الإسلام في الغرب


*سمير حجاوي

تتعرّض صورة العالم الإسلامي لكثيرٍ من التشويه والتحريف والتضليل، في وسائل إعلام غربية، التي تروِّج صوراً نمطية عن الإسلام والمسلمين؛ تثير الشك والريبة والخوف، وتُوجِد أسباب النفور من كل ما له صلة بالدين الإسلامي. ويواجه الإسلام اليوم جملة من التحديات تختلف عن كل الأشكال الأخرى من التحديات التي عرضت له في تاريخه؛ فهي تضع المسلمين أمام اختيار عسير يمسّ هويتهم وصورتهم ومكانتهم بين الأمم، ويهدّد مستقبلهم ويعوق تحقيق أهداف رسالة دينهم ذات الأبعاد الكونية والحضارية.

ومن بين أخطر هذه التحديات انتشار ظاهرة التشويه الإعلامي لصورة الإسلام والمسلمين في العديد من وسائل الإعلام الغربية، مما أدّى إلى تحريف الحقائق وتضليل الرأي العام الغربي، وتأليبه ضد المسلمين في كل مكان، بمن فيهم المسلمون الذين يعيشون في المجتمعات الغربية، والمسلمون الذين هم من الأبناء الأصليين لهذه المجتمعات. 
ظاهرة قديمة ومتجدّدة
ثمة تساؤلات تطرح نفسها عند دراسة ظاهرة الصراع مع الغرب مثل: منذ متى بدأ الصراع، هل مع بداية الفتوحات الإسلامية وهزيمة جيوش الروم في بلاد الشام؟ أم عندما غزا الفرنجة البلاد الإسلامية؟ أو مع الاستعمار الحديث؟ ربما كل ذلك..
وليس ثمة شك أنّ العلاقة حملت العديد من الصور والأفكار النمطية، بحيث أصبحت كلمة الإسلام مشحونة بكل صور الماضي، ولهذا فإنّ نشر الصور الكاريكاتيرية والمعلومات المشوّهة عن الإسلام في الصحف والمجلات والمحطات الفضائية، ليس وليداً للحظة الآتية، بل سبقته عمليات تشويه مُتعدّدة.
ويرصد كتاب الإسلام والإعلاموفوبيا.. الإعلام الغربي والإسلام: «تشويه وتخويف»، للدكتور المحجوب بن سعيد علاقة الإسلام مع وسائل الإعلام الغربية، وكيف تَمّ تشويه صورة الإسلام كدين، وصورة المسلمين، الذين يعتنقون هذا الدين، ويحاولون أن يعيشوا بسلام على هذه الأرض.
يرى الكاتب أنّ صنع الصور النمطية المسيئة إلى الإسلام والمسلمين وترسيخها في العقل الغربي ظاهرة قديمة ومُتجدّدة، فالإسلام أكثر الأديان تعرضاً للإساءة في الغرب، كما أنّ المسلمين هم أكثر شعوب الأرض حظاً من التشويه والتجريح في المجتمعات الغربية. ويدلّ الرصد التاريخي لتطوّر تلك الظاهرة على أنّ ساسة الغرب وقادة الرأي فيه كانوا ينظرون دائماً إلى الإسلام باعتباره يُمثل تهديداً لهم، فاللاهوتيون في العصور الوسطى كانوا قلقين مما أسموه تأثير القيم الإسلامية في القيم المسيحية تأثيراً تدميرياً، ولذلك رأى هؤلاء أنّ حماية المسيحية من الإسلام لا تكون إلا بضربه عسكرياً، والاستيلاء على أرضه وإقناع معتنقيه باتخاذ المسيحية ديناً. وقد كان هدف الحملات العسكرية الصليبية في المرحلة التالية مواجهة ما أسموه (التهديد الإسلامي) قبل أن يغزو ديار الغرب.
ولمْ يختلفْ موقف الغربيين من الإسلام في حقبة الاستعمار، في مطلع القرن العشرين، عن مواقفهم في الحقب السابقة، فقد كانت حركة الاستشراق في مجملها أداة من أدوات مواجهة التهديد الإسلامي المزعوم. وكان المطلوب من هذه الحركة استكشاف معالم العقلية الإسلامية وفهمها فهماً جيداً؛ لتسهيل عملية استعمار الشعوب الإسلامية، واستغلال خيرات البلاد الإسلامية. وفي المرحلة المعاصرة، تتسق نظرة الغربيين إلى الإسلام مع تلك المنظومة من الرؤى المعادية الّتي ورثها العقل الغربي. فالإسلام يُمثل تهديداً للغرب كما هو واضح من نظرية زبجنيو برجنسكي عن هلال الأزمات، مروراً بنظرية برنارد لويس عن عودة الإسلام، وانتهاء بنظرية صاموئيل هنتنغتون عن صدام الحضارات. ونهضة الإسلام بالنسبة إلى هؤلاء جميعاً؛ تعني نهاية الحضارة الغربية، لا باعتبار الإسلام مجرد منافس أيديولوجي فحسب، بل لأنّه أيضاً يُمثل تحدياً حضارياً بالغ الخطورة.
لكلّ ذلك، فإنّ الكاتب يؤكد أنّ العالم الإسلامي والمسلمين اليوم ليسوا إزاء حالة عداء غربي محدود النطاق والتأثير، بل إنّ الواقع المعاصر يشهد ما أسماه الباحث البريطاني فرد هاليداي ظاهرة معاداة الإسلام، إذ يرى أنّ الاتجاه المعادي للإسلام أخذ يتسع في العالم، وليس في الغرب وحده، مع آواخر الثمانينيات من القرن العشرين، نتيجة لعدد من العوامل، منها انتهاء الحرب الباردة، وذيوع فكرة حلول الإسلام عدواً للغرب، عوضاً عن الشيوعية التي أفل نجمها بانهيار الاتحاد السوفياتي، ثم أخيراً صعود التيار اليميني المتطرّف في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. فالغرب لم يعدْ قادراً على التعرّف على نفسه، بعد انهيار خصمه الشيوعيّة، إلا من خلال تنصيب الإسلام آخر جديداً، فهو يصنعه صنعاً ليضمّنه جميع أنواع السلب أو النفي، التي تمكّنه من تحديد هويّته هو أي الغرب إيجابياً. وهكذا يصبح الإسلام وعاء لكلّ ما لا يرغب فيه الغرب، ولكلّ ما يخاف منه.
ولعلّ من الأهمية تتبع أسباب هذا التشويه المتعمّد عبر التاريخ، ومن المفيد هنا الاطلاع على ما قاله ديفد بلانكس ومايكل فراستو في مقدمة كتابهما الذي صدر عام 1999، عن (رؤية الغرب للإسلام في العصور الوسطى) ـ، حيث يؤكدان أن نظرة الغرب الحديثة للإسلام وُلِدَتْ في فترة كانت علاقة أوروبا بالإسلام فيها علاقة خوف وقلق، ما دفع الأوروبيين لتعريف الإسلام تعريفاً ضيّقاً قاصراً كدين يملؤه العنف والشهوة، يقوم على الجهاد العنيف في الحياة الدنيا، والملذات الحسيّة الموعودة في الآخرة.
كما نظروا إلى الرسول – صلى الله عليه وسلّم – في أحسن تقدير على أنه واحد من اثنين: إما قس كاثوليكي فشل في الترقي في سُلّم البابوية فقرّر الثورة ضد المسيحية، أو راعي جِمال فقير تلقّى تعليمه على يد راهب سوري؛ ليشكّل ديناً جديداً من قشور العقيدتين المسيحية واليهودية.
ونظر الأوروبيون إلى حياة المسلمين الأخلاقية نظرة مزدوجة، إذ نظروا إلى حجاب المرأة المسلمة كتعبير عن السرية والقهر والفصل بين الرجل والمرأة، وفي نفس الوقت نظروا إليه على أنه مصدر فجور واستباحة أخلاقية مستترة خلف الحواجز والأسوار.
وقد انتقلت هذه الصورة المشوهة إلى بعض أهم قادة الإصلاح الفكري والديني في أوروبا، وعلى رأسهم زعيم حركة الإصلاح البروتستانتي مارتن لوثر، الذي نظر إلى الإسلام على أنه حركة عنيفة تخدم أعداء المسيح لا يمكن جلبها للمسيحية؛ لأنها مُغلقة أمام المنطق، ولكن يمكن فقط مقاومتها بالسيف.
ومن يُطالع الصحف البريطانية على الإنترنت أن يرى كيف يصوّر الإعلام المقروء المرأة المسلمة، فهو يرى في الإسلام نموذجاً مُتخلفاً متعصباً للذكورية على حساب الأنثوية، وأن المرأة طبقاً للمجتمعات الإسلامية الشرقية تصبح سلعة للرجال، محتجبة منعزلة ، تعاني التهميش والتمييز والاستبعاد الاجتماعي.
وهناك الكثير الكثير من تلك الشبهات التي ينشرها أعداء الإسلام والتي في الأخير تشكّل تلك الصورة الذهنية غير الصحيحة عن الإسلام.
الغرب يستغلّ إمكاناته المادية الهائلة ويسخرها؛ لتشويه الإسلام رغم ما بأهله من ضعف وتفكك وهوان، إنهم يسخرون كبريات الصحف والقنوات الفضائية ومحطات الإذاعة وكبريات دور النشر ومدن صناعة الأفلام والسينما؛ ليبثوا الشبهات والأراجيف عن الإسلام والمسلمين والعقائد الإسلامية والفكر الإسلامي والتاريخ الإسلامي والواقع الإسلامي، ويتعمدون بحقد وإصرار الربط بين الإسلام والإرهاب، ويتعمدون أيضاً الربط بين الإسلام والتأخّر الثقافي والصناعي في بلاد المسلمين.
لهذا أرى أيضا أنه من الواجب علينا نحن المسلمين استخدام نفس الأساليب والطرق في الرد على تلك الشبهات والأكاذيب التي تشوه صورة الإسلام، وسوف أعرض في شكل نقاط مُختصرة لبعض المشاريع التي يمكن تنفيذها.
والواقع أن هناك أسباباً وبواعث كثيرة تدفع الإعلام الغربي، بمختلف مكوناته، إلى تشويه صورة الإسلام والمسلمين، لعلّ أبرزها ما يلي:
الجهل وسوء الفهم
تقوم مختلف مكونات الإعلام الغربي، المرئية والمسموعة والمكتوبة، بإمداد القرّاء والمشاهدين بالأفكار المغلوطة والصور الذهنية السلبية عن الإسلام والمسلمين، مما هو ناتج، في بعض الأحيان، عن جهل مطلق بحقائق الإسلام وتعاليمه، وسوء فهم كبير لقيمه وثقافته المتميزة. إن سوء فهم الغربيين للإسلام يرجع -أحياناً- إلى حرص المسلمين على تمسكهم بمبادئ الإسلام وأن تكون حاكمة لهم في جميع مناحي الحياة، وهذا ما يجعل الغربيين لا يفهمون الإسلام إلّا من خلال هذه المظاهر والمشاعر الدينية التي يرونها غير منسجمة مع قيم الغرب الحداثية. لذلك، فسوء الفهم يرجع أساساً إلى وجود ميل متواصل لافتراض أن المعايير والقيم الغربية هي المرجع الوحيد في أي تحليل أو حكم على الأشياء، وأن مثل هذه المقاربة تركز بشكل رئيسي على تحليل نقاط الاختلاف بين الإسلام والثقافة الغربية. ويلاحظ أن البحث عن نقاط الخلاف لا يهدف إلى فهم سلوك المسلمين، وإنما من أجل التأكيد على الاختلاف والتمايز، والتشديد- ضمناً- على تفوّق الثقافة الغربية. ويرى بعض الباحثين الغربيين المنصفين أنه من أجل إزالة سوء الفهم المتبادل لابد من الاعتراف البصير والمتسامح بمساحات الاختلاف بين الثقافتين الإسلامية والغربية، فليس أميناً ولا راغباً في بناء علاقات سوية وواقعية من يتجاهل الاختلاف بين الحضارتين أو ينكره. كما أن من أكبر أسباب الجهل وسوء الفهم لدى الغربيين بالإسلام أن كثيراً من الحقائق والتعاليم والقيم الإسلامية بقيت غير معروفة، خصوصاً تلك القيم والمثل المرتبطة بوسطية الإسلام وسماحته، ودعوته الخالدة إلى الحوار والتعايش، ونبذ العنف والتطرّف، وربما لو عرفها عموم الغربيين لكان لها أكبر الدور في تحسين صورة الإسلام وإزالة سوء الفهم الموجود اليوم.
الإرث الاستعماري
يمكن التأكيد على أن واقع الاستعمار الغربي للدول الإسلامية كان منبعاً أصيلاً لكثير من الصور الزائفة التي صنعها الغرب، وهي الصور النمطية التي عادت لتزكّي وتبرّر المخيلة الغربية نزعة الاستعمار والاستعلاء والرغبة المستمرة في الاحتواء، وذلك بصناعة صورة الآخر عن الإسلام وحضارته، تلك الصورة التي نمت مكوناتها لتبرّر للغرب نفي الآخر الإسلامي من جهة، ولتشحن الشعوب غير الإسلامية بالعداء للإسلام. يقول المؤرخ الفرنسي ذو الكتابات المنصفة عن الإسلام مارسيل بوازار MARCEL BOISARD: «إن كتابات المستشرقين- عدا بعض الاستثناءات النادرة- لم تسهمْ في تصحيح فهم الإسلام أو إعادة تدقيق الصورة التي كانت لدى الرأي العام الغربي إلى نصابها الصحيح، لأن الاستشراق كان في الأصل أحد الفروع العلمية المرتبطة بالعلوم الاستعمارية….» (2).
ينبغي ألا ننكر أن أفعال وسلوكيات بعض فئات المسلمين تغني -أحياناً- عن مساهمة الإعلام الغربي في تشويه صورة الإسلام، فتكون تلك التصرفات كافية لكي يحصل الخلط لدى الآخرين بين مبادئ الإسلام وتعاليمه وتصرفات بعض المسلمين التي يتبرأ منها الإسلام والتي تسهم في ترسيخ صور نمطية سلبية عن الإسلام والمسلمين في أذهان الغربيين.
وهكذا، فإن الإعلام الغربي يصرّ على الربط بين ظاهرة الأصولية الإسلامية، وحركة التدين بصفة عامة، مع الإصرار على التركيز على بعض السلبيات، مثل: الغلو والتشدّد والتطرّف وأحداث العنف، من جانب هذه الجماعات عند الربط بينها وبين الإسلام والمسلمين.
ويؤكد الباحث الفرنسي فرانسوا بورغا FRANCOIS BURGAT على أن الإعلام الغربي يبرز وجهاً سيئاً للإسلام من خلال تصرفات بعض المسلمين المتطرّفة، ولا يبرز الوجه الإيجابي، كما أنه يتم التركيز على العناصر والحركات غير المنضبطة، والتي لا تعبّر إطلاقاً عن مجمل الظاهرة الإسلامية، فعمليات خطف الرهائن والتفجير وأعمال العنف الناشئة عن سوء الفهم لحقيقة الإسلام في مبادئه وتعاليمه وقيمه، كلها تدفع الإعلام إلى استغلالها والتركيز عليها، ومن ثَمّ يتم الربط بينها وبين الإسلام (3). وعلى الرغم من اعتراف كثير من وسائل الإعلام الغربية بنتيجة الحكم على الإسلام من خلال تصرفات طائشة وسلوكيات عنيفة لبعض المنتسبين إلى الإسلام، فإن واقع صورة الإسلام والمسلمين في الإعلام الغربي يظهر تمادي جُلّ الوسائل الإعلامية الغربية في تبني أسلوب الخلط المتعمّد، علماً بأن الجميع يقرّ بأن ظاهرة التطرّف والغلو تمسّ جميع الديانات والحضارات وليس الإسلام فحسب.
هكذا إذن يتبيّن بوضوح أن ثمة أسباباً تكمن وراء التحامل الإعلامي الغربي ضد الإسلام والمسلمين، وهي الأسباب التي يمكن التأكيد على أن تبديدها ومواجهتها ليسا بالأمر الهين، خصوصاً أنها تبدو متجذرة في المخيلة الغربية التي أضحت لا تصدق إلّا ما هو سلبي تجاه الدين الوافد عليها. ويبقى مع ذلك واجب العمل على تصحيح الصورة قائماً لابد أن تقوم به كل جهة تستأنس من نفسها القدرة على تحسين صورة الإسلام والمسلمين.
______
*الدوحة للإبداع

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *