تعد الرواية شكلا أدبيا حديثا في الحقل الإبداعي العربي مقارنة مع التقاليد السردية العريقة في العالم الغربي. وإذ أضحت الرواية ديوان العرب في العصر الحديث، من حيث كونها تؤرخ سرديا للتطورات والتقلبات السياسية والاقتصادية والثقافية التي عرفتها المنطقة، فإنها في المقابل تدين بتطورها إلى حد كبير للتجارب الروائية العالمية في أهم مراكز إنتاج النصوص الكبرى.
لقد حملت نصوص الروائيين العرب ظلال وأصداء روايات فرنسية وإنجليزية وأميركية لاتينية وروسية وألمانية وغيرها. روائع استلهم أسرارها السردية كتاب عرب، مغربا ومشرقا، فتجلت في رؤى فلسفية للحياة والمجتمع والعلاقات الإنسانية، وتقنيات سردية تقليدية أو تجديدية، ومضامين وأشكال شتى.
يتعلق الأمر بحوارات متجددة أقامتها الرواية العربية مع نصوص عالمية متنوعة، تلك التي حاول الباحث المغربي محمد الدوهو استجلاء نماذج منها وسبر آلياتها ومقترباتها في كتاب نقدي صدر مؤخرا ضمن منشورات اتحاد كتاب المغرب تحت عنوان “حوار النصوص بين الرواية العربية والرواية العالمية”.
وتكمن أهمية القيام بهذا النوع من الأبحاث المقارنة حسب الناقد المغربي محمد برادة من منطلق أن شكل الرواية منذ التجارب اليونانية الأولى، مرورا بألف ليلة وليلة ودون كيخوته، وصولا إلى الرواية الجديدة في فرنسا وأميركا اللاتينية والبرتغال والعالم العربي شكل كوني يجسد أسئلة الحداثة ومعضلات العصر المطبوع بالقلق والاستيلاب والعنف والخوف، وهي سمات مشتركة بين الشرق والغرب مع اختلاف في التفاصيل والمستويات.
وقد عمل الباحث محمد الدوهو على تقفي معالم هذا الحوار في جغرافيات متنوعة، بحيث شملت النماذج المختارة السبعة مقاربة صورة الأب بين الإخوة كارامازوف لدوستويفسكي والخبز الحافي لمحمد شكري، وعلاقة رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح مع “دون كيخوته” لثيربانتيس وحضور كافكا في الرواية العربية.
كما انصبت أبحاث الكتاب على تأثيرات فلوبير وتولستوي على الرواية العربية ومسار الرواية البوليسية العربية وشعرية رواية الحرب بين “ذهب مع الريح” و”الوطن للعينين” لحميدة نعنع ثم تيار الوعي في الرواية العربية من خلال نموذج رواية “الصياد واليمام” لإبراهيم عبد المجيد.
“
يلاحظ الباحث أن المواجهة بين البطل والأب المكروه مواجهة مباشرة في رواية ديستويفسكي أما في نص محمد شكري فغير مباشرة، يتحكم فيها الغضب من الثقافة التي تكرس هيمنته الرمزية
“
بين محمد شكري وديستويفسكي
يضع الباحث محمد الدوهو بطل رواية “الخبز الحافي” لمحمد شكري (سيرة ذاتية) في مقابل ميتيا –أو ديميتري- كارامازوف في رواية ديستويفسكي “الإخوة كارامازوف”، من حيث أن البطلين يرفعان لواء السخط والرغبة في تصفية الأب.
يكتب الباحث المغربي في الصفحتين 11 و12: في رواية دوستويفسكي يقول ميتيا مخاطبا نفسه، ليلة ارتكاب جريمة القتل: “ها هو خصمي، عدوي الذي عذبني ودمر حياتي”، أما في رواية “الخبز الحافي” فيقول البطل “صرت أفكر، إذا كان من تمنيته أن يموت قبل الأوان فهو أبي. أكره أيضا الناس الذين يشبهون أبي. في الخيال لا أذكر كم مرة قتلته. لم يبق لي إلا أن أقلته في الواقع”. بطل “الإخوة كارامازوف” يقتل أباه، أما بطل “الخبز الحافي” فيقتله في الخيال.
يلاحظ الباحث أن المواجهة بين البطل والأب المكروه مواجهة مباشرة في رواية ديستويفسكي أما في نص محمد شكري فغير مباشرة، بل أهوائية ثقافية بامتياز. مواجهة يتحكم فيها الغضب من الثقافة التي تكرس هيمنته الرمزية.
يقول ميتيا -بطل رواية ديستويفكي- حاسما رأيه في قتل أبيه “ما الفائدة أن يظل يدنس الأرض مدة أطول؟” فيما يعلق محمد شكري على روايته “إن موت أبي في ذهني تم في اللحظة التي مات فيها أخي. إننا لا نقتل آباءنا بقدر ما يقتلون أنفسهم فينا” (ص 18).
الطيب صالح وثربانتس
العلاقة مع الآخر هي الثيمة الكبرى التي تحضر خلف حكايات “دون كيخوته” و”موسم الهجرة إلى الشمال”: الإشكالية الأبدية للعلاقة بين العرب/الإسلام والغرب. ويرى محمد الدوهو أن علاقة الافتتان والنفور القائمة بين أوروبا والإسلام انعكست في رواية “دون كيخوته”، في التصورات التي نسجها الكاتب حول كل ما هو عربي ومسلم. إذ إن ثربانتس يفكر من داخل سياق ثقافي كان يريد أن يقطع بشكل نهائي علاقته بكل ما هو عربي إسلامي. ذلك أن الإسلام تسلل إلى الوعي الجمعي الإسباني في زمن ثربانتس ليتحول إلى هاجس وشعور متسلط.
في المقابل، تكتب رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” ضد هذا الموروث الثقافي النمطي عن العربي منذ ثمانية قرون. فبطل الرواية مصطفى سعيد يرحل إلى أوروبا ليواجه مركزية المعنى الأوروبي. هو هذا اللامركز الهامش الذي يريد أن يكتب هويته في عمق الاختلاف. وفي سعيه لكتابة اختلافه، يفكك مصطفى سعيد ثنائية الأنا/الآخر. هذا الآخر الذي يتحول في عيون أوروبا إلى كائن يعيش الدرجة الصفر في التاريخ.
وكما ينقل الكتاب عن الناقد عبد الوهاب المؤدب، فإن المحاكمة التي ينتهي إليها مصطفى سعيد في إقامته البريطانية هي محاكمة بدأت فصولها منذ زمن دون كيخوته، وظلت تنتج وتعيد إنتاج نفسها في خطاب الغرب الإمبريالي (ص 27).
“
خلص محمد الدوهو إلى أن المشترك السياسي والثقافي بين كافكا والرواية العربية يكمن في فكرة الإذلال والخوف الذي يساور الإنسان أمام أسطورة السلطة
“ظلال كافكا وكوابيسه
في كتابه يذكر محمد الدوهو أن هزيمة حزيران 1967 وما تلاها من أحداث في الساحة السياسية والثقافية العربية، عجلت بدخول فرانز كافكا إلى الرواية العربية. فقد ألهم كافكا الروائيين العرب في مقاربة السلطة ومؤسساتها كعائق أمام المصالح الشخصية والاجتماعية. كما أن الدولة تحولت في عوالم كافكا إلى متاهة سلطة تتأله وتتأسطر، فيفقد معها الكائن حقيقته الوجودية ويصبح عاجزا ويحس بأنه محاصر في الزمان والمكان (ص 41).
ويقدم الباحث شهادات كتاب عرب يقرون بأهمية تراث كافكا في بناء عوالم الرواية العربية بعد 1967، من جملتهم إبراهيم عبد المجيد وجمال الجمل وخليل صويلح الذي يرى أن أهمية كافكا تكمن في تلك الجملة السردية التي استهل بها رواية “المسخ”: “عندما استيقظ غريغوري سامسا في الصباح وجد نفسه وقد تحول إلى حشرة”.
هذه الجملة الصاعقة أصابت جيل هزيمة حزيران بالولع والدهشة إلى الدرجة التي تجعله ينظر إلى نفسه في المرآة ليتأكد فعلا أنه هو الآخر لم يتحول إلى صرصار.
وضمن الروايات التي تستحضر البعد الكافكاوي، يتوقف الباحث عند “اللجنة” لصنع الله إبراهيم ومتاهاتها التي يتورط فيها بطل الرواية، وهو يمثل أمام لجنة للحصول على عمل، وكذلك رواية “ألف ليلة وليلتان” لهاني الراهب التي تحكي مسار إمام يناضل من أجل بروليتاريا لا تعرف نفسها كطبقة.
ويخلص محمد الدوهو إلى أن المشترك السياسي والثقافي بين كافكا والرواية العربية يكمن في فكرة الإذلال والخوف الذي يساور الإنسان أمام أسطورة السلطة (ص 43).
المصدر:الجزيرة