مدرسة صبري لصناعة الأفلام : فيلم الحارة.. فنيّاً

(ثقافات)

مدرسة صبري لصناعة الأفلام

فيلم الحارة.. فنياً

د. مؤيد حمزة

 يهتم المتلقي العربي عادة بالثقافة السمعية أكثر من اهتمامه بالصورة ولغتها ودلالاتها، ولا نستغرب مثل هذا الرأي، المثبت علميا وإحصائيا بالمناسبة، إذا ما تذكرنا أن الثقافة السمعية خاصية موروثة في أمة كان الشعر فيها أعلى ما أبدعته من فنون. وبالتالي فمن الطبيعي أن يهتم المتلقي في الأردن ويلتفت إلى الألفاظ قبل التفاته إلى لغة الصورة (إن وجدت أصلا) أو إلى أية رسالة أو فكرة يريد المخرج إيصالها، في حالة توفر هكذا رسالة أو إرادة لإيصال رسالة أصلا.

خاصية الاهتمام بالألفاظ أكثر من الصورة، هي بالذات ما يتم استغلاله عادة من قبل منصات تدرسنا وتبحث في أساليب تلقينا كمشاهدين وزبائن لها ومتلقين لما تبيعه، أكثر مما نفعل نحن في الأردن حيث يصر البعض على أن يواصل ضخ إنتاجات درامية في المحطات التلفزيونية، لا تواكب العصر الحالي ولا ذوق المتلقي وثقافته، بل وتساهم في تشويه الذائقة الدرامية لديه. الأمر الذي يقنع نسبة كبيرة من المشاهدين بمتابعة أعمال درامية تعرض على منصات أخرى تتكلم بلهجته وتقدم بقالب مختلف ليس بالضرورة أنه أفضل من سابقه.

في تناولهم لفيلم الحارة سار نقاد الصحافة الفنية ومجموعة من الفنانين بنفس النهج النقدي الذي اعتادوا عليه في ظل سيادة التشوه الدرامي في الأعمال الأردنية بشكل عام، واهتموا كالعادة بالألفاظ الجارحة الواردة على لسان الشخصيات، وساهموا بحملة ترويجية للفيلم دون أن يقصدوا ذلك، بتركيزهم على مفاهيم الهوية وأخلاقيات مجتمعية، دون أن ينتبهوا أساسا إلى القيمة الفنية للعمل، وهو الأمر الذي يريح صُناع هكذا أفلام بالمناسبة. ويظهرهم كثوار إجتماعيين بنظر الغرب بدلا من أن يظهرهم على صورتهم الحقيقية كمجرد هواة فهموا شروط اللعبة في واقعها وظروفها المعاصرة، حتى صرنا نرى أعداد أقلام المدافعين عن الفيلم بحجة حرية التعبير تفوق أعداد ناقديه، وكلا الطرفين لا يعير أي اهتمام أو انتباه لمعايير الفيلم الفنية.

النص مثلا كأساس لأي عمل فني، مباشر في طرحه. يقدم تأويلا أحاديا، لا يترك مجالا للمتلقي لتوظيف خياله وتأويلاته، في هكذا حالة نعبر (أهل الإختصاص) عن هكذا أفلام بالقول بأنها أعمال لا تحترم عقل المشاهد. تماما مثل الأعمال السائدة في التلفزيون الأردني والتي تعتمد القصة أساسا وتروى بالحكي غالبا، وتتجاهل أن لغة الدراما هي الحدث. وأن رواية الحدث ينبغي أن تتم من خلال الفعل ورد الفعل وليس من خلال القيل والقال. نفس السمة غالبا ما نجدها في أفلام نتفلكس الأردنية بشكل عام.

وبالتالي فمن الوهلة الأولى يلاحظ أي دراماتورغ مختص أن فيلم الحارة ضعيف دراميا، وأن تقنيات الكتابة فيه تندرج تحت مسمى نصوص أفلام الهواة. وإن كان هناك تميز على مستوى التصوير السينمائي إذ عادة ما يتم الاستعانة بخبرات أجنبية في هذا المجال تحديدا، وكأن الفيلم بحاجة إلى خبير في مجال التصوير فقط! إلا أنه ورغم ذلم لم يتمكن المخرج من تقديم ديالوغا بصريا واحدا طوال الفيلم دون الاعتماد على الديالوغ اللفظي.

الصراع هو جوهر العمل الدرامي، ولا يوجد دراما دون صراع. هذه قاعدة لا ينطبق عليها مقولة أن لا قاعدة في الفن. ومن هنا نتساءل: ما هو الصراع في الفيلم، وما مدى أهميته، ودوره في تقدم الأحداث أو تطور القصة الفيلمية؟

لا يوجد قوى متضادة في الفيلم حتى يتولد عن احتكاكها صراع. الجميع خانع، مستسلم لسطوة البلطجي السيد عباس. لا وجود لقوة أمنية مثلا، أو قانونية أو حتى شرطي مرور في الفيلم. ولا وجود لشخصية تحمل مبادئ وطنية أو أخلاقية أو دينية بحيث ينشأ صراع بينها وبين الشخصيات البلطجية في الفيلم، أو تستنهض الخانعة منها. حتى الحلاق تم تقديمه كشخصية مستسلمة، راضية بالواقع، ومعدومة الأحلام. ولم يقدم الكاتب أي مبرر مقنع يدفع الحلاق لقتل عباس ذبحا في نهاية الفيلم، إلا مشيئة المخرج والكاتب في إنهاء الفيلم، وبالتالي كان هذا الحدث مقحما وغير مبرر دراميا، ولم يتم التمهيد له.

ربما صنع ذلك قصدا بهدف عدم تقديم شخصية الحلاق كشخصية البطل الرئيسية (Protagonist) في الفيلم، ما يؤدي بالتالي إلى تراجع نجومية المؤدين لباقي الشخصيات. مثل هذه التصرفات معتادة في صناعة الأفلام العربية بشكل عام، وحتى المحترفة أحيانا، دون أن يدرك صانعوها أنهم بهذا الشكل يضعفون الجوهر الأساسي للدراما، وهو الصراع.

التمكن من تقنيات إنتاج الصورة السينمائية لا تصنع فيلما جيدا أو عظيما ، وبالكاد يمكن أن تساهم في صنع فيلم يندرج مخرجه تحت ما يسمى بخانة المخرج الكفؤ أو المتمكن أو المختص تبعا للترجمة المحبذة لكلمة (Competent Director)، والتي يذكرها كين دانسايجر في تصنيفه لعمل المخرجين. وحتى الوصول إلى هذه المرتبة، وهي الدنيا في تصنيفه – حيث يذكر أيضا المخرج الجيد والمخرج العظيم – لابد أن يتوفر في الفيلم نصا دراميا محكم الحبكة، يؤدي في نهاية الأمر إلى تمكن المخرج من إيصال فكرته.

عودا إلى نص فيلم الحارة، ينبغي الإشارة إلى أنه لا يوجد في الفيلم أي إشارة تدعو المتفرج إلى التأويل أو إلى توظيف مخيلته حتى يقوم بتأويل أو تحليل دلالاته. فقد تم تقديم القصة بوسائل بسيطة، سطحية تخلو من أي عمق.

وبالتالي، وفي ضوء ضعف الصراع، وهو الوقود المحرك لأي عمل فني درامي، كان لابد لفريق إنتاج الفيلم من التوجه إلى وسيلة أخرى لضمان أن يصنع فيلمهم جدلا من أي نوع كان، الأمر الذي يساعد على تسويقه لدى المتفرج، وكان اللجوء كالعادة المتبعة في هذه النوعية من الأفلام التي ينتجها هواة صناعة الأفلام، إلى الألفاظ النابية التي اعتاد المجتمع سماعها في حياته اليومية لكنه أبدا لم يسمع مثيلا لها في أي عمل درامي أردني. ما يثير جدلا مجتمعيا يعتبره هواة الأفلام نجاحا حققه الفيلم وجدلا “فكريا”!

في ظل هذه المواصفات لا يمكن التعامل مع هكذا أفلام إلا بصفتها أفلام هواة. صناعها في غالبيتهم لم يتحصلوا على تأهيل درامي يمكنهم من فهم ماهية الدراما، ويؤهلهم لصياغة مفاهيم فنية، حيث يتم التركيز على الناحية العملية التطبيقية بشكل متكرر، وغالبا ما يكون هذا التأهيل التقني البحت عبارة عن ورش عمل سريعة تركز على تقنيات التصوير والمونتاج وأحيانا الكتابة من حيث إتقان شكل كتابة السيناريو وليس مضمون العمل الدرامي، وإتقان لغة الدراما التي لا تعتمد السرد والوصف كلغة الرواية، بل لغة الحدث. في مثل هذه الدورات العملية لا مجال لفهم النظريات الفنية وموقع السينما منها ولا لغة السينما، ولا حتى تنمية القدرة على تذوق العمل السينمائي، فهي ببساطة دورات تأهيل فنيين وليس فنانين.

نتاج هذه الدورات يُكوّن في الغالب صانعي أفلام على شاكلة صبري (شخصية مصور الأفلام -الواقعية في تجسيدها للسلبيات المجتمعية في الحارة- والتي يوظفها لغرض الحصول على المال تبعا للفيلم).

يسود الاعتقاد بأن التركيز على هكذا سلبيات مجتمعية، والتي يجادل البعض الآخر بأنها استثنائية، سيؤدي لا محالة إلى نجاح الفيلم، والحجة حاضرة باستمرار: “هكذا هو المجتمع الذي نعيش فيه، أنتم تصرون على إغماض أعينكم”.

الفيلم يستسهل عمليات القتل، وإطلاق النار، وبشكل غير مبرر ومقحم في الغالب كما تمت الإشارة آنفا. وبالطبع لا يمكن أن نتصور أن أصحاب حجة محاكاة الواقع، سيقولون بأن الواقع الأردني متسيب، ومستباح إلى هذه الدرجة!

هل مهمة السينما أن تحاكي الواقع؟ وما هو هدفك من محاكاته وتقديمه كما هو؟ لماذا لم تفعل السينما الهندية ذلك مثلا فقامت بتصوير العالم كما يحب أن يراه الهندي في عالم الأحلام، أو السينما الأميركية التي تقدم الواقع فانتازيا لكن لا تهمل أبدا وجود بطل يحاول إعادة الأمور إلى نصابها، ولا تهمل الصراع فتترك الساحة فارغة لقوى الشر تتسيد دون رادع ما يقف في طريقها.

هنا تظهر الحاجة إلى ثقافة الفنان وعلاقته بالفنون بشكل عام ونظرته إليها، وإلى علاقتها بالواقع، وأساليب تجسيد هذا الواقع. هنا لا يكفي أن يتقن المخرج تقنيات إنتاج الصورة السينمائية ليحل هذه المسألة الفلسفية. وهنا بالتحديد يظهر لنا سبب انتشار وتكرار هذه الظاهرة في أفلام مدرسة صبحي.

ماذا عن رسالة الفيلم؟ لكن مهلا… هل ينبغي أن تكون هناك للفيلم رسالة؟ طبعا الرد الدائم لخريجي مدرسة صبحي لصناعة الأفلام كالتالي دائما: “مش شرط يكون هناك رسالة للفيلم؟ إحنا بنعمل أفلام لغرض إمتاع الجمهور!”- انتهى الإقتباس.

لا يوجد فيلم بلا رسالة. كل ما في الأمر أن المشاهد العادي (المستمتع) قد لا يدركها أحيانا، سيما وأنها تحتاج إلى تأويل يشارك فيه المتفرج غالبا، وفي أحيان قليلة فقط تكون هذا الرسالة أو فكر المخرج مباشرا. فالمخرج الجيد أو العظيم تبعا لكين دانسايجر، مرة أخرى، يسعى في العادة إلى صنع فيلما يحتاج إلى اشتراك المتفرج بخياله لتأويل إشاراته، وفي أحيان أخرى يكون هناك تأويلات متعددة مبطنة لفكر المخرج ورسالته. وهذا ما نفتقده عادة في الأفلام العربية والتي تنزع إلى المباشرة في الطرح، ولا تعول كثيرا على تأويل المُشاهد (المتلقي) وخياله.

كل مخرج محترف يقرر أن يصنع فيلما لأنه يريد أن “يحكي” فكرة. تماما كما يقرر البعض أن يكتب منشورا على وسيلة تواصل اجتماعي ليحكي فكرة، وقد تكتب قصيدة أو رواية إن أردت التعبير عن فكرتك سردا ووصفا، أو فيلما أو مسرحية، إن أردت أن تقدم فكرتك أداءً بلغة الفعل ورد الفعل.

 وهذا يقودنا للتساؤل: لماذا تصنع هكذا أفلام؟ سيما وأن المتعة التي يتحدث عنها أصحابها أضعف من أن تغري أكبر المتحمسين لها لدفع ثمن تذكرة دخول سينما لأجلها، وبالكاد تقنعهم لدفع ثمن المواصلات التي ستقلهم لحضور العرض المجاني لها لو عرضت في دار سينما. المسألة ببساطة تكمن في توفر الدعم المسبق، وعدم الحاجة إلى شباك التذاكر لتعويض مصاريف إنتاج الفيلم. وهذا طبعا بحجة دعم صناعة أفلام أردنية، والنتيجة ستؤول كسابقتها في المسرح الأردني لا محالة. لأن منهج صبحي في صناعة الأفلام لن يؤدي إلا إلى إنتاج مخرجين تقنيين فقط لا يحملون فكرا ولا يعرفون عن نظريات الفن إلا النذر اليسير وأحيانا عدم. وكل همهم ما يمكن تحقيقه من عائد مادي مما يفيض عن ميزانية الفيلم، أو من تسويقه لدى منصة تدرك أن هذا الفيلم بألفاظه سيثير جدلا (لا علاقة له بالفن والفكر) ولكنه كاف لتحقيق متابعات ومشاهدات. ليس لأنه أفضل ما تقدمه المنصة، بل لأنه يثير فضول المتلقي، وأثار جدلا لا فنيا، واستفاد من دعاية مجانية حصل عليها من خلال أكثر من وسيلة. هنا تُحقق مبادئ وثقافة ومُثل صبري العليا في صناعة الأفلام أهدافها، وأقصى طموحها.

فيما يتعلق بالأفاظ النابية، ينبغي الإشارة إلى أنه في الأفلام الأميركية توجد كلمات نابية فعلا، ولكنها ولدت في سياق مختلف تماما، ومعبرة عن مجتمع مر في مخاضات متعددة حتى وصل إلى مرحلة تقبلها، أو غض الطرف عنها، وعادة ما تكون خادمة للحدث الدرامي والصراع، أما في فيلم الحارة وأخواته (جن، بيت سلمى، وغيرها من إنتاجات مدرسة صبري لصناعة الأفلام) فتصبح الألفاظ النابية ضرورة للترويج الفيلم، ضرورة تجارية وليست فنية. هي ضرورة تسعى إلى تعمية عيون حتى النقاد عن ضعف الصراع في الفيلم، وأحاثه المقحمة، وضعف النص بشكل عام الذي اعتمد الحدوتة المرويّة بطريقة بسيطة لصناعة جدل (غير فني). هنا بالتحديد ندرك أن هذه الظاهرة لا يمكن أن تستمر بدون دعم مادي مسبق، وترويج مجاني لها.

*دكتور في الفنون الدرامية. باحث في الدراماتورجيا وأساليب التلقي.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *