صلاح فضل وأساليب الرواية العربية المعاصرة

(ثقافات)

صلاح فضل وأساليب الرواية العربية المعاصرة 

صالح الرزوق

يقلل الدكتور صلاح فضل في كتابه “أساليب السرد في الرواية العربية”* من  شأن الإيديولوجيا في الفن، ويصنف الرواية العربية في ثلاثة حقول: درامية وغنائية وسينمائية. ويشير لعدم وجود جدران تعزل كل حقل عن الآخر. ويؤكد أن التداخل مشكلة واردة وكأنه يردد ما سبقه إليه بيار بوردو: أن الحقول مساحات متوازية ولكن تقطعها أيضا خطوط أفقية، تعبر عن نتيجة الصراع بين الأسباب، وهي خطوط القوة. فاتجاه الكاتب وطرق تفكيره تحدد شكل وبنية الأسلوب.  والقواعد الفنية لا تأتي من الفراغ، ولا يمكن لكاتب محافظ أن يعبر عن نفس الفكرة مثل كاتب حداثي، لسبب بسيط أن الإصلاح  شيء والثورة شيء آخر. مع ذلك يضع الدكتور فضل رواية “يوم قتل الزعيم” لمحفوظ مع رواية “خالتي صفية والدير” لبهاء طاهر في مصفوفة واحدة، وهي الروايات الدرامية، رغم وجود خلاف راديكالي بين الكاتبين. فالعمل الأول يتطور باستعمال أسلوب الأصوات، ويفرض على الشخصيات أن تعرفنا بنفسها دون وسيط. بينما تتكفل عدة محاور بتطوير وإنضاج دراما الشخصيات عند طاهر. ولذلك تشارك الشخصية الواحدة في استكمال إدراكنا بالبقية. ومع أن موضوع رواية محفوظ سياسي كان أسلوبه اجتماعيا، حتى أنه لم يهتم بحركة التاريخ، وكانت الأزمة منذ البداية هي الحبكة ذاتها، بمعنى أن الأحداث تراكمت ولم تتطور. وهو ما يعكس موقفا ثابتا من الصراع، ويخفف المشكلة من تناقض تاريخي إلى عداوة شخصية. بينما أغنت اللغة الحضارية في رواية طاهر علاقة المجتمع بالأرض، وأعطت للتاريخ قيمة إنسانية ومكانية بوقت واحد. ولم يكن الفضاء محجوزا داخل وعي وإدراك المجتمع، ولكنه تطور ضمن شبكة من العلاقات المتعاكسة. وإذا كان الدكتور فضل يعتقد أن أهم عناصر الأسلوب الدرامي هي الجغرافيا والتاريخ ثم المنظور وأخيرا المادة، هذا يكفي لعزل  “يوم قتل الزعيم” عن “خالتي صفية”.  فأول رواية لم تهتم لا بالمكان ولا الزمان، وراوحت في دائرة ضيقة من وعي شخصياتها المأزوم.  وحرصت ثاني رواية على إجراء محاكمة صامتة بين البيئة الثابتة والتاريخ النفسي والاجتماعي المتحرك في داخل كل شخصية، ومتابعة الانعطافات الدراماتيكية على وعي الأفراد. ولو ذهبنا مع الدكتور فضل خطوة للأمام وتوقفنا عند سيميائية العنوان لا بد أن يلفت انتباهنا فلسفة الأقلية. فالرواية تدور أحداثها في ريف الصعيد ومع ذلك يتصدرها عنوان نصفه نسائي (الخالة صفية) ونصفه الآخر دين قديم حل محله دين جديد (الدير، وهو رمز للألم وتطهير النفس بالعذاب – هذا غير أنه جزيرة قبطية في محيط إسلامي). وقد  ربطت بين الطرفين، بواو العطف، صيغة تراكمية. أو بتعبير الدكتور فضل: ربط العنوان جدلية عوالم الفرد – المغدور به مع مجتمع ديني له قوانينه وأنظمته.

وعلى وجه العموم لا نستطيع أن نتعامل مع نجيب محفوظ على أنه كاتب روايات سياسية. فهو يقدم لنا في مجمل أعماله رؤية للمجتمع، ثم رؤية ذهنية لسقوط نماذج من الطبقات الدنيا، وصعودها إلى البورجوازية الصغيرة، مع التأكيد على الصراع بين الأبناء والآباء – على شاكلة الرؤية التحليلية التي تبناها إسماعيل ولي الدين في “حمام الملاطيلي” وفي “أبناء وقتلة”. وعلى ما يبدو أن صراع الأجيال يشير في الرواية المصرية إلى وعي اجتماعي بأزمة النظام. وكان العقل الوطني في مصر يفهم المجتمع على أنه لغة مواربة للتعبير السياسي. وإذا خرج بهاء طاهر على هذه القاعدة الذهبية فذلك فقط لأن أبطال أعماله حملوا بذرة التمرد على أنفسهم، ولم يكن اللاحق يعتدي على السابق ويلتهمه، وإنما البنية الأقوى هي التي كانت تغطي البنية الأضعف، والتوتر – وبالتالي كان الصراع بين عدو داخلي وآخر خارجي، وهو موضوع “واحة الغروب” التي ترمز أحداثها لصراع بين الحضارات والأديان. وكذلك هو مضمون روايته “الحب في المنفى”، فقد تابعت الأزمة الوطنية في سياق عابر للقوميات والأجناس، أو من مفهوم فوق كلاسيكي للهوية الوطنية. وبلغة أوضح: لم تتطابق حدود الأحداث في التاريخ مع حدود الحدث النفسي، وأصبح بطل الرواية شخصية بحدود متحركة، وتشتمل على المعنى الدرامي والملحمي في آن واحد. وفي هذه الرواية كان الوعي الوطني أقوى من وعي الهوية، أو أن الانتماء كان تاريخيا وحضاريا. وإذا كان لا بد من أن نعزو لمحفوظ قيمة سياسية يمكن أن نجدها بأفضل صورها في “العائش في الحقيقة”، وهي  رواية أصوات ولكنها تتابع أزمة سياسية في قالب تاريخي، ويجوز لنا من خلال الإسقاط والمجاز أن نطبقها على اختناقات الواقع الراهن. وربما كان يشير، بصراع زوجة أخناتون مع الكهنة ودعوة أخناتون للتوحيد، إلى الصراع الدموي الذي دار بين رموز ثورة يوليو: محمد نجيب وعبد الحكيم عامر وعبد الناصر، وما تخلله من تصفيات.

ويجوز أن نجد في “القاهرة الجديدة” أيضا صورة عن الحياة السياسية، أو على وجه أدق الحياة الحزبية، ويمثلها بصعود ثم سقوط شخصية محجوب. ومن غير المجدي أن لا ننتبه لتشاؤم نجيب محفوظ في قراءته للواقع الوطني. إذ أنه لا تخلو رواية له من نهاية عبثية. ومن الواضح أنه يضع المكان فوق التاريخ، فمصر برأيه باقية لكن مجتمعها المعاصر يواجه خطر المحو والزوال. وكل رواياته تنتهي بالانتحار (القاهرة الجديدة) أو الاستسلام (اللص والكلاب)  أو القتل (الطريق). وأنا مع الدكتور فضل حين وجد في رواية “يوم قتل الزعيم” تعادلا في الإيقاع على مستوى الزمن والكتابة. والمقصود تساوي حركة الشخصيات في الواقع وفي النص، وإتاحة الفرصة للشخصيات في السرد والحوار كي تنقل لنا الوقائع (والتعبير الأخير للدكتور فضل). ويبني على ذلك مجموعة من التوازيات في البنية الحاضرة مقابل البنية الغائبة، فالرواية تهتم بتصوير جيل الجد (ما قبل يوليو) وجيل الأحفاد (سياسة الانفتاح)، وتركز على نمو رقعة الروح الدينية ودورها في توجيه الواقع المصري وتدوينه، مقابل غياب شبه تام لجيل الأب والأم (ثورة يوليو)، وما رافقه من اهتمام بأساليب تصدير صورة مصر للخارج، وهي صورة مصدوعة ودون بنية تحتية، وتعمل من خلال نشاط جهاز بيروقراطي يسيطر على مفاتيح السياسة. ومثل هذه البنية أدت للتركيز على ثلاث أدوات هي: المشهد (الوصف وتيار الوعي)، التكرار (يسميه الدكتور فضل الإحاطة لأن الشخصيات تعود دوما لحدث واحد)، المفارقة (نقاط الذروة أو المآسي الفردية التي تشترك بصياغة تراجيديا المرحلة). ومن المؤكد أن محفوظ استعمل أسلوب المفارقة في عدة لحظات فنية من تجربته، وأهمها مفارقة الراكد والمتحرك في “ثرثرة فوق النيل”، ومفارقة العملي والنظري في “السراب”. وفي الحالتين كان يبني على قانون التناقض، ولكن بطريقة تهكمية وساخرة، مما يدل على حيرته وتردده. فهو من الواضح غير مؤمن بثورة يوليو لكنه أيضا دون علاقة عضوية بالنظام الملكي. والحقيقة أنه لم يقدم أي تفسير جوهري لواقع الطبقة الأرستقراطية أو طبقة العسكر الذين احتلوا مكانها، وبقي طيلة رحلته يتابع الظل الباهت لشخصيات منقرضة في السلم الاجتماعي، وليس لها قيمة، ولا تعرف كيف تواجه الأزمات، ويكفي أنه تكلم عن أثر الحرب العالمية على أحياء القاهرة – من الداخل، ولم يقدم ولو إشارة واحدة عن حروب العرب مع اسرائيل، وكأن شخصياته تعيش في غيبوبة سياسية. وهذا يدفعنا للتمييز في أدبيات محفوظ بين وعيه الوطني ووعيه السياسي. فالأول له صيغة اجتماعية، والثاني له صيغة مكانية. والسياسة في أعمال محفوظ صامتة، ولكن آثارها ناطقة، وهذه آخر مفارقة يمكن أن نسجلها له.

ويعزف الدكتور فضل على نغمة الصمت في قراءته لرواية “الولاعة” لحنا مينة. فهو يضفي عليها أربع صفات: البساطة والكلاسيكية في السرد، انفصال المحاور وتقديم حبكتين متضادتين (حب بين شاب وفتاة وعمل سياسي سري بطله زوج الأم)، ارتفاع صوت اللغة الإيديولوجية، استعمال اللغة الثالثة – مزيج من الفصحى الخفيفة والعامية الراقية. وبرأي الدكتور فضل أسكتت هذه الوصفة الفنية عدة عناصر تعتبر من صميم جوهر فن الرواية وهي: الروح العصرية في أساليب التعبير، فتور الدراما، خلل وتصدع البنية، وأخيرا ضيق أو خنق الرؤية. ويضيف أن “الولاعة” رواية ملوثة دخلت إليها شوائب القصيدة المدورة وأدوات المسرح التجريبي (محدودية المكان واتساع رقعة الحوار)، والاتكال على الكنايات (وهي صفة ملازمة للسرد الواقعي كما يقول جاكوبسون). ولكن بصراحة مطلقة لا يسعني أن أعمم مقولة ياكوبسون الصائبة على رؤية حنا مينة للفن. فالكناية تعكس نوعا من العجز المقصود في الكلام، وتفرض على اللغة فراغات، والتي هي جزء من شعرية الكتابة. ويصح مثل هذا الكلام لو أننا في نطاق الواقعية الموضوعية أو الطبيعية (نموذج بلزاك وزولا – أو الواقعية الإصلاحية – نموذج ديكنز – وروايات البيكاريسك – نموذج دانييل ديفو). ويمكن تتبع الكناية بين العرب عند نجيب محفوظ ومحمد ديب والطيب صالح ولكن ليس مينة. فهو يربط الواقعية بالتعالي الرومنسي على الطبيعة، ويضع الوعي التجريبي قبل الإدراك. وبذلك يساوي بين قيمة العمل وقوة المعرفة. ومن المؤكد أنه ينظر للمعرفة كأداة طغيان واستبداد فوق طبيعية، مقابل قيمة العمل التي تحقق للذات التساوي مع الكل الاجتماعي والإلهي. وأعتقد أن اشتراكية مينة لها فهم كاثوليكي، فالحلول يكون في الآب والابن. وهذه هي أبسط مصالحة تلغي الصراع الطبقي بين الموجد والموجود أو أنها توزع المردود الروحي بالتساوي على أطراف الانتاج. ولغة من هذا النوع لا تترك فراغات ولكن تحرص على المساواة بين الدال والمدلول، بحيث يكون للعبارة معنى واضح ناجم من وضوح الكلمات ومعانيها. وهو أبسط شرط من شروط مسؤولية الأديب في الواقعية الاشتراكية. أما اللازمة الأساسية في أعمال مينة هي فكرة الصراع الملحمي بين الغرائز – الطبيعة القاهرة أمام عضلات الرجل وإصرار الرجل غير الهياب والطائش والانتحاري. وأعتقد أنها بقايا أحفورية رومنسية لشخصيات ألهمت زمرة من السياسيين في عصر التحولات الكبرى ونشوء سرديات ثورية في القرن التاسع عشر. وربما لهذا السبب أخذ محي الدين صبحي على رعيل حنا مينة كله ما يسميه تزييف الواقع وتضخيم دور الشعارات وتأجيل التحويل الاجتماعي الحقيقي.

ثم ينتقل الدكتور فضل إلى الأساليب الغنائية، ومن أمثلتها عنده “هنا الآن” لعبد الرحمن منيف، “هاتف المغيب” لجمال الغيطاني، “تجربة في العشق” للطاهر وطار، “كناسة الدكان” ليحيى حقي و”سرايا بنت الغول” للفلسطيني إميل حبيبي. ويختم دراسته بالأسلوب السينمائي وأهم أمثلته برأيه “وردية ليل” لإبراهيم أصلان و”ذات” لصنع الله إبراهيم.

ويجمل خصائص الشكل الغنائي بما يلي:

*اللغة هي التي تنتج الواقع بالتبادل والحوار ولذلك تمثل الواقع عند المتكلم وتعيد تمثيله عند المستمع.

*المعنى لا يتحقق بشكل جازم ولا يكتمل إلا بالنظر والموازنة مع تشكيلات كتابية خارج النص.

*والمعنى ينتقل من مجال التاريخ لمستوى أو فضاء أسطوري.  ولذلك إن كل فكرة ترقى لتكون مجازا أو كناية عن فكرة غيرها تتطور في أمكنة وأزمنة مختلفة. وهذا هو جوهر اللحظة الغنائية في أي أسلوب. وسبق لمحمد كامل الخطيب أن سمى هذه الظاهرة بالموقف الغنائي للسردية العربية.

*فقدان الوعي بالفارق الذي يفصل لحظة الحدث عن لحظة التذكر.

*ثم أخيرا سيطرة الضمائر الشخصية والكلام بلسان الأنا.

غير أن مثل هذه التعريفات لا تساعد على اكتشاف الفرق بين أدبيات السجون (ومن ضمنها “دفاتر غرامشي”) والأدب المتحول من الخيال الشعبي (نمط “سرايا بنت الغول”) أو أدبيات التصوف والانخطاف (وهي رحلة ذاتية تذوب فيها الفروق بين الحدود – أو تلغي الحدود نفسها لتحقيق الجوهر الواحد – نمط “هاتف المغيب”). ثم الأدبيات السريرية – بمعنى العيادية (ومنها رواية وطار “تجربة في العشق”). فاللاز – النبي أو المسيح الشعبي عند وطار هو حلقة من تداعيات سريرية على شاكلة “مالون يموت” لبيكيت، ويكشف بها عن مظاهر وتجليات الوعي الباطن. ويكفي أن أدب الخيال الشعبي يدور حول جهل الجاهل بينما أدبيات التصوف تركز على جهل العارف. في حين تحيط بأدب السجون سياسة التجهيل والعزل الاحتياطي. وتفرض هذه الاختلافات استعمالا مختلفا أيضا للغة ولفضاء التخيل. فالصيغ والتراكيب تكون خاصة أو ذاتية أو عامة، بينما تضيق الجغرافيا أو تتوسع (حسب كل نمط). بالإضافة لاختراع لغة تواصل موضعية في أدب الرقابة (منها لغة مورس ولغة الإشارة بالأطراف، ولغة اللقى والعلامات، (ولا يفوتني هنا التذكير بنوفيلا مضغوطة لناديا خوست هي في “سجن عكا” ومذكرات بهروز قمري التي تحمل بالعربية عنوان “قافلة الإعدام”)، وفيهما يتحاور المساجين بالدق على الجدران أو اللجوء لما يسميه ف. س. فوندرز في كتابه “من دفع للزمار”: الكذب الضروري.

ثاني مشكلة هي إخفاء الخصوصيات. فروايات منيف تعتمد على المحاكاة وواقع الحال. ولتحقيق ذلك يتعايش الرواة في مستوى واحد من الواقع. بينما يختار الغيطاني لروايته مستويات متباينة خيالية أو واقعية، ولكل واحد منها لغته. وإذا كانت مصادر الشعرية موجودة في الواقع والخيال يصعب التغني بالتخيل. وبالأصل الخيال هو إعادة وعي لما نعقله. في حين أن الواقع هو وعي المعقول فقط. ومهما كانت المبالغة قاسية – تبقى في إطار ممكن. كذلك يوجد تباين في المصادر، فالواقع يكتشف نفسه لكن الخيال يعيد تركيب مكتشفاته.

وإذا خصص منيف كل أعماله لتجربة السجن السياسي تناوله الغيطاني بعمل واحد هو “الزيني بركات”. لكن لا يمكن أن توازن بين الاثنين.

فمنيف يتكلم عن تألم مسيحي، له موضوع واحد وهو التحمل القسري، بالمقابل يختار أبطال الغيطاني المشقة. وهذا يحدو بي للنظر إلى منيف على أنه صوت غاضب يعارض الواقع في حين تبدو معاناة الغيطاني وكأنها تعارض جزءا من الواقع فقط، وهو دولته أو نظامه. وربما لهذا السبب ألح الغيطاني على تفاصيل المكان – ورسم صورة ظلامية لأقبية وشوارع وقصور القاهرة المملوكية وأسدل منيف ستارا من التعمية، وترك المدينة دون اسم، وحرص على تعويمها فوق جغرافيا مجهولة.

وأغتنم هذه المناسبة لأنوه بظاهرة منيف. فهو ليس كاتب روايات فقط، ولكن لديه مشروع روائي يحاول جهده أن يحقق فيه شرطين أساسيين هما ديمقراطية اللغة وشعبية الأفكار. ولكنه عوضا عن أن يقع اختياره على بنية توازي بنية كاتب من أتباع الجيل الضائع – وهم كل من يحمل خصائص نضالية منتمية يعارضها القلق الثقافي بسبب تقصير المؤسسات والتنظيمات في تحقيق الأحلام التي وعدوا بها، ومن هؤلاء همنغواي وسيمون دوبوفوار، وقع اختياره على خليط عجيب من خيال تولستوي الطبيعي، وقصص الطريق الأمريكية. ولذلك كان يتأرجح بين حواريات تندرج في مستوياتها من اليومي حتى النخبوي، وبين استعراضات هي من خصائص الصالونات. ويبدو أن الواقع الجزئي وتطويفه بشكل واقع عضوي هو حبكة كل أعمال منيف. وعليه أعتقد أنه كان يبتعد مرحليا عن الرواية ليقترب من شكل شهادة فنية لعقلنا المفقود والذي درجنا على تسميته باسم نظرية حركات التحرر العربية. وربما لا يعادله في تشعب هذا المشروع وسرديته غير خطاب إدوارد سعيد الذي اعتمد على لغة التأمل الروحاني والحض على تحرير العقل من القوالب الحديدية التي تضطهده وتمنعه من التمدد والتعافي. وبكل بساطة أسأل نفسي الآن: أين الغنائية والذاتانية في هذه الحالة؟ إذا أخذنا “نشيد الإنشاد” مثالا لجو وخيال الذهن الغنائي ما علاقة الأمثلة المذكورة هنا به؟. لا يوجد في ذهني ولو إشارة واحدة تدل أن رحلة ابن بطوطة أو تجوال ابن فضلان في بلاد العجم عمل غنائي. عمليا لا تخلو كتابة من حس غنائي أو خلفيات عاطفية – ورومنسية. لكن الإنشاد والانكشاف والتجلي وتحاور ذات مع قرينها حدت منه في هذه النماذج جدران السحون وأبوابها الحديدية، ووعورة الطرقات، والرواحل، والألبسة الخشنة. إنها كلها معاناة مع تاريخ طويل من التعذيب والقهر والمنع. وقد قاربه إميل حبيبي بلغة ساخرة متهكمة، وتأمل فيه منيف بلغة عقلانية هي من خصائص أيام القحط والحداد التي تحيط بحياتنا. ولكن العقل العربي لا يخلو من عودة لاكتشاف الذات (والأمثلة على ندرتها موجودة ولكن في أدب المرأة، ومن ذلك رواية علوية صبح “أن تعشق الحياة”، فهي أنشودة في حب الحياة والتمسك ولو بخيط أمل ضعيف). ولكن ساعدتنا قراءة الدكتور فضل على فهم واستيعاب دلالات لغوية لا يعرفها غيره. ثم إنه هو من قال في قراءته لرواية “هنا الآن”: إن منيف يعمد للإطالة والتوثيق وإلى تكديس البيانات بطريقة تراكمية، وهو ما يمنع القارئ من إتمام أعماله الضخمة. فالرواية هي حكاية نموذج  إنساني فريد من نوعه، وليست تحليلا نظريا على لسان شخصيات ترتدي أفنعة (والكلام للدكتور فضل أيضا).

وبوجيز العبارة أرى أن الأسلوب الغنائي لا يختلف عن الأسلوب التعبيري. كلاهما يحاول سرد الخبرات أو الانطباعات بطريقة ذاتية. وربما لم تنتشر هذه الطرق إلا بعد الستينات، وأخص بالذكر عبد الرحمن مجيد الربيعي من العراق، وغادة السمان (البواكير – أول أربعة : أقصد مجموعاتها القصصية الأولى)، وفي الوقت الحالي حيدر حيدر. فالموقف من مشاكل البيئة والمجتمع والعمل السياسي كان ذاتيا ومصدوعا، قليل الاتصال بالظروف، ولا يعبر إلا عن أوجاع ومحنة شخصانية. وبتعبير غوضح كانت ظاهرة البطل المركزي تؤثر بدوائر بقية الشخصيات – إن وجدت. حتى أن قصص غادة السمان لا تعترف بالآخر ولا ترى غير أشباح ملقاة على جدران بنيتها الداخلية. ولذلك غلب على السرد صفتان.

الأولى أن الكتابة وسيلة تفريغ واعتراف، وليست وسيلة صراع وشحن. وكل أنواع الجدل والخلاف تأخذ منحى عقيدة نفسية. حتى السياسة لا يمكن تفسيرها إلا من خلال وضع الشخصيات في دوائر مغلقة.

الصفة الثانية محاولة تعبئة الآخر أو تجييره لحساب مشاعري وتفكيري. وهي صفة لا تركز على الإقناع والمقايضة بل على الافتراض والقسر. وهذا ألف باء الواقعية الاشتراكية. فهي تناشد الواقع والطبيعة البشرية كما لو أنهما مسخران لمصلحتي دون أي تمييز بين واقعي وواقع الآخرين. وحتى دون تفريق بين العاقل وغير العاقل باعتبار أن الاثنين مادة. ولا ينتمي لهذا التيار من العرب غير حنا مينة. فهو واقعي إيجابي يضع الكدح بجانب الثقافة (كما في قصة “على الأكياس”. أو رواية “الثلج يأتي من النافذة”. أو حتى في روايته الضعيفة “القطاف”). وإن كان لا بد من الكلام عن مشابهات أستطيع أن أجد أصابع إيتماتوف وليس غوركي. ومثلما كان إيتماتوف حائرا بين المادة والروح – بقراءة مثالية تساوي بين الجانب الروحي وكل نشاط آخر مصدره الحياة النفسية والذهنية، كان مينة مترددا في مواجهة العالم. وأي قراءة عمودية لأعماله تكشف عن قوة الرموز الدينية عنده، وفي مقدمتها صور المسيح، ورمزية درب الآلام، و قيمة الفداء والأضاحي. مهما حاول أن يجسدها بصور مادية لا يستطيع تنقيتها من القاموس الإنجيلي. وأية موازنة بين لغة جبران في “النبي” ولغة مينة في “الثلج يأتي من النافذة” يؤكد مركزية الوحي الإلهي في اللغة. ولا تؤخذ هذه القرينة ضده، فهي ظاهرة معروفة بين عدد من اللادينيين ومنهم نورمان ميلر (في “إنجيل الابن”) ود. ه. لورنس (في ثلاثيته: “عشيق الليدي شاترلي”، ىقوس قزح”، “كنغارو”). وقد تعقب هذه الظاهرة بيتر بريستون في دراسته (الاستحمام بكلمات الرب). ولذلك أعتقد أن مينة نموذج للموقف الغنائي وليس الدرامي.

بقي الأسلوب السينمائي. ويعرفه لنا الدكتور فضل بشيء يوازي الوصف أو المشهد إن استعرنا مصطلحات النقد البنيوي التقليدي – بمعنى أساسيات القراءة البنيوية. فهو ينقل ولا يصف، ويلاحظ ولا يحلل أو يعقب، وتختفي الشخصيات وراء عدسات نظاراتها. ولهذا السبب تحتل الصور والألوان والأشكال كل المساحة.  وعموما يحدد الدكتور فضل صفات هذا الأسلوب بالشروط التالية:

*الاهتمام بالمكان وليس الزمان.

*العناية بالتوقيت من خلال قرائن: ظلمة أو نور، ساعة جدارية، إلخ…

*استنتاج المرحلة التاريخية من تبدل في مظهر الأشخاص وشكل العمران.

*تقريب وإبعاد المنظور كما لو أننا نستعمل عدسة كاميرا على أن يفيدنا ذلك بمعلومات جديدة تساعد على بلورة الأحداث.

*استعمال الإيحاء بالعواطف وليس الإبلاغ كطريقة المصافحة أو حمل كأس الشاي أو تقديم الضيافة.

ولا يوجد أي اعتراض على هذه المعايير، وإن كنت أفضل استبعاد “ذات” لصنع الله إبراهيم من هذا السياق. فهي رواية تسجيلية تستعمل الوثائق والاعلانات والأخبار لزيادة الاندماج بواقع اللحظة. ولصنع الله رواية سينمائية واحدة هي “بيروت.. بيروت”. وأساسا تدور حبكتها عن محاولات كاتب سيناريو لبيع كتاباته. ويستعمل كل أساليب السينما ومصطلحاتها مثل قطع، زوم، لقطة قريبة، بعيدة وما شابه ذلك. وفي ذاكرة الرواية العربية عدة تجارب تدمج السرد بالتصوير ومنها “سلام” لهاني الراهب، و”عبر الليل نحو النهار” لمحمد الراوي، و”تحريك القلب” لعبده جبير.  بالإضافة لأجزاء من رواية “شرف” لصنع الله.

أما “ذات” بالتحديد فهي تدخل في ما نعتبر أنه ميتا رواية. بحيث يكون التركيز على المادة – موضوع الحدث. ولكن يتم توزيع الحبكة بين المتن والهامش، وبأسلوب تجاور وتضاد تغني به الحواشي البنية السردية. ولا أجد تفسيرا لهذا الأسلوب غير رغبة الكاتب بإلغاء التغريب الذي يقترن بالمحاكاة والاتكال على الواقع الواقعي. فهو بالإضافة لانتقاء عناصر من الواقع يرفدها بأساليب واقعية في التواصل. وربما تمثل هذه الصفة بقايا أحفورية لأسلوب طالما كانت بواكير الرواية تدين له وهو التراسل و كتابة اليوميات والمذكرات.

وأسلوب الرؤية من الخارج في “ذات” لا يكفي لإضافتها إلى حقل الرواية السينمائية. فهي تفتقد لصيغة الكرنفال – مهرجان الأصوات والألوان الذي يضيف معنى للحركة والمشاهد. وأعمال يحيى حقي كلها خارجية وتهتم بقوة الإبصار قبل الاستبطان. وقل نفس الشيء عن كلاسيكيات نجيب محفوظ وتوفيق يوسف عواد منذ بداياته في “الرغيف” وحتى نهاياته في “طواحين بيروت”. ولا أجد أفضل من “ذات” لتكون مثالا على نجاح الأسلوب التسجيلي. فقد سخرت عدة أساليب: اختيار المواد، توزيعها على كتلة السرد، توظيف الكولاج بطريقة درامية وليس تراكمية بمعنى وجود علاقة أو تقاطعات تتطور بالتدريج بين الأجزاء. وهذا الأسلوب ليس غريبا على الفن التشكيلي وبالأخص في الاستفادة من النفايات واللقى (وهو مجال نشاط الثنائي العراقي علي رشيد والهولندية كيتا باردويل). ولذلك يمكنني اعتبار “ذات: نموذجا على الرواية التكوينية -genetic novel. وهو أسلوب هجين يجمع في بناء واحد التوثيق والتشكيل.

وفي كل هذه القراءات لا يفوت على أحد ثلاث ملاحظات:

الأولى إغفال الروايات الريفية. وحتى النماذج التي دارت أحداثها في الريف، التزمت بالمكان دون أي اهتمام باللحظة. بمعنى أن العلاقات كانت بعيدة عن هموم الأرض والفلاحة وكأن الموضوع هو الريف الأوروبي لا العربي.

الملاحظة الثانية غياب أي إشارة للانقلاب الاجتماعي الذي حول المدينة من جغرافيا متكررة إلى جغرافيا حاملة، أو لنشوء ظاهرة مجتمع داخل مجتمع آخر. ولا يخفى على أحد أن الحرب الباردة مزقت المدينة العربية بعد الاستقلال قبل أن تمزقها سلسلة الحروب الأهلية. وكانت معظم، إن لم نقل كل، المدن الكبيرة مقسمة بجدار من الأخلاق والمصالح على شاكلة تقسيم مدينة برلين، وبعدها مدينة القدس. أضف لذلك الانقلاب البدوي، الذي حول اقتصاد الصحراء من ظاهرة تعتمد على المغالبة إلى اقتصاد استثماري مرتد، له قوانينه الفنية والروحية (وقد صور ذلك سعود السنعوسي في روايته الصغيرة “ناقة صالحة”). وما يحسب لهذا العمل هو فتح المناطق الرمادية التي لم يفهمها الرواد، أمثال نعمان القساطلي مؤلف “مرشد وفتنة” 1880 والعجيلي مؤلف “بنت الساحرة” 1948 وحتى شكيب الجابري الذي كتب روايته “وداعا يا أفامية” مرتين. الأولى بعنوان “فتاة من أفامية” عام 1956 ولم تنشر والثانية عام 1960 بصيغة منقحة ومعدلة. وكلتاهما تعاني من سوء تفسير للعلاقة بين الروح المادية والمادة الروحية.

آخر ملاحظة الاهتمام بعلبة المصطلحات الغربية التي تدعي أنها ذات توجه فني وعلموي – موضوعي، مع أنها بالحقيقة نتاج حرب دامية ضد النازية والفاشية. ولا أحد يمكنه غض النظر عن دور مؤتمر الحرية للثقافة الذي مول عشرات المشاريع ومنها مجلة Encounter ثم مجلة “حوار”. ولمن لم يسمع به، هو أحد آباء جمعية قلم الدولية Pen International، وصورة بالمرآة لمؤسسة فورد فاونديشين، صوت القرن الأمريكي. وحتى لو آمنا أن النقد الغربي بريء من السياسة لا يمكن إنكار إعلامنا الموجه، فهو تحت الحراسة مثل وزارة الدفاع. واغتيال المثقفين والتمثيل بهم ليس مسألة نادرة، لا في فترة الاستعمار المباشر، ولا حتى بعد الربيع العربي. والأمثلة كثيرة ولكن أشهرها حالة عقيل علي وكامل شياع في العراق، والروائي شكيب الجابري في سوريا. ثم إنه يصعب علينا التنبؤ بالمسموح والممنوع، بسبب عدم الاستقرار، حتى أن المشكلة تبدو وكأنها مخالفة لإشارة مرور لا تعمل بانتظام على حد تعبير الإثيوبية ميرون هاديرو. ولا عتب على الدكتور صلاح فضل. فهجرة الأفكار منذ نهاية القرن التاسع عشر تأخذ اتجاها واحدا، وإذا كانت مصادر التسليح في دول المواجهة شرقية، فإن مصادر التنوير لا تزال تدين للغرب بكل شيء ومنها الماركسية بكل أشكالها. فقد هاجرت إلى المشرق بالتزامن مع اكتشاف أديسون للكهرباء 1879. ولعب كلاهما دوره في تمزيق المؤسسة من جهة الروح – المثاليات والمادة – الواقع.  وليس في ذلك ما يدعو للخجل أو التشاؤم. فروسيا الحديثة تبني مجدها في الرواية بتجزئة وحدات السرد الطبيعي والثقافي، وهو ما يفعله ميخائيل شيشكين منذ عقود بمحاولة للتصالح مع التاريخ. في حين أن العرب يتصالحون مع الجغرافيا، ولذلك تبدو رواياتنا وكأنها توطين لظاهرة الاستشراق. وتستطيع أن تلاحظ وتعزل في الوقت الحالي عدة عناصر استشراق تراجيدي منها: الهوية الوطنية،  فهي مستعارة من دستور غير تجريبي وجاهز ووصلنا إليه بالترجمة والتعريب. ويتقاطع ذلك مع أفضل نماذج البواكير. فقد ظهرت أولا باللغة الإنكليزية، ومنها “النبي” لجبران و”كتاب خالد” للريحاني. ومؤخرا “العودة” 2016 لهشام مطر. وهي عمل من ثلاث مستويات: الذاكرة الحية للميت. والحياة السرية للمجتمع. وثقافة البلدان الموؤودة أو الحبكة ونقطة التنوير كما هو حال كل حكايات الثأر والدسائس.

*صدر الكتاب بطبعة ثانية عام 2018 عن قصور الثقافة في القاهرة. 278 صفحة.

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *