قراءة في كتاب” الثقافة والمقاومة ” لإدوارد سعيد

(ثقافات) 

 

” الثقافة والمقاومة ” لإدوارد سعيد :

 حوارات جريئة تطرح قضايا فكرية وسياسية وتحرض المثقف للتفاعل معها

 

* يحيى القيسي

 

“الثقافة والمقاومة ” كتاب يضم حوارات كان أجراها الإعلامي الأميركي ديفيد بارسيمان مع المفكر العالمي إدوارد سعيد،  وقد صدر الكتاب خلال هذا العام عن دار الآداب ببيروت ، من ترجمة القاص والمترجم علاء الدين أبو زينة ، ومن تقديم الناقد والأكاديمي د. محمد شاهين ، وقد جاءت هذه الحوارات على شكل ست جلسات مطولة ومعمّقة التقى فيها بارساميان مع سعيد، وهي حقا كما أشار شاهين في مقدمته تضم ( أسئلة وجيهة وإجابات وجيهة أيضا ) فمحاورة مفكر بحجم سعيد يحتاج إلى أسئلة من طرز خاص ، وتحضير مطول ، وفهم عميق لطبيعة آراء سعيد وكتاباته ومواقفه الفكرية والسياسية ، وحسنا أبدع بارساميان  بحيث متح من نبع سعيد الذي لا ينضب أفكاراً وآراء تشكل منارات تزيل العتمة لمن يقرأها ، فالرجل الفلسطيني الأميركي الإنساني واسع النظرة، وجريء بما يكفي ليحرج رجال السياسة (الآنيين) من الفلسطيننين والاسرائيليين معا، إضافة إلى طروحاته الجدلية التي جعلت بعضهم يتجنب كتبه ونقاشه ويكتفي بصورة نمطية مبتسرة عن آرائه المعلنة، وعناوين كتبه دون التعمق فيها .

الحوارات جاءت خلال الفترة من 1999 – 2003 أي خلال الفترة التي كان فيها مريضا، والتي سبقت وفاته إضافة إلى الغليان الذي ساد المنطقة حيث العدوان الإسرائيلي المتواصل على الفلسطينيين وتصعيده ، والوضع المتدهور في العراق جراء الاحتلال الأميركي.

يقول بارساميان في مقدمته لكتابه :

” حرضت حرب 1967 إدوارد سعيد على أن ينشط على الصعيد السياسي، وبعد سنة ظهرت مقالته السياسية الأولى “صورة العرب”. وعندما أطلقت رئيسة الوزراء الإسرائيلية “جولدا مائير” تصريحها الشائن عام 1969 والذي قالت فيه: “لم يكن الأمر وكأن هناك شعب فلسطيني .. إنّهم لو يوجدوا أبداً”، قرر سعيد أن يضطلع بما أسماه: “تحدي دحض ما ذهبت إليه والذي يمازجه شيء من منافاة العقل، والشروع بإنطاق تاريخ الخسارة والفقدان الذي ينبغي أن نبوح به ونحرره دقيقة بدقيقة وكلمة بكلمة وإنشاً بإنش”.  هكذا كتب إدوارد سعيد “

ويضيف بارساميان ” لسنوات طويلة كان إدوارد المتحدث الرئيسي باسم القضية الفلسطينية في الولايات المتحدة. وهو يقول معلقاً على ذلك: “إن فلسطين قضية غير مجزية على الإطلاق.. فأنت لا تأخذ شيئاً في المقابل سوى الازدراء والاضطهاد والنبذ …. كم من الأصدقاء يتجنبون الخوض في هذه المسألة؟ وكم من الزملاء لا يرغبون في سماع أي خطاب فلسطيني؟ وكم يصرف الليبراليون المتحمسون من الوقت في الاهتمام بقضايا البوسنة والشيشان والصومال ورواندا وجنوب إفريقيا ونيكاراغوا وفيتنام والحقوق الإنسانية والمدنية في أي مكان على وجه البسيطة، ولكنهم لا يفعلون شيئاً من ذلك فيما يخص فلسطين أو الفلسطينيين؟”

ويؤكد ديفيد بارساميان مؤسس ومدير ” الراديو البديل ” في كوليرادو وصاحب عدة كتب من الحوارات مع تشومسكي وطارق علي وغيرهم أن ” إدوارد سعيد دفع ثمناً باهظاً بسبب مكانه البارز في مشهد القضية الفلسطينية، فوُصم بأنه “بروفيسور الإرهاب”، ودعته قائمة الدفاع اليهودية بالنازي، وتم إحراق مكتبه في كولمبيا، وتلقى هو وأفراد عائلته “تهديدات بالموت لا حصر لها” كما كتب إدوارد نفسه.

ظلّ سعيد عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني لأكثر من عقد من الزمن، احتمل خلاله نقمة القوميين العرب بسبب دفاعه عن “فكرة التعايش بين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين العرب”، ولأنه أدرك أنه “لا مكان للخيار العسكري”. كتب إدوارد:

“كنت أوجه نقداً صارماً لاستخدام الشعارات والكليشيهات نحو ‘الكفاح المسلح’ ولروح المقامرة الثورية التي نجم عنها موت الأبرياء في وقت لم تسهم فيه بإحراز أي تقدم للقضية الفلسطينية على الصعيد السياسي”.

ومنذ استقالته من المجلس الوطني الفلسطيني عام 1991، أصبح سعيد واحداً من أبرز المناهضين علناً لياسر عرفات ولما يسمى بعملية السلام، وظل صوتاً متفرداً للمقاومة وسط كل اللغط الذي ساد آن توقيع اتفاقية أوسلو في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض في أيلول عام 1993.

وفي موازاة نشاطه السياسي تنهض إسهامات إدوارد سعيد الهائلة في حقل الإنسانيات، فبكتابه “الاستشراق” غيّر إدوارد سعيد الطريقة التي كنا نقرأ بها الصورة النمطية التي يقدمها الأدب الغربي للإسلام والعرب والشرق الأوسط، كما قام باستكشاف الطريقة التي يجري بها توظيف المعرفة للدفاع عن السلطة وإكسابها المشروعية. ويعتبر كتاباه “”الثقافة والإمبريالية” الذي ظهر عام 1993 و”الاستشراق” من قمم إنجازه الثقافي العظيم.

على نحو ما، وفي خضم انشغالاته وفي أوقات فراغه، يستطيع رجل النهضة والتنوير هذا أن يجد الوقت ليعزف البيانو ويكتب عن الموسيقى والأوبرا.

أما بخصوص الحوار معه فيرى بارامسيان أنه  “من الصعب أن أنقل على الورق كل تلك الطاقة الهائلة والإثارة العقلية والحماس التي يستطيع سعيد أن يولدها. إنه يمنح نكهة رائعة للأخذ والرد في الحوار. وربما يهم الجمهور أن يعرف أن كل إجاباته كانت تلقائية، وأننا لم نقم أبداً بمراجعة أي من الأسئلة أو إجراء تمرينات عليها ” .

أما الناقد شاهين فقد تساءل في مقدمته ” هل عرف بارساميان أن إدوارد كان يأمل بداية ألا يكون بارساميان مثل العشرات الذين يأتون إليه من أجل إجراء مقابلة معه بأسئلة أشبه بكلام عابر دون أن يكونوا فعلاً على مستوى الأسئلة الوجيهة ودون وعي مسبق منهم بأن إدوارد سعيد جاد وملتزم بقضية الأزل؟ أغلب الظن أن بارساميان كان على وعي بذلك بدليل أنه يبدأ مقدمته باقتطاف قول إدوارد سعيد: “لم أستطع أبداً أن أعيش حياة ساكنة أو غير ملتزمة. ولم أتردد في إعلان انتمائي والتزامي بواحدة من أقل القضايا شعبية على الإطلاق”. وأكثر من ذلك أن بارساميان أدرك مثلما أدرك إدوارد سعيد من قبله أن قضية فلسطين التي التزم إدوارد بها طوعاً هي أشبه بالأم الثكلى التي لا يوجد  بواكي لها كبقية الأمهات. ما إن بدأ بارساميان بتسميع بيتين من شعر محمود درويش حتى أيقن إدوارد سعيد أن مقابله ليس في غفلة عن ثقافة القضية وشعبها مثل الآخرين الذين لا يحملون أسئلة وجيهة. وقد اشتكى إدوارد سعيد من كثرة الذين قدموا للتحدث معه دون إلمام بأي شيء له علاقة بالتزامه وانتمائه.

ويتابع الناقد شاهين توصيفه المعمق لجهد سعيد وباساميان معا بالقول :

إنّ هذه المقابلات لا تحتاج إلى تقديم، فنصوصها هي التي تقدم نفسها. ولكني أود أن أقدم بضع ملاحظات من شأنها أن تذكرنا ببعض مقومات خطاب إدوارد سعيد الفذ. من هذه الملاحظات أن خطاب إدوارد سعيد يتصف بالكونية أكثر من الشمولية، أو بالشمولية التي تتحول على يديه إلى كونية. فهو خطاب جامع يرتبط فيه الأدب مع السياسة وتتداخل فيه الفلسفة مع الدين لتكون جميع هذه العناصر منظوراً يفوق حدود المكان والزمان. ولدى إدوارد سعيد القدرة على تخطي المألوف واستبطان هذه الكونية في القضايا التي يعالجها، ويمكن لنا أن نرى اهتمامه بالكونية حين يذكر لنا في حديثه مع بارساميان مثلاً أن محمود درويش رجل أممي وكوني في مذاقاته ومنظوره.

هذه الرؤية الكونية هي التي ارتقت بالمسألة الفلسطينية التي كرس حياته لها. فقد تبنى قضية الأزل الفلسطينية وهو يعلم حق العلم، كما صرح في بداية هذه المقابلات، أنها قضية لا يجد من يتبناها دعماً مثلما تجد قضايا النضال المختلفة الأخرى في العالم، وخصوصاً من الغرب الذي تسبب في المشكلة أصلاً. وإذا كانت القضية في حد ذاتها تشكل إيحاء خاصاً يدفعه إلى تبنيها بسبب معايشته لها شخصياً ومعاناة شعبه منها، فلا يعني هذا عنده أن هذا الإيحاء سيكون مقبولاً عند الآخرين بشكله الذي قبله هو. وهذا ما يجعل إدوارد سعيد يعيد إنتاج هذا الإيحاء ليولد منه إيحاءً آخر جديداً يجد هوى في نفوس الآخرين البعيدين على القضية مكاناً وزماناً وارتباطاً. ولو أردنا أن نصف هذا الإيحاء لقلنا أنه يتميز بالمنظور الكوني.

لم ينظر إدوارد سعيد إلى فلسطين في معالجته لقضيتها على أنها كما يقولون “أم الدنيا” بل نظر إليها على اعتبار أن الدنيا أمها. فبدلاً من أن يضع فلسطين في المنظور الذي يتطلب سفر العالم إليها ليدرك أبعاد مأساتها، سافر إدوارد بفلسطين إلى العالم وأرسى دعائم سفرها المتواصل في أرجاء المعمورة. هكذا أسمع صوته إلى الدنيا ولم ينتظر حتى تسمع الدنيا صوته. كل هذا مرده إلى إيمانه الثابت بأن العقل (الخيال) يجب أن يقوم بدور فعال يتخطى الحدود الإقليمية والأبعاد الزمنية، إذ لا يكفي أن ينكفئ المرء على نفسه لأنه صاحب قضية عادلة، ولا ينبغي أن يشكل الإحساس المجرد بعدالة القضية آخر المطاف. كم اشتكى إدوارد سعيد من الأساليب العقيمة التي استخدمت في طرح القضية الفلسطينية. وكم نبه إلى ضرورة الاهتمام بطريقة التوصيل Communication التي بدونها تظل القضية حبيسة الصدور عند أصحابها. إن التوقف عند القناعة الذاتية بالقضية سيجعلها في حالة سكون إلى الأبد. وفي جميع الأحوال، فإن خطاب إدوارد سعيد هو أقوى خطاب حظيت به القضية الفلسطينية. وإن ما ستجنيه هذه القضية مستقبلاً سيكون من ثمار هذا الخطاب الذي استطاع إدوارد سعيد أن يوصله إلى الغرب، صاحب أعقد خطاب في التاريخ الحديث.

أما بالنسبة لقضية الثقافة فيقول شاهين إن ” إدوارد سعيد قدم لنا مساهمة جليلة يشهد العالم له بها، أولاً في محاضراته التي دعي لإلقائها بهيئة الإذاعة البريطانية، وهي سلسلة المحاضرات التي دعي لإلقائها مشاهير العالم من أمثال برتراند راسل، ونشرت تحت عنوان” صورة المثقف” التي دعا فيها المثقف إلى أن يجهر بالحقيقة في وجه السلطان، وإلى أن يكون المثقف هاوياً لا مهنياً، بمعنى أن يكون حراً. أما كتابه “الثقافة والإمبريالية” فقد أصبح مرجعاً هاماً في ميدان الثقافة. وليس من قبيل المبالغة أن نقول إن إدوارد سعيد نجح في إدخال مفهوم الثقافة إلى العربية، إذ كثيراً ما اختلط هذا المفهوم بمفهوم الحضارة، ربما لأنه الثقافة عندنا كانت محصورة في التعليم أو في التربية والتعليم فنقول مثلاً إن فلاناً مثقف بمعنى أنه قارئ جيد ولديه معلومات كتبية جمعها وحفظها من خلال إقباله على القراءة والكتابة. وما زلنا نعتبر كلمة “حضارة” أرفع مستوى ونكثر من استخدامها بدلاً من “ثقافة”. لكن الفارق بدأ يتضح على يدي إدوارد سعيد.

يخبرنا إدوارد سعيد إن الثقافة تمتلك عنصراً كونياً يجعلها تسمو على الإقليمية والقومية والمحلية والآنية والعرقية والطبقية، إلى آخر ذلك من التصنيفات التي ظلت إلى عهد قريب تثقل كاهل الثقافة. وقد بين لنا إدوارد سعيد أن ثقافات العالم متداخلة وأنها تأخذ من بعضها البعض وتعطي بعضها البعض أيضاً، وهذا ما يغني الثقافة على المدى البعيد. ومن المعروف أن إدوارد سعيد ساهم في إخراج الثقافة من برجها العاجي الذي ظلت تقبع فيه ردحاً من الزمن، إذ قدمها على أنها نمط من العيش يمارسه المجتمع بتلقائية تجعل من الصعب إخضاعه لمنطق جاهز أو لتبرير مسبق.”

  • تم نشر هذه المقالة في مجلة أفكار، وصحيفة القدس العربي 2006

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *