المَجدُ.. و«الحربُ والسِّلْم»..!

(ثقافات)

المَجدُ.. و«الحربُ والسِّلْم»..!

* محمد رفيع

منذ أن ابتدعت البشرية ربّة السلم «إيرين»، وإله الحرب «مارس»، لم يُخلق مطلقاً سلمٌ إلّا وانتهى آجلا أو عاجلاً بولادة حرب. وكلّ معاهدة سلم حملت بين سطورها وبنودها، كدمغة سريّة، خطّة حرب وعدوان مُقبل. وليس غريباً أنّ الكشف الحقيقيّ عن المكونات الأساسية، لثقافة كلّ شعب من شعوب الأرض، ورواسبها العميقة، سيتناقض ويتعارض مع ما وصلت إليه البشريّة من دعوات للسلم والتسامح.
بل وأكثر من ذلك، ستكشف تلك الرواسب الثقافية عن أنّ الحرب كانت المحرّك للحماسة الشعرية، بأغنيات النصر والرثاء، والمنبع للإلهام والحماس، وأنّ مظاهر العنف، في تاريخ الشعوب، كانت دوما جذّابة. فلا أحد يذكر الحكيميْن، اللذين أوقفا حرب «داحس العرب وغبرائهم»، ذات الأربعين عاماً، وتداركا عبساً وذبيان «بعدما تفانوا ودقّوا بينهم عطر مَنشِمِ».
ومن نافلة الكلام، التساؤل عن صاحب المجد الشعري: «الخيل والليل والبيداء تعرفني..»! فالسلمُ في تاريخ الشعوب، لم يتحول إلى صفة محمودة، على الرغم من أنّه يمنح الناس السعادة والرخاء، ولكنّه لا يعطيهم الفَخَار، ولا شعورَ المحاربين الفيّاض. فليس للشعوب السعيدة تاريخ تنتشي به، ولا تستطيع إقناع الآخرين، بجدارتها في العيش، حتى لو كانت تحية ثقافتها؛ «السلام عليكم..»!
في كلّ تشكيل اجتماعيّ منظّم، ومهما كانت درجة التنظيم تلك، هناك امتلاك مشترك لكنوز المخلّدات ولمشاعر الذعر والخوف، ويزداد التصاق أفراد هذا المجتمع بمقدار تشاركهم في هذه الذكريات من دون تحفظ. ومن الحقائق الثابتة، أنّنا نعيش خلال الحرب فترات رعب، وفي السلم نخلّدها، وفيما يخلّده السلمُ من تمجيدٍ لهذا الرعب. إذ إنّ أكبر احتفالات الأمم، بشكل عام، تتمّ في ذكرى معاركها الكبيرة. وهكذا يبقى سلم الأمم يعيش في سحر حروبها، فيمجّدها، وربما يندب وقوعها في الماضي أحيانا، ويتّقيها ويترقّبها في مستقبله، بمزيج من الشوق والتردّد.
لم تنتج البشرية بعد أخلاق سلمها وقيمه. بل وأكثر من ذلك، فما تزال ثقافات الشعوب والأمم أسيرةً لقِيَمِ الحروب، التي تبدأ من اعتزاز وتقديس كلّ أمّة لذاتها. ترى هل كان السلم هو السائد تاريخياً أم الحرب؟ فقد كانت «أثينا» في حالة حرب طيلة عامين من كلّ ثلاثة أعوام، وذلك خلال القرنين الأكثر تألقاً وازدهاراً في تاريخها. أمّا «روما»، التي تأسّست قبل الميلاد بسبعة قرون، ومعبدها الذي لم تكن تغلقه إلّا في أوقات السلم، فلم تغلق أبواب ذلك المعبد إلّا تسع مرات فقط، خلال ألف عام.
وليس كشفا جديداً القول بأنّ جميع الحدود الدولية رُسمت بفعل الحروب. فقد شجّع المنتصرون عام (1918)، وهم الذين أبطلوا نظام التبعية، وألغوا النظام الامبراطوري داخل القارّة الأوروبية، على إقامة مثل هذه الأنظمة فيما وراء البحار. وعلى العكس من ذلك، فقد ألغى المنتصرون عام (1945) النظام الاستعماري فيما وراء البحار، وأعادوا نظام التبعية الجغرافية ونظام المحميات، داخل القارات، وخاصة في أوروبا والمشرق.
لقد حاولت كلّ «المدن/الدول» وفي كل عصر، أن توجد، على الصعيد النظري، عقائد للسلم، بعضها دينيّ وبعضها فلسفيّ وآخر قانونيّ. وحاول آخرون إقامة عقائد للسلم، على دعائم دعائية وإرشادية، إلّا أنّها فشلت. واليوم، تحاول بعض الجماعات والدعوات إقامة السلم على «دعائم اجتماعية»، ووقايته بواسطة «العدالة الاجتماعية»، أو وقايته «بنزع السلاح». غير أنّ علماء الاجتماع يعتقدون أنّ ضياعَ السلم هو بسبب العُقد المولّدة للحرب، المتمثّلة في عقدة إبراهيم (الفداء)، وعقدة كبش الفداء (التضحية)، وعقدة ديموقليس (الخوف).
وهي دعوات يتنكّر أصحابها شكلاً في ثياب سَحَرةٍ، في حين إنّهم حقيقة يتمثّلون أقدم حكمة للتاريخ؛ «إذا أردت السلم، فاستعدّ للحرب»، لأنهم يدركون أنّه «لكي تكون حرب ما عادلة، يكفي أن يقتنع كلٌّ من الطرفين المتنازعين بحقّه الكامل في خوضها». لقد نجحت كلّ خطط السلم، أو ساهمت في القضاء على نزاع ما، أو على سببه، ولكنّها لم تتمكّن من القضاء على الحرب ذاتها.
ألم يصرخ «تروتسكي»، بين الحربين الكونيتين، في مواجهة مطالبة الغرب بالديمقراطية، وتعبيراً عن الثورة الروسية: «لقد أدلى الجنود الروس بأصواتهم الانتخابية بأقدامهم»؟! أليسَ من العيب، أخلاقياً وثقافياً، تحميل الأمم الضعيفة والمسحوقة والمظلومة مسؤولية إنتاج ثقافة السلم وقيمه، بعد أن فشلت البشرية كلّها في إنتاج تلك الثقافة، طوال تاريخها المعروف..؟ لعلّ روح الإجابة، على أسئلة السلم والحرب، في تاريخ البشرية وتحوّلاته، ما تزال تكمن فيما قاله الحكيم الصيني (لاو_ تزه)، قبل الميلاد بستة قرون: «إذا لم تعد مقدرتك تحظى باحترام الآخرين، فإنّ ثمّة مقدرة أخرى في الطريق لتحلّ محلّها».

شاهد أيضاً

الاُنس بمعاشرة الكُتب

(ثقافات) الاُنس بمعاشرة الكُتب د. طه جزاّع[1]  لعل من أصعب أنواع الكتابات، تلك التي تتناول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *