الاجتماعي، وتنتهي الرواية بعبارة:( أليس من الجائز أنها وفت لك في أيام عشرتها واستحق وفاءك لها وصيانتك إياها وغيرتك عليها؟ أليس من الجائز أنها يئست منك فزلت بعد الفراق ؟).
عند قراءة الرواية ينبغي أن ندقق في الشخصيات: سارة وهمام شخصيتان رئيستان، ماريانا وأمين شخصيتان ثانويتان، وزاهر شخصية وسطية، وهند هي الشخصية المفاجئة عرفها العقاد قبل سارة وأحبها، هي عند جلاء الأمر( مي زيادة)، ويقول العقاد على لسان همام:( لو جاءت هذه الزيارة في بداية علاقته بسارة لما كان بعيداً أن تقضي على تلك العلاقة، وأن تصبح سارة اسماً مغموراً).
وتكشف هذه الفقرة عن خبيئات النفس العقادية تجاه المرأة، فعلاقة همام بهند قبل سارة هي علاقة متبادلة كما نقول( رأس لرأس)، ويدرك القارئ لرواية( سارة) مدى نقمة العقاد على المرأة بدليل ذكره أن المرأة جاءت متأخرة، إي أنه برر لنفسه اللعب بالمرأة والخيانة، فضلاً عن ورود عبارات كثيرة أشاد فيها بالرجل على حساب المرأة، مبرراً كرهه للمرأة بأنها السبب في هلاك الرجل والحكمة.
ويتبين لنا في الرواية أن همام هو الرجل المحب المخلص وسارة هي المرأة المتمردة على العادات والتقاليد، فضلاً عن تفردها بحبها وأنوثتها، وأدت شكوك همام في سارة إلى أن يقرر الانفصال عنها رغم عدم وجود دليل واحد يثبت خيانتها.. وهذا ما يؤكد لنا أنه في بحثه للمرأة مجرد مفكر لا أديب، وظّف الفكر لخدمة الأدب، أو بمعنى آخر وظّف الفكر والأدب لخدمة غاياته الفكرية ومنها موقفه من المرأة، وسارة هي مواقف مكتوبة لا أحداث مُعاشة.
تعقيب
هذه جولة سريعة في بعض كتب العقاد التي أودعها آراءه في المرأة ، وقد رغبت بأن يكون عنوان البحث( مثلث المرأة عند العقاد) لأسباب هي:
-
أنني رأيت في الكتب الثلاثة( المرأة هي اللغز، والمرأة في القرآن الكريم، وسارة) أنسب ما يوافق فكر العقاد وهو يواجه إشكالية المرأة، فأينما ذهبت في هذه الكتب رأيت العقاد واقفاً بصلابة أمام آرائه.
-
وأنني وجدت العقاد لا يراوح مكانه بين الزوايا الثلاث لهذا المثلث هي: المرأة الغاضبة، والمرأة الصريحة ، والمرأة الوهم؛ فالأولى كانت لغزاً دار حولها وكأنه يبحث عن أبواب هذا اللغز ونوافذه، ودخل إليه من فكره، وفي بحثه المستفيض تراه موافقاً للمنطق، فيقع القارئ في مصيدة منطقه فيقتنع بآراءه، وأما الثانية فهي كالعقاد تماما في صراحته واندفاعه ومن يقرأ المرأة الصريحة فإنه يقرأ العقاد نفسه، وأما الثالثة فكانت متخيلة وإن نسجت خيوطها من الواقع وتأخذك حججه من عوالم الوجدان فتسلم له مقنعاً.