«كل ما فعله دوستويفسكي».. من أجل سردية جديدة للقصيدة

(ثقافات)

 

كل ما فعله دوستويفسكي.. من أجل سردية جديدة للقصيدة

د. أيمن حماد   

                                                                 

بصوته الشعري المائز في ساحة الإبداع المصري، يرسم الشاعر الكبير طارق هاشم لوحة باذخة الجمال من جديد في عالمه الشعري الأثير، تتقاطع مع تخوم فنون القول والأداء المتعددة والمتنوعة في آن، من رواية وموسيقى وسينما، عبر ديوانه الجديد «كل ما فعله دوستويفسكي»، الصادر عن «الأهلية للنشر والتوزيع في عمان بالأردن» في العام ٢٠٢٢.

     تبدو عتبة عنوان الديوان مثيرة لخيال المتلقي، بهذا الصوغ الذي اختاره الشاعر لها، وتلك سمة الشعرية الجديدة، التي من أهمها المخاتلة وعدم التوافق مع أفق انتظار القارئ، كما كان مألوفًا من قبل، وخاصة في فترة ما قبل الحداثة، وهو ما يفتح باب التأويل أمام المتلقي بحيث لا يكون مجرد متلقٍ سلبي، بل يتجاوز ذلك إلى المشاركة في الخلق والإبداع، على نحو ما أفاض فيه نقاد نظرية التلقي؛ فكل قراءة تواجه قبل كل شيء سؤال التأويل، على ما يشير هانز روبرت ياويس وهو بصدد رصد جمالية التلقي، في عمله زائع الصيت تحت عنوان “نحو جمالية للتلقي”.

   من هذا المنطلق، فإن قارئ هذا الديوان: “كل ما فعله دوستوويفسكي” ينفتح أفقه على تأويلات عدة، وتدور في ذهنه تساؤلات كثيرة، من قبيل: ما كل هذا الذي فعله الشاعر والروائي الروسي الكبير دوستويفسكي؟ وهل سيحكي الشاعر أو سيتحدث عن كل ما فعله أديب روسيا الأشهر، ولماذا اختار الشاعر شخصية دوستويفسكي تحديدًا ليجعل اسمه عنوانًا لديوانه؟ ولن يصل القارئ إلى إجابة شافية، إلا بعد الانتهاء من قراءة الديوان كاملًا، حيث نتعرف من قصيدته الأخيرة التي عنوانها “في حياة سابقة” على مقصده من اختيار عتبة العنوان بهذه الكيفية، والتي يقول فيها:

حين مرضت أمي/ بعت الأعمال الكاملة لدوستويفسكي/ كي أشتري لها تذكرة الطبيب/ كل ما فعله دوستويفسكي طوال حياته/ لم يضمن لأمي/ أكثر من مقعد صغير/ في عيادة بائسة/ ونحن عائدون/ أودعتها السرير/ وعدت أبكي/ كطفل أخفوا لعبته/ أمام صاحب المكتبة متوسلًا إياه/ أن يجعلني أبحث داخل الإخوة كارامازوف/ عن إخوتي الذين فقدتهم/ من ساعتين تقريبًا/ الذين سبقوني إلى مدينة/ ربما لم أستطع اللحاق بها.

إننا في هذه اللوحة من القصيدة إزاء شعور مرير بعدم جدوى الثقافة والكتب، أو مهنة الكتابة التي يتحصل من خلالها المبدع على تلك الحياة الكريمة التي تقيه الارتماء في أحضان الفقر والبؤس والوحدة والاغتراب، على الرغم من أنه أنفق عمره في اقتناء أعمال دوستويفسكي وقراءتها والحفاظ عليها، بما تضمه من قيم إنسانية سامية تبني الفكر وتنير العقل وتصنع البهجة والسعادة وتهفو إلى الحرية هدفًا وأملًا لإنسان ذلك العصر، المشتت الضائع وسط متاهات الصراعات والحروب والاستسلام لليأس والخنوع والفقر، ومن ثم الأمراض والموت. إنها صرخة ضد التوحش الرأسمالي والانتهازية والسيطرة على مصائر البشر وتطلعهم إلى الحرية وسيادة العقل والوحدة والتضامن لأجل حياة سعيدة تشملهم جميعًا بهدف البناء لا الهدم.

 

 

جدل الحضور/ الغياب

 

ثمة شعور بالفقد والحزن يسيطر على لغة الشاعر، على امتداد قصائد الديوان، بعد وفاة الأب الذي كان بمثابة شجرة الأمان والطمأنينة التي تمتد فروعها ليشمل ظلها كل من حولها، الأم، والإخوة، والشاعر والأقارب والجيران، صارت الأمكنة كلها باعثة على الكآبة، البيت والمقهى، والشارع، والحي الذي يقطنه: حي الأزهار. يقول في القصيدة الأولى بعنوان “أبي”:

منذ ثلاثين عامًا/ ألقيت أبي من النافذة/ خرج مع الريح/ والهواء والرمل/ خرج هكذا بخفة ملاك/ صورته التي أربكت أمي لسنوات طوال/ مازالت تعدو/ ما بين الصالة والمطبخ/ أمي التي لم تنم/ أخبروها أن أبي لم يترك امرأة ولا رجلًا/ إلا وحكى لهما/ عن المرأة الطيبة التي كان يخونها كل مساء/ وأنا أحمل جثته لألقي بها/ خارج رأسي/ اعترضت سيدة في آخر الممر/ المؤدي إلى بيتنا في حي الأزهار/ البيت الذي قام على دمعة من دموع أبي/ لم يعد يسكنه سوى الأشباح/ التي تركها تنعى ذكرى نذالته.

يبدو الأب في هذه اللوحة الحاضر الغائب، دومًا. باستخدام تقنية الفلاش باك، يسترجع الشاعر أحداثاً من حياة ذلك الأب المتوفى منذ ثلاثين عامًا، فلم يشفع مرور كل هذه السنوات في نسيان تلك اللحظة الأليمة التي تركت جرحًا غائرًا لدى الشاعر بوفاة الأب، ولا يزال أثرها ممتدًا لدى الأم التي ظلت حزينة مؤرقة هي الأخرى بعد مرور تلك الأعوام الثقال، بعد معاناتها معه، وما سببه لها من عذابات أحالت حياتها جحيمًا، تتناوشها الوحدة والحزن والاغتراب، أضحى البيت الذي تسكنه سجنًا، بل كالخرابة التي تسكنها الأشباح، وهنا تبدو المفارقة بين اسم الحي / حي الأزهار، والبيت الموحش الذي أصابه الجدب، فأجدبت حياة من يقطنونه وعلى رأسهم الأم الثكلى.

وكما امتد أثر الوفاة والخراب على البيت وساكنيه، امتد أيضًا للمقهى الكائن بذلك الحي، فصار موحشًا خربًا هو الآخر. إذا كان الناس يتخذون من المقهى مكانًا للترويح عن النفس والالتقاء بالأحبة والأصدقاء، إنه تحول لدى الشاعر إلى مكان لاجترار الأحزان، والشعور بالضيق. إنها أضحي كالقبر لمرتاديه صاروا غرقى في بحر لجي مظلم. يقول:

في المقهى/ يختبر الغائبون محبتهم/ بذكر من تركوها ها هنا/ بلا ساحل أو مدى/ كانت شجرة تبني بيتها/ من دموعهم/ الراحلون إلى بحار اب ملاحوها/ اليوم أسكنتهم الأيام ديارًا ليست لهم/ العارون بسرهم/ أسموا أنهم شاهدوا الليل/ يتآمر عليهم/ الهاربون إلى محبة منتهية الصلاحية/ يخرجون الآن بحثًا عن قبورهم/ في غابات أسلمتها المعارك/ مفاتيح الفقد بشكل حصري/ ليت المقاهي تعر عاشقيها/ لاستبدت بهم/ دون الغياب المر/ المصابيح التي اعتادت أصواتهم/ ادرت إلى أسقف أخرى/ حين خانت مفاتيحها/ وأضربت عن العمل/ حين طاردتني طيور الصباح بسؤالها/ منْ أغلق كل هذه الساحات في وجه العابرين العزل من البهجة/ صار صوتي وحيدًا/ ولا أسلحة….في المقهى كنت أنتظرك/ حتى حلق الخراب فوقنا.. كنت أنتظرك/ حتى غاب المقهى خل سجنه الطويل/ دون أن يعرف/ متى يعود صاحبه/ ليرفع عنه تلال الكآبة المزمنة/ المقهى المحكوم بإغلاق مؤبد/ يعرف كم أفتقدك.

 

 

تداخل الفنون

لعل من أهم سمات الديوان خاصة، وشعر طارق هاشم بصفة عامة – كما ألمحنا في البداية – ذلك السرد الشعري الأخاذ، المقترن بكسر الحواجز بين الأجناس الأدبية وفنون الأداء، كالسينما والمسرح، ومن خلالها تكتمل صورة اللوحة الإبداعية لديه، ويبدو ذلك جليًا في قصيدة “حبيبتي لا تصدق الأفلام”، عبر استدعاء شخوص وأبطال السينما وأعمالهم، كالفنانة الراحلة سعاد حسني والفنان حسين فهمي، بطلي فيلم “أميرة حبي أنا”، ساردًا، من خلال صوغ شعري رائق وموحٍ، ما يعتمل داخل النفس الإنسانية بجناحيها، الرجل والمرأة؛ من خلال ثنائية المرأة – الرجل، والإحالة إلى الفيلم السينمائي حقق الشاعر هنا أمرين، الأول: عرض وجهة نظر المرأة والرجل كليهما تجاه الآخر، والطبيعة الإنسانية التي تحكمهما، والثاني: إثراء خيال المتلقي وإكساب النص سمة درامية، عبر الإحالة إلى الن السينمائي المتكئ على الحركة والصورة من خلال الكاميرا، وذلك ما يجعل المتلقي يربط بين النص المكتوب (القصيدة) والتجسيد السينمائي، فيقارن بين الشخصيتين هنا وقرينتيهما هناك، متمثلًا في الحبيب والحبيبة، أو الزوج والزوجة، وهو ما أشرنا إليه بتداخل النون الإبداعية الكتابية والأدائية، الذي يكسب النص حيوية ودرامية وجمالًا ويثري خيال المتلقي ليشارك ي العملية الإبداعية بإيجابية، يقول:

حبيبتي تصد الأفلام/ لا شيء أصعب/ من أن تراقب أصابعك/ وأنت تشير إلى ليلها/ حين يعبر الشاشة/ ليخدش امرأة جميلة/ هكذا بحنان عابر/ يدها لا تغيب طويلًا/ لكنها تخمش القلب/ كعصور مهاجر/ تقول لي إنها لا تحب سعاد حسني/ لأنها بلت أن تكون مجرد رقم/ في أميرة حبي أنا/ كيف صدقت حسين فهمي/ وهي تعر جيدًا/ أنه تزوج من قبل أكثر من امرأة كاذبة/ السينما بالنسبة لحبيبتي/ بحر غاص بالخطيئة/ وأنا بين جرحين/ لا أرى من الماء سوى رحلته/ من آخر الليل في ركن عينيها/ رلى المصب.

كما يستدعي الشاعر شخصية “ماريا” بطلة رواية “النفق” للكاتب الأرجنتيني أرنستو ساباتو، ومن خلال السرد الشعري يروي قصتها وخداعها من جانب الراوي (البطل) الرئيسي في رواية “النفق”، ويأتي هذا الاستدعاء لدلالة فنية، كما أشرنا، توحي بوجه الشبه بين عالمين قاسيين خادعين، هما عالم ماريا ي رواية النفق، وعالم الشاعر المبدع في هذا الديوان، يقول في قصيدة “ماريا”:

منذ ساعة واحدة فقط/ هربت (ماريا) من رواية النفق/ أخبرها أرنستو ساباتو/ أن الراوي سيقتلها/ في الفقرة السابعة والثلاثين/ كانت تحدثني وهي مرتابة/ مازالت رعشتها/ تهدد سكينة العالم/ قالت إنها لم تكن تعرفه/ وثقت به دون شرط/ ولولا أن أرنستو تراجع عن فكرته/ لماتت هكذا/ بطريقة عبثية/ اختار أرنستو أن يتخلى/ عن حيلته الدرامية التي بنى عليها روايته/ الجميع هنا/ كانوا ينتظرون موتي/ دون أدنى شك/ موتي بدعوى خيانة خوان بابلو/ مع علمهم التام/ بأنه موتور وكاذب.

ويمكننا القول إنه إذا كان ساباتو د عبّر عن عالم أبطاله وصور حياتهم ي رواية النفق، إن الصوغ الشعري باستدعاء شخصيات روايته وعالمهم الموحش قد أضفى حياة وحركة ودرامية إضافية على هذه الشخصيات المستمدة من العالم الواقعي الذي يموج بأفعالها وخطاياها والذي يروم الشاعر تصويره شعريًا هنا.

 

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *