الشقة رقم “4 ” * (عدي مدانات)

(ثقافات)

          عدي مدانات …  يُنطِقُ

           الشقة رقم “4 ” *

      ــ  قصة قصيرة  ــ

    لا تختلف الشقة رقم  ” 4 “، التي في الجناح الأيسر من الطابق الثالث من البناء الضخم على أرض كانت خلاء وسط محيط من أبنية، شيّدت لأغراض تجارية، لا تختلف عن غيرها من الشقق في ذات البناء أو الأبنية المجاورة. ولا يُنبئ بابها المغلق بحال ساكنيها وما قد يميّزهم عن غيرهم من سكان باقي الشقق.

    ينفتح بابها على معبر بطول مترين وعرض متر وستين سنتيمترا، يُفضي مباشرة إلى صالة على شكل حرف ( ال) اللاتيني، ويمكن من الصالة ملاحظة الأبواب التي تؤدّي إلى غرفتي النوم الوحيدتين  والحمام والمطبخ وبالتالي تقدير مساحة الشقة بشكل إجمالي. إنها شقّة صغيرة على أية حال لا تتعدّى مساحتها الثمانين مترا مربعا.

    لا تفيد مساحتها في معرفة الكثير عن الأسرة، أكانت صغيرة أم كبيرة، وسواء أكانت  ذات دخل متدنٍّ أم متوسط. ولا بدّ أن يستند التقدير لأمور أخرى تدخل في الحسبان عادة، مثل نوعية قطع الأثاث وأدوات المطبخ.

   ثبّت على الجدار الأيسر للمعبر علاّقة ملابس صغيرة، نحاسيّة ذات نتوءات تزينيّة، غير أنه لا يوجد عليها قطعة ملابس واحدة. كما ثبّت على الجدار المقابل رسم ركيك لمنظر طبيعي باهت الألوان وُضع ضمن إطار مزخرف ، ويتشابه بمثل هذين، ذوق قاطنيها مع غيرهم، فلا يتركان أثرا خاصا. غير أن الغبار الذي يغطّي المعبر ويتجمّع على الحواف لا تسرّ النظر بل تبعث على الانقباض في النفس.

    خصّصت الصالة للاستقبال والطعام للضيوف معا، فتصميمها يسمح بذلك. تبدو مائدة الضيوف منزوية مهملة كأنما وُضعت هناك لا لضرورة اقتضتها، بل ملئا للفراغ او انسياقا مع ما هو مألوف لدى باقي الناس.

   غير أن صالة الجلوس تعطي انطباعا مختلفا، فالمقاعد ليست منتظمة كما ينبغي أن تكون عليه. كأنما حرّكت في واحد من أفعال الفوضى أو الانفعال، وقد تُركت صحيفة مبعثرة الأوراق على مقعد، وصحف أخرى على طاولة الوسط، كما تُرك كتاب على مقعد آخر، ربما كان بحثا في أزمة النظام الرأسمالي كما يوحي عنوانه. وإلى جانب الكتاب حذاء طفل، تلتقط العينان بسرعة حذاء الطفل بلونه الأبيض وحجمه الصغير. حذاء بريء لا شأن له بما يحيط به من فوضى.

  على مقعد آخر أُلقي بإهمال رداء امرأة، كأنما خلعته هناك، ولم تفكّر بطيّه ووضعه في خزانة ملابسها.

    قد لا يحبّ البعض امرأة تخلع رداءها وتلقي به في أيّ مكان ثمّ تخرج. وتأنف النفس أكثر من مرأى طاولة الوسط، فالمنفضتان امتلأتا بأعقاب السجائر، وقد تساقط بعضها على الطاولة نفسها واختلط رمادها بالغبار.  أحاط بالمنضدتين عدد من فناجين القهوة ترسّب فيها حثل القهوة، وغُرست فيها أعقاب السجائر. كما تناثرت بقع من  القهوة  على الصحف.

    إنّ وضعا كهذا ليس مألوفاً ولا مستُحبّا، ويثير عددا من الأسئلة المحيّرة، وبخاصة الكنبة الطويلة. فقد استُعملت للنوم، فالمخدّة والشرشف  يؤكّدان ذلك، دون شكّ.

   في الزاوية اليمنى تلفاز استقرّ على قاعدة خشبيّة، وضع على حافتها جهاز فيديو وعدد من الأشرطة.

   الجدار العريض ليس خاليا، فقد ثبّت عليه صورتان لرسمين من أعمال فان كوخ أُخذتا ـ كما يبدو ـ من رزنامة ،  وضعتا ضمن إطارين، وبينهما كتابة مؤطّرة أيضا كتبت بخطّ جميل. نقرأ :

” وماذا يفيد لو ربح الإنسان العالم وخسر نفسه”.

   ويقابل الجدار العريض نافذة وسيعة مُسدلة الستارة ونبتتان احترقت أوراقهما وتساقطت.

   وتثير غرفة النوم الرئيسة الدهشة والضيق في آن واحد. ففرشة السرير لم تسوّ وترك الغطاء مكوّما على الأرض، وتناثرت قطع من ملابس رجل وامرأة في زوايا مختلفة، فذاك خفّ نسائي، وتلك تنورة وقطعتا ملابس داخلية للمرأة. وهنا فوق الغطاء بنطال رجل وعلى حافة السرير قميص وعلى الحافة الأخرى منامة.

   خزانة الملابس مفتوحة ويبدو بوضوح أنه لم يبقَ فيها قطعة ملابس نسائية واحدة، في حين تُرك فيها بعض قطع ملابس لرجل.

   وقد بقيت الغرفة الأخرى على حالها. وهي لا تحتوي إلاّ على سرير طفل وبضعة صناديق من الكرتون صفّت في زاوية ويظهر أن كتبا حفظت في أحدها. ويفصح المطبخ عن غرابة الحالة أكثر، فالصحون والأكواب المتسخة موزعة في كلّ مكان، وكذلك علب السردين الفارغة والتونة وقشور البصل وقطع البندورة الذابلة وكِسر الخبز.

   يمكن للمرء بقليل من التروي أن يدرك انّ رجلا هو الذي قام بكلّ هذا، لأنه لا يمكن لامرأة مهما بلغت من الإهمال والفوضى أن تترك مطبخها على هذه الحال وأن لا تعدّ لأسرتها وجبة طعام واحدة ولو بسيطة.

   يبدو أنّ طاولة المطبخ قد استُعملت للكتابة. فما زالت كومة ورق على حافتها وقلم حبر جاف وصحن امتلأ أيضا بأعقاب السجائر، وبضعة فناجين قهوة. كما أنّ سلة المهملات امتلأت بالأوراق المجعدة.

  غير أنه بعد وقفة صبورة متأنية يمكن اكتشاف ورقة مطوية بعناية وضعت داخل كأس. تمتد اليد دون قرار واع وتمسك بالورقة. إنها رسالة من الأب لابنه. كتب:

 ” ولدي الحبيب سامي.. أنت طفل الآن ولن يتسنّى لك قبل وقت طويل تفهّم حقيقة ما جرى، أنا نفسي لا أستوعب كلّ ما جرى”.
××××××××××××××

” الشقة رقم 4 “: إحدى قصص المجموعة الثانية ” صباح الخير أيتها الجارة” ، من منشورات وزارة الثقافة الأردنية العام 1991 في طبعتها الأولى.

    وعلى صفحة الغلاف الأخير لتلك الطبعة تتبنّى الوزارة تقديم ” هذا الكتاب” :

      تستمدّ قصص “عدي مدانات” ألقها ونصوعها من قدرة المؤلف على الجوس في أفياء الواقع وثنايا الحياة، والعثور على ما يبهر القارئ ويشدّه إلى إرواء تعطّشه والتعبير عن ذاته المؤتلفة والذات الجمعية عن طريق استشراف الإمكانات التي يتمتّع بها المنهج الواقعي. إنها تجبرك على التفكير وإعادة التفكير بإشكالات الحياة المتنوعة والعويصة، بما تحمله من تفاصيل صغيرة في راهنيتها، عميقة في دلالتها، بعيدا عن الطروحات المطلقة والمقاربات الحداثية الضبابية والمغلقة.

 لقد أظهر المؤلف أن المنهج الواقعي قادر على سبر أعماق الحياة، والتسلل إلى اللاوعي واستكناه الجوهر، بالربط العميق ما بين نشر الواقع الراهن وشذوره المهملة وبين اللب والمهم الذي يحتدم في الأعماق، ويتجلى على السطح في أشكال بسيطة قد يظن أنها غير ذات أثر وأهمية إذا أُخذت على انفراد بعيدا عن ربطها بالمؤثرات الأخرى وأشكال الحياة الأخرى …

                                ــــــــــــــــــــــــ

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *