(ثقافات)
الهجرة واللجوء الى الغرب في الرواية
*عائد خاصباك
ما عاد موضوع الهجرة في الروايات العربية كما كان عليه الأمر سابقا، أيام المهجريين الذين غادروا بلاد الشام الى الأمريكيتين أوائل القرن العشرين، ومنهم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وغيرهما العديد من الأسماء الأدبية المعروفة الأخرى، ولاعادت المواضيع تدخل ضمن ما كتبه الدكتور سهيل ادريس من موضوعات، في الجزء الثالث من ثلاثية روايته المعروفة” أصابعنا التي تحترق” عن ذلك الطالب الذي غادر بلده الى باريس، يكمل في احدى جامعاتها دراسته، فبطله في الرواية مثقف، أهدافه معلنة، ما أن يصل اليها، يعود الى بلده ، لكن بعيون وثقافة أخرى، هذه الرواية وغيرها من اللواتي على شاكلتها، لا تسعى الا تجسيد النواحي التي يتم فيها الصراع بين “الشرق” بمفاهيمه التقليدية، و”الغرب” الذي أخذ مسيرة العلم المتواصلة، فهي التي تحل له مشاكله، أيا كانت تلك المشاكل ، ويمكن أن ندرج رواية الطيب صالح ” موسم الهجرة الى الشمال” في هذا المفهوم، فالبطل السوداني ذهب الى الغرب، هدفه تلقي العلم في البلاد التي كانت سابقا تحتل بلده، انتهى به الصراع” بين الشرق والغرب” أن يعود الى بلده مجددا، ونحن نعرف بقية القصة. خذ أيضا ، يحيى حقي في روايته القصيرة ” قنديل ام هاشم” فقد خاضت في هذا المضمون أو قريبا منه، لقد نأى الكاتب بنفسه، في الروايتين، تماما عن معالجة المشاكل السياسية واستعاض بالمشاكل الاجتماعية والفلسفية بديلا عنها.
طرحت بعض الروايات العربية سابقا موضوع الهجرة بقوة وصار محورا لها، ولكن أي نوع من الهجرة؟ الهجرة الى البلاد التي يجد فيها عملا، فبغياب تلك الفرص في بلده، شد الرحال الى بلد آخر، لا يعنيه المستوى الثقافي لمواطنيها لأنه لم يأت للتزود بعلوم مدارسها أو جامعاتها، فهو بالأساس ليس له أي تحصيل دراسي، وما يهم الشخصيات في الروايات هذه الا أن تجمع المال وترسله الى أهله هناك في اليمن ، ورواية محمد عبد الولي” يموتون غرباء”، الذي هاجر الى “أديس ابابا ” المثال المناسب لما ذهبت اليه، وتكاد تكون الروايات اليمنية التي كتبت في زمن مقارب لـ ” أصابعنا التي تحترق” تكاد موضوعاتها كلها، تقترب في هذا الموضوع الحيوي الذي يشكل واقع الحال في هذا البلد.
في السنوات الأخيرة،عندما بدأت أفواج المهاجرين ، تشق طريقها الى حيث تجد الأمن الذي افتقدته في بلدانها، وعلينا معرفة أن هذه الهجرة ليست طوعية، بناء على ما جرى من أحداث مؤلمة، فلا شك أن الهجرة هذه ستترك آثارا على الكاتب المهاجر، اذن ما الذي أضافته الوقائع التي مر بها اليه، لأنه بطلها، لهذا الموضوع، وماذا اختلف في طريقة سرد الأحداث؟ هل ستبقى أسيرة الأساليب المعتادة في الروايات التي لم تتطرق موضوعاتها الى مثل هذا، هل ستكون الأساليب كما يجب أن تكون، في الروايات التي كتبها سابقا أو قرأها، أم ستكون الوجه الثاني لمعترك الأحداث التي قابلته قبل أو بعد وصوله؟ عبوره البحر مع غيره من اللاجئين في زورق ، وتمويه حرس الشواطئ أو الحدود كلما شعر بالخطر، رفاقه في معترك الحياة هذه أناس لم يعرفهم من قبل، لكن بعضهم يشد أزر بعض.
لا شك، لم يألف الكاتب العربي هذا الموضوع سابقا، “اللاجئ” الذي ترك وطنه الأم لأسباب ذكرناها، وعندما أقول “الكاتب العربي” إنما أقصد الكتاب الذين واجهوا ظروفا أجبرتهم على مغادرة بلدانهم، وهؤلاء غير موجودين في بعض البلدان الأخرى، من تلك التي ترفل في نعيم النفط.
لقد ظهرت كتابات تحمل خصائص سردية نوعية ، فرضت وجودها تماشيا مع الوضع العربي الجديد، سواء بعد ربيعه العربي أو قبله، حاملة معها ليس الاحساس بالاضطهاد والخوف، فهذه الأحاسيس موجودة أصلا ، إنما تحمل احساسا آخر هو: أن كل الذي يجري، هو أقل مما لو أن الأمر استدعاه للبقاء في وطنه ولم يغادر ، الكتابات هذه كتبت بروح جديدة لا صلة لها بما هو موجود في كتابات غيره ، والوطن بالنسبة لها قد أصبح مشهده ضبابيا،اذا ما اقتضى الأمر وتذكر الوطن ، وطنه البعيد، سيكتب عن وطنه بهذه الرؤيا، حتى لو أنه لم يستطع أن يندمج أو ينسجم مع أعراف المجتمع الذي استضافه، وقد نقرأ في بعض الروايات مشاعرا للحنين الى وطن اقتلع منه بحكم الأحداث، لكن هي مشاعر لا تلبث أن تضاءل مع تتالي الأحداث في بلد الاستضافة.
وبحكم وجودي بعيدا عن الوطن الأم منذ أكثر من ربع قرن، أستطيع أن أحدد وأنا أنظر حولي، الى أن هناك اختلافا جوهريا في مفهوم الهجرة عند من كتبوا موضوعاتهم عنها، والكاتب نفسه في موضوعه هذا، ليس بالضرورة أن يكون متشابها مع غيرة، لأن الأحداث التي مر بها، قبل أو بعد أن يصل الى بلد الاستضافة، هي متشابهة، لكن هناك مفردات خاصة من الأحداث ولنقل الهوامش، وهذه قد تأخذ مكان المتن.
هناك من اندمج مع المجتمع المضيف، لأنه هو من قدم اليه عن طواعية، مفهومهم للهجرة مختلف عن الكاتب الذي يرى أن ما يحصل هو مرحلة محددة تزول بزوال أسباب الهجرة، لكن يبقى الفرق قائما بينها و بين الكتابات السابقة، ما رأيناه في “أصابعنا التي تحترق” لسهيل ادريس و الطيب صالح في “موسم الهجرة الى الشمال”، وغيرها ورواية محمد عبد الولي” يموتون غرباء”.
تبني روايات “الهجرة واللجوء” نفسها على ما يميزها من الأحداث التي تسردها، وقد يجنح البعض من كتابها الى الغرائبية، لأن الأحداث التي مرت به، مما لا يمكن أن يتخيله المرء، غرائبية في الحقيقة، وليست غرائبية على صعيد الكتابة، لا يعني كتاب هذا النوع من الرواية الوقوف على الأحداث تلك، أو على على ما هو جديد عليه في البلد الذي استضافه، والتي لم ير أو يمر بمثلها في وطنه قبل مغادرته، من اختلاف العادات والتقاليد، فهنا هي غير ما هي عليه هناك. وللعلم هذه لا تحدث هي وضعه النفسي ما يهزه من الأعماق،أو يزلزل كيانه، فالمشكلة الأساسية ليست في ذلك.
قد يشعر الكاتب بالغربة والاقتلاع من وطنه الأم، وهذا لا يأتي الا عند بعض شخصياته غير الفاعلة ، تلك التي تجذبها مفردات حياته الخاصة التي كانت له هناك، تتعلق بتذكر حياته السابقة بين أركان بيته أو أفرادا من عائلته أو رفاقه أو ح بيبته، أو أشياء من هذا القبيل، لكن هذه تتلاشى من مرور الوقت
في بعض الروايات لم تكن فكرة الاندهاش والانبهار بحضارة البلد المضيف موجودة، لماذا؟ لأن هناك ما هو أهم ، موضوع الطريقة والكيفية التي وصل بها الى بلد اللجوء، يتناول أولا من هاجر مضطرا، يطلب ملاذا يحتمي فيه من القهر الجسدي والاجتماعي، والسياسي، ومن الاضطهاد النفسي. وهذا يعني أن هؤلاء هاجروا، وهم يؤمنون أن لا مستقبل لأوطانهم، قسم منهم : وجدوا ما كانوا يصبون إليه من العيش الكريم، والعمل، والحق في حرية التعبير والتصرف .
* * *
في الجانب الآخر، وبالنسبة لي، كما عرضته أحداث روايتي” المقهى الأسباني”الصادرة في القاهرة (عن دور الثقافة الجماهيرية ، سلسلة آفاق عربية،) الأمر بدا مختلفا، فالطالب اللبناني الذي وصل الى باريس لتلقي العلم هناك، والاغتراف من معارفها، باللغة الأصلية، كما في رواية سهيل ادريس” أصابعنا التي تحترق”، عاد فيما بعد الى بيروت بعد أن أنهى مهمته، ليشارك في الحياة الثقافية وغيرها ويتفاعل معها، كذلك الأمر نفسه في رواية ” موسم الهجرة الى الشمال ” رواية الطيب صالح، وقبل هاتين الروايتين، رواية “قنديل أم هاشم” ليحيى حقي.
المهاجرون الجدد لم يصلوا الى الغرب بحثا عن العمل، كما هو الأمر عند محمد عبد الولي في” يموتون غرباء”، بل هاجر ليحمي أفكاره ومبادئه من اضطهاد السلطة، أوهربا من الضيق والعوز المادي، فلم يعد هناك ما يسد به رمقه ويبعد شبح الجوع أفراد عائلته، أو هاجر ، تهربا من التجنيد الاجباري و اداء خدمة العلم.
كانت حال الطالب اللبناني الذي وصل مدينة هامبورغ الألمانية في روايتي” المقهى الأسباني”،كانت طبيعية جدا، مثل أي شخص سوي ، بدأ بدراسة اللغة قبل أن يباشر دراسته في العلوم، وبعد الانتهاء من ذلك، اختار الدراسة في مدينة” آخن” وفي دار سكن الطلاب تعرف الى مجموعة من الطلاب العرب ، انتهى معهم الى الذهاب الى احد دور العبادة هناك، فتم تجنيده مع تتالي زياراته ، واقتنع أن ينفذ عملا ارهابيا ، لكن الحقيبة التي اصطحبها معه الى محطة قطار مدينة” كولونيا” اكتشفتها كاميرات الرصد، فأبطل مفعول المتفجرات التي كانت فيها، واستطاع هو أن يفلت أو يتخفّى، ليعود في النهاية تخفيه الى بيروت، طبعا هذه حادثة حقيقية وأنا نقلتها بطريقة منهجي في الكتابة الروائية التي تستفيد غالبا من الوقائع الحقيقية، وتسير بها فنيا، فتعلو على الواقع الحقيقي، مما يكفل لها الاستمرار على الصعيد الفني، وبدون هذا سيكون ذلك الحدث أو غيره مجرد وقائع أو أخبار يتداولها الناس فيما بينهم.
لحدث مثل هذا، جانبان ينبغي توضيحهما ، الأول: أن هذا الطالب انتهج خطا آخر، غير ما كان عليه الطالب في ” أصابعنا التي تحترق” الذي اتمّ دراسته على أكمل وجه، وكان معارفه في باريس كلهم من المثقفين ودارسي الأدب، وبعضهم ممن كانوا يكتبون وينشرون.
والثاني: أن الطالب عاد الى بلده بعد أن أنهى دراسته.
لكن في روايتي” المقهى الأسباني” ذلك الطالب عاد الى بلده، ولكن هاربا من العدالة، وقد ضبطت قوى الأمن، أن تلك الحقيبة التي كان يريد أن يفجر ما احتوت عليه من متفجرات في محطة قطارات المدينة الرئيسية، المزدحمة بالمسافرين، طبعا أنا أدرك تماما، أن الزمن لعب دوره هنا، ففي ستينات القرن الماضي ، زمن ” أصابعنا التي تحترق” هو غير زمننا الحالي،الان وقبل الان، كان زمن ابن لادن والزرقاوي وداعش، وزمن الأمريكان الذين لعبوا دورا في تغذية الارهاب وإعلاء شأنه، وغزو البلدان، هذا هو الذي جعل من طالب متفتح على الحياة، رسم لمستقبله أجمل الأمنيات، أحب الناس والفتيات في مثل عمره، فيتحول بقدرة قادر الى ارهابي يريد أن يقتل الناس جميعا سواء كانوا معه في فكره ودينه، أو يخالفونه في معتقده ومذهبه، ويقتل النساء، سواء من هي بمثل عمره أو بمثل عمر أمه أو جدته. المبدأ هو القتل.
بطبيعة الحال، لكل حدث في الحياة شرطه الفكري و التاريخي والاجتماعي والسياسي، وهذه بمجموعها تحدد ما على الأدب أن يتخذ الصورة التي تظهر عليها. وفيما يتعلق الأمر بأدب الهجرة واللجوء، كان شيئا مختلفا قبل الحركات الارهابية وأصبح شيئا آخر بعدها .
معلومة: لم ألجأ في” المقهى الاسباني” الى االكتابة بضمير المتكلم، فالكتابة بهذا الضمير، تجعل الأحداث تنتمي إلى الكتابة الوثيقة، وأنا ككاتب للرواية،رأيت أن تكون روحها مختلفة.
ومع أن حدث هذه الرواية واقعي جدا، أرى أنه جدير بالتأمل.
- عن مجلة الثقافة الجديدة – العراق