(ثقافات)
التغريبة الفلسطينية … في ثلاثة أعمال لـ “وليد سيف”!
زياد أحمد سلامة
مقدمة
عام 1976 أنهى وليد سيف دراسة الدكتوراة في علم الصوتيات واللسانيات بدرجة الدكتوراة من جامعة لندن، وفور عودته إلى عمان عُين مدرساً في قسم اللغة العربية في الجامعة الأردنية، وفي العام نفسه اتصل به المخرج القدير “صلاح أبو هنود” للعمل معه في مسلسله الجديد “الخنساء”، لم يكن “وليد سيف” قد جرَّب كتابة الدراما، وكان يعتبر نفسه شاعراً يسير نحو المواقع المتقدمة بين الشعراء الكبار، وكان قد صدر له ديوانان من الشعر، (قصائد في زمن الفتح: بيروت؛ دار الطليعة، 1969)و (وشم على ذراع خضرة: بيروت؛ دار العودة، 1971) ولكنه اقتنع أخيراً بالدخول في هذا العالم، وليُعْرَضَ المسلسلُ عام 1977 ملاقيًا نجاحاً كبيراً، ثم توالت أعماله الدرامية، فشاهدنا أعمالاً مضطردة النجاح؛ لفتت نظر قطاع واسع من الناس لأسباب منها:
اللغة الشاعرية العذبة المتميزة والتي لم يُعهد مثلها في الأعمال الدرامية لا سيما التاريخية، يقول “وليد سيف” بأنه قرر منذ اللحظة الأولى ألا يتنازل عن المستوى البلاغي الأدبي وفقا لمقتضيات الموقف الدرامي والعصر الذي تدور فيه الأحداث. وهو يرى أن التعريف القديم للبلاغة بأنها “موافقة الكلام لمقتضى الحال” صحيح ومفيد لمن يكتب النصوص التاريخية”.[1]
وحول اللغة فقد راعى “سيف” أن تكون لغة المسلسل مطابقة للغة العصر والشخصيات موضع الحديث، فعلى سبيل المثال كان “علي” في “التغريبة” يتحدث بعامية مماثلة لعامية بقية الفلاحين البسطاء بكل مفرداتها ومخارج حروفها، ولكن بعد أن التحق بالكلية العربية في القدس رأينا مفرداته قد تغيرت ودخلت إليها مفردات جديدة بحكم تطور لغته، فعندما زاره حسن في “الكلية” جرى بينهما الحوار التالي:
سأل عليٌ عن حال أخيه أحمد، فأجاب حسن:
ــ على حاله من يوم ما رجع من الجبال.. ما بحب يخالط حد
علق عليٌ مستفسراًــ : بعد تجربة طويلة مهمة في الجهاد في الجبال والوديان ومع المجاهدين، مش من السهل يعود يتأقلم مع ظروف الحياة المدنية العادية زي ما كان حاله…
ــ قاطعه حسن ساخراً: آه يا خوي، اطلع فيها بحكي الأساتذة والأفندية. يا خوي أنا فلاح.. على الصفوف اللي درسناها مع بعض هون”[2]
ربط أحداث الماضي بالواقع الذي نعيشه وكأن هذه المسلسلات تعالج قضايا نحياها الآن.
إضفاء صفة الإنسانية على الشخصيات كافة، فالشخصيات التي يريد التعاطف معها أو تقديمها أو التي تمثل قضية من قضايا الأمة كشخصية صلاح الدين الأيوبي مثلاً تظهر بشكلها الإنساني الطبيعي، فهي تصيب وتخطئ، وتحب وتكره، وتنتصر وتنهزم، ولها وجهة نظر واضحة؛ ولها هدف تسعى لتحقيقه، وهذه الشخصية تسير مع الشخصيات الأخرى التي تكمِّل شخصيتها ودورها في الأحداث، فالأحداث العظام لا يصنعها فرد واحد.
وكذلك الأعداء: هم بشرٌ ولهم وجهة نظر وهدف في حروبهم الصليبية مع المسلمين، ويحبون ويكرهون وينتصرون وينهزمون، ولهم فلسفتهم في الحياة، فكما أن شخصية صلاح الدين كان لها حضورها وعملها، كان للقائد الصليبي “رينو دي شاتيون” ـ مثلاً ـ الذي رأيناه قاسياً فظاً غليظ القلب يقتل بكل قسوة وسهولة، له فلسفته الشخصية وأسبابه الشخصية في المشاركة في تلك الحروب وفي القدوم من فرنسا للشرق، فقد رسم الدكتور “سيف” هذه الشخصية بواقعية كما هي، وأتصور لو أن فرنسياً مؤيداً لفكرة الحروب الصليبية شاهد هذا العمل فلا يملك إلا ان يُعجب بهذه الشخصية، فلم يصورها الدكتور “سيف” على أنها ساذجة أو بلهاء شريرة وحسب!!
أضف إلى ذلك أن كل مسلسل من مسلسلاته حمل قضية فكرية متميزة، فمسلسل الخنساء مثلاً تحدث عن قضايا الوجود والحياة بعد الموت، وحاجة الناس لعقيدة جديدة تنقذهم من واقع متأزم، وطَرَفَة بن العبد يتحدث عن علاقة الفرد بالجماعة / القبيلة، وعلاقة القبيلة بالفرد، وعروة بن الورد حمل مشروعاً يحقق العدالة الاجتماعية ويعالج مشكلة الفقر، و”ملحمة الحب والرحيل” تحدث عن العدل والظلم والحكم الاستبدادي… وهكذا إلى أن وصلنا إلى “التغريبة الفلسطينية” موضع الحديث، وليعقبها مسلسل عمر (2012) الذي تحدث عم مسيرة الإسلام منذ بزوغ الدعوة النبوية إلى وفاة عمر بن الخطاب.
كتب الدكتور “وليد” ستة عشر مسلسلاً، أخرج الأستاذ صلاح أبو هنود منها سبعة مسلسلات هي: “الخنساء” (1977)، “عروة بن الورد / أمير الصعاليك” (1978)، “شجرة الدر” (1979)،”جبل الصوان ” (1981)، طرفة بن العبد”(1982)، “الصعود إلى القمة” (1986)، “الدرب الطويل” (2000).
وأما الأستاذ حاتم علي فأخرج ستة مسلسلات هي: “صلاح الدين الأيوبي” (2001)، “صقر قريش” (2002)، “ربيع قرطبة” (2003)، “التغريبة الفلسطينية” (2004)،”ملوك الطوائف” (2005) وأخيراً “عمر” (2012).
وأخرج عددٌ من المخرجين مسلسلاتٍ أخرى هي:
“المعتمد بن عباد” إخراج عبد الوهاب الهندي (1982).
“بيوت في مكة” إخراج علاء الدين كوكش (1983).
“ملحمة الحب والرحيل” إخراج وفيق وجدي (1986).[3]
(1)
مشروع التغريبة:
قبل “التغريبة” عالج الدكتور وليد عدداً من القضايا الفكرية والأحداث التاريخية في الجاهلية وصدر الإسلام، ومرحلة الحروب الصليبية والمرحلة الأندلسية، وهنا سأله الكثير من المتابعين ومنهم طلابه في الجامعة الأردنية: وأين نصيب فلسطين من أعمالكم الدرامية؟ ولماذا لا تقدم عملاً يتحدث عن هذه القضية ويعرض مأساتها للناس ويُعرِّف الأجيال الجديدة بما عاناه الناس طيلة هذه الفترة؟
يقول سيف: “فكرة كتابة التغريبة الفلسطينية بدأت قديماً، فالقضية الفلسطينية حاضرة في وجداني ووعيي، كما أنها في المقابل تمثل مصدراً لا ينضب للمعالجات الدرامية الإنسانية، فإذا كان اليهود في العالم يعيدون كتابة المحرقة النازية في كل حين من خلال الأعمال الفنية بأشكالها المختلفة، فنحن أَولى بإعادة إنتاج القضية الفلسطينية من خلال عمل درامي يوثق ويؤرخ لنكبتها”.[4]
أمضى “سيف” وقتاً طويلاً في الاستماع إلى شهادات حية، كما اعتمد أيضاً على ذاكرته التي امتلأت بالأحداث والذكريات، خاصة وأن بيته الذي كان يقع في مدينة طولكرم كان ملاصقاً لمخيم اللاجئين الفلسطينيين، ويقول: لذلك كان يهمني أن أقدم المخيم الفلسطيني بصورة البطل الجمعي، كما كان هدفي التركيز على الجوانب الإنسانية في هذه القضية العادلة. فكانت كتابته نتاجاً لبحث طويل في المدونات والوثائق المكتوبة، كما كانت أيضاً استبطاناً للذاكرة ولشهادات وتجارب الناس الذين ارتبطت حياتهم بالمخيم”. وقال: كنتُ أفكر في إنجاز مثل هذا العمل ولكن شرعت في التحضير له وفي كتابته في الثمانينيات؛ وقد أنفقت فيه ثلاثة أعوام من عمري [بدأ كتابة المسلسل عام 1984وانتهى منه عام 1987] بحثاً ودراسة ومعالجة درامية؛ ثم الكتابة للنص التليفزيوني؛ وقال بأن البحث قد استغرق منه وقتاً طويلاً، لأن هذه القضية لا يمكن العبث بتفاصيلها وبحقائقها، وقال بأنه لم يعتمد فقط على المصادر والوثائق المكتوبة، بل الوثائق التي عايشت الأحداث في وقتها وكانت تسجلها على شكل حوليات أحياناً، وقال بأنه لم يكتف فقط بالصحافة العربية والفلسطينية في أطوار الأحداث التي نراها في المسلسل؛ بل قام بجمع جزء مهمٍ من المادة من الرواية المباشرة الشفوية من أناس حقيقيين عايشوا مراحل القضية وتفاعلوا معها وانفعلوا بها وكانوا مشاركين في أحداثها، وقال: “وبالتالي أستطيع القول إنه بالإضافة إلى الخلفية الموثقة على صعيد الوقائع التاريخية والسياسية والوطنية والاجتماعية والثقافية فإن القصة السردية نفسها أو الحكاية السردية نفسها تمثل سِيّراً حقيقية لأناس عايشتُهم أو تكلمتُ معهم على نحو آخر، أو اختزنتُ في ذاكرتي الكثير من قصصهم الحقيقية الواقعية؛ فإذا كانت المرحلة الأولى مرحلة البحث تلاها بعد ذلك مرحلة وضع الخطوط العامة للحكاية السردية للرواية نفسها ثم المعالجة الدرامية ثم كتابة السيناريو والحوار بالتقاط التفاصيل الدقيقة التي كنتُ شاهداً على جزء منها على الأقل وربما كان هذا هو السبب الذي جعل الكثير من الناس ممن شاهدوا هذا العمل ــ لاسيما الفلسطينيين أنفسهم ــ يقولون أو يكررون عبارات متقاربة في المعنى، لقد رأينا حياتنا وتجاربنا الشخصية فيه، وكلٌ منهم كان يسقط قصته الخاصة على ما يشاهد فيقول هذا أنا أو هذه هي البيئة التي مررنا بها، هذه الوقائع التي مررنا بها أو هذا خالي وهذا عمي وهذه جدتي إلى أخر ذلك بسبب الالتزام بهذه التفاصيل الواقعية.[5] وقال سيف بأن عمَّه الدكتور محمود إبراهيم (1924ـ 1999) كان له أثر كبير في استقائه لمعلومات كثيرة عن فلسطين قبل النكبة، وأنه كان مصدرًا من المصادر الهامة والغنية في المعلومات والانطباعات التي جمعها حول المراحل التي لم يشهدها من مراحل القضية الفلسطينية وحياة الريف وحياة القرية وغير ذلك.[6]
بقي المسلسل حبيس الأدراج إلى أن تم انتاج مسلسل “الدرب الطويل” عام 1998م، عندما أنتجته مؤسسة الخليج العربي للأعمال الفنية في دبي، وتم تصويره في الأردن. بينما أنتج مسلسل “التغريبة الفلسطينية” عام 2004 وأنتجته شركة سوريا الدولية للإنتاج الفني، وتم تصويره في صافيتا وتدمر وعمار الحسن وحلب. وبدأ عرضه في رمضان 1425هـ = 15/10/2004
(2)
مقولة التغريبة
تبدأ الأحداث عام 1933[7] حيث يستذكر المسلسلُ الأحداث التي شهدتها الساحة الفلسطينية ومن ضمنها الحديث عن ثورة 1936 وبداية استيلاء اليهود على فلسطين، ثم إخراج أهلها منها، كل ذلك من خلال ما يمر بعائلة “أحمد صالح الشيخ يونس” التي كانت تقيم في إحدى قرى فلسطين المحتلة عام 1948، لم يحدد المسلسل اسم تلك القرية ولا موقعها في فلسطين بالضبط، وإن كانت هناك إشارات تقربها من حيفا، وتغييب اسم هذه القرية وموقعها مقصود بذاته للدلالة على أن القصة هي قصة فلسطين بكاملها، وما عانته عائلة الشيخ يونس هو ما عانته كل أسرة فلسطينية، يستمر المسلسل بعرض معاناة الشعب الفلسطيني من خلال مسيرة العائلة بعد الشتات واللجوء إلى المخيمات التي انتشرت في عدة دول عربية، وينتهي المسلسل بعيد حرب 1967واحتلال باقي فلسطين: الضفة الغربية وقطاع غزة، بالإضافة إلى مرتفعات الجولان السورية وسيناء المصرية.
غطَّى المسلسل مسيرة ثلاثة أجيال من عائلة الشيخ يونس، عائلة الأب أبي أحمد صالح الشيخ يونس وزوجنه أم أحمد، وأبنائهما: أحمد ومسعود وعلي وحسن وخضرة وأبنائهم من الجيل الثالث، ويمكن تقسيم الفترة الزمنية في المسلسل إلى ثلاث مراحل، الأولى وتمتد من ثلاثينيات القرن العشرين إلى عام النكبة 1948، والمرحلة الثانية وتستمر إلى حرب 1967، والمرحلة الثالثة وتتحدث عمَّا جرى أعقاب تلك الحرب إلى عام 1968.
حاولت”التغريبة” رصد عملية التطور الاجتماعي والثقافي عبر مراحل مختلفة فالوعي في المراحل التالية أكثر تنورا وتطورا وشمولا منه في المراحل الأولى. وهذا واقع تاريخي لا يصح إطلاقا تحريفه، وهو لا يسيء إلى صورة شعبنا الفلسطيني بل على العكس من ذلك فإنه يجسد إنجازات هذا الشعب وما حققه على صعيد الثقافة والتعليم وتطور الوعي الوطني والاجتماعي على الرغم من حجم المعيقات الهائلة التي كان عليه أن يواجهها قبل عام 1948 وبعده في المخيمات والشتات. إنها سيرة متطورة نامية وليست مشهدا ساكنا متجاوزا لحركة التاريخ والمجتمع.[8]
كان أبرز ما ميّز هذا العمل، تصوير “وليد سيف” الصراعات الداخلية بين أفراد الشعب الفلسطيني نفسه، بين من يحارب باسم الثورة والمقاومة والنضال وبين من يتخذ من الثورة رداءً يحجب به خيانته. وسرد العديد من المشكلات الاجتماعية في تلك الفترة من الزمن-سيجرى ذكرها لاحقًا-بالتالي، يمكن أنّ نقول، أنّ وليد سيف صَدَقَ التوثيق ونقل الواقع بمنأى عن عمليات تحوير المعاني أثناء عملية الكتابة، حيث يتم تغييب بعض التفسيرات وتهميشها باستبعاد حضورها في النصّ. [9]
(3)
مسلسل الدرب الطويل
جاء في مقال في جريدة الدستور: لم يحظ مسلسل “الدرب الطويل” باهتمام كبير من صحافتنا والذي يستحق التلفزيون الأردني كل الاحترام نتيجة عرضه لهذا العمل وتوقيت ذلك مع [رمضان 1421هـ = 12/2000] وأيام الانتفاضة المباركة يستحق الانتباه والتقدير والاعتراف أن الدراما ليست ترفاً أو عبثاً أو إضاعة وقت بدون معنى، فقد كان العمل معبراً عن الوقائع الفلسطينية منذ العشرينات، وصوَّر الوضع السياسي والاجتماعي أدق تصوير، وقدَّم للمشاهد بطولات الشعب الفلسطيني وأمراضه الاجتماعية وصور التخلف؛ أي إنه مسلسل واقعي قدَّم الواقع بدون رتوش، واستعرض المجتمع الفلسطيني ولم يقدم الصورة المثالية فقط والتي كانت تضعف كل الأعمال الفنية التي تناولت القضية.
وقال كاتب المقال: لم يكتف أبو هنُّود ووليد سيف بتناول القضية الفلسطينية بطريقة عادية، ولم تكن قدسيِّةُ الموضوع تغني عن فنية العمل، وبالفعل فقد تجاوز المخرج والكاتب كل الأعمال السابقة واستحقا التحية والاحترام على هذا العمل الذي يعد تحولاً كبيراً في الدراما الأردنية، ومثالاً كبيراً على الفن الرفيع، ولا بد أن نعلن عن سعادتنا لهذا العمل الذي لم ينل الاهتمام من صحافتنا بشكل يليق بعمل كبير كهذا العمل المتميز. أم أن لعنة الدرب الطويل أصابت العمل وأصحابه فأصبح دربهم أيضاً طويلاً قبل أن ينالوا به التكريم اللازم””.[10]
جاء المسلسل في إحدى وثلاثين حلقة، ويتقاطع هذا المسلسل مع “التغريبة الفلسطينية” بشكل كبير؛ فهو النسخة الأولية للتغريبة، غير أن هناك بعض الاختلافات التي سنشير إليها في موضعها.
بعد هزيمة عام 1967 وانضمام “رشدي” للمقاومة، وأثناء قيامه بتدريب المقاتلين الجدد؛ سمعناه يقول:” إحنا مش أول ناس خطوا في هذا الدرب؛ ولا آخر ناس… درب طويل….” وأخذ يتأمل البلاد في مداها الواسع على مد البصر، وبعد ذلك رأينا تصاعد أعمال المقاومة. إنه إذا درب طويل علينا المشي فيه لبلوغ الهدف النهائي: تحرير فلسطين واستعادة الحقوق المسلوبة المنهوبة الضائعة… من هنا إذاً كانت تسمية المسلسل بـ “الدرب الطويل”.
في “الدرب الطويل” رأينا لقطات وثائقية لمواقف في القضية الفلسطينية مثل مشاهد إعلان الصهاينة قيام دولتهم عام 1948 وصوراً للجيش البريطاني يقوم باستعراض في شوارع فلسطين وصوراً للجنة الملكية البريطانية التي جاءت للتحقيق في القضية الفلسطينية عام 1937 وصدور قرار تقسيم فلسطين عام 1947، وصوراً للهجرة عام 1948 وعمليات القتل والطرد، وصوراً أخرى لتأميم مصر قناة السويس وعبد الناصر وهو يخطب في الجماهير معلناً قرارات تأميم القناة؛ وصوراً لعدوان 1956 وحرب 1967، ورأينا جسوراً مدمرة، دبابات محترقة، أسرى، قتلى… صوراً لرجال المقاومة وهم يتدربون على السلاح وغير ذلك….
سمعنا الممثلين يتحدثون باللهجات العامية الفلسطينية المختلفة، وبحكم كون أكثر الممثلين من أصول فلسطينية وأردنية كان إتقان هذه اللهجة جيداً وقريباً جداً من الواقع أكثر من التغريبة، ورأينا لغة الحوار على لسان غير العرب باللغة العربية الفصحى إن كان المتحدثون فيما بينهم أجانب (إنجليز أو يهود)، وإن تحدث هؤلاء مع عرب تكون اللهجة عربية متكسرة.
لعله العمل الوحيد في عالم الدراما الذي تُلقى فيه قصائد كاملة أو مقاطع طويلة، فما عهدناه في تلك الأعمال الاكتفاء ببعض الأبيات الشعرية، ولكن هنا كان للشعر مساحة كبيرة، واتكاء وليد سيف على الشعر ملاحظ منذ مسلسل الخنساء وما تبعه من مسلسلات. سمعنا في “الدرب الطويل” قصائد لوليد سيف؛ وإبراهيم طوقان ومحمود درويش وخالد أبو خالد، والأخير هو الذي كان يقرأ القصائد بصوته، وسمعنا قصائد للشاعر الشعبي نوح إبراهيم[11] مثل قصيدة: (دبرها يا مستر دل) وهو المسؤول العسكري الإنجليزي الذي أرسلته بريطانيا إلى فلسطين إبان ثورة 1936 لقمع الثورة، ثم قتله الثوار.
(4)
من الدرب الطويل إلى التغريبة الفلسطينية!
لماذا أعيد إنتاج “مسلسل الدرب الطويل” في نسخته الجديدة “التغريبة الفلسطينية”؟ سألتُ مخرج العمل الأستاذ صلاح أبو هنود (من خلال صفحة الفيس بوك يوم 28/2/2014) عن سبب إعادة انتاج مسلسل “الدرب الطويل” تحت عنوان “التغريبة الفلسطينية”، فأجابني: “العمل ـ الدرب الطويل ـ من أخراجي أصلاً وأنا أشرفتُ على نصه حين تم إنتاجه سنة 1998، لم يوزع؛ لا أدري لماذا، فقط بثه تلفزيون فلسطين وتلفزيون الأردن على المحطة الأرضية، فقام الدكتور وليد سيف ببيع النص إلى “سوريا الدولية” وأنتجوه باسم “التغريبة الفلسطينية” بعد خمس سنوات من عدم توزيعه من قبل الشركة المنتجة”.
وفي حديث للأستاذ أبي هنود مع الدكتور مهند مبيضين عن العلاقة بين “الدرب الطويل” و”التغريبة” قال مبيضين:” التغريبة الفلسطينية لها قصة، فأبو هنود يؤكد أن “وليد سيف بدأ بكتابتها العام 1984، بالتزامن مع إخراجه لمسلسل الصعود للقمة (وهو أيضاً من كتابة وليد سيف)، واستغرقت أكثر من سنتين، ثم تعثرت عملية إنتاجها، ولم أستطع أن أخرج العمل إلا في العام 1998، وأصر المنتج أن أصور داخل الأستوديو، وأن أخفف التصوير الخارجي، وأثناء عملية النسخ من أجل بثه تعرض العمل لعملية اغتيال في جانب الصوت، علماً أن التسجيل الأصلي كان صحيحاً مئة بالمئة، فأعدت المونتاج والميكساج، وتم بثه على محطة أرضية واحدة هي التلفزيون الأردني باسم الدرب الطويل، ثم قام الدكتور وليد سيف ببيع النص لشركةٍ سورية قامت بإنتاجه تحت مسمى “التغريبة الفلسطينية”.[12] وأجابني الدكتور وليد سيف عن سبب إعادة إنتاج المسلسل ثانية فقال: “الوقوف عند “الدرب الطويل” والحديث عن “التغريبة الفلسطينية” يغني عن ذلك، إذ ان “الدرب الطويل” كان محاولة إنتاجية متعثرة فنياً لتنفيذ النص، وهو ما اقتضى إعادة الإنتاج بعد أعوام في صورة “التغريبة”، ولكن الأصل النصي واحد مع بعض التعديلات في “التغريبة” اقتضتها المعالجة الفنية التنفيذية الجديدة واختصار عدد الحلقات”.[13]
قالت الفنانة سميرة خوري التي قامت بدور “أم أحمد” في الدرب الطويل” عن سبب محدودية انتشار هذا المسلسل: “الدرب الطويل «للمخرج صلاح أبو هنود كان الإنتاج فيه محدوداً ومعظم التصوير تم داخل الاستوديو مما أفقده المصداقية كما أنه لم يُعرض بشكل مناسب فلم يلق الرّواج اللازم بعكس ” التغريبة” ذات الإنتاج الكبير والإمكانات الهائلة.[14]
(5)
التغريبة الفلسطينية:
يقدم وليد سيف عمله هذا بقوله: “التغريبة الفلسطينية” عمل درامي في المقام الأول وليس عملا وثائقياً تسجيلياً، وإن كانت وقائع العمل وشخصياته تتحرك على خلفية تاريخية اجتماعية سياسية ثقافية موثقة بدقة. إنها قصة أسرة فلسطينية تكافح من أجل الحياة والبقاء، شأنها في ذلك شأن أي أسرة أخرى تواجه ظروف الواقع ومعيقاته ومحدداته”.[15]
لمّا لم يحقق مسلسل “الدرب الطويل” الانتشار المطلوب والذي كان مؤملاً لإيصال رسالة المسلسل لأكبر قطاع من الناس، كان الأمر يحتاج حلاً لهذه المشكلة، فدفع الدكتور وليد سيف إلى “شركة سوريا الدولية للإنتاج الفني” لإنتاجه ثانية، حقق المسلسل نسب مشاهدات عالية، وقد أعادت محطات كثيرة بثه، وليشكل علامة بارزة على صعيد السيناريو والإخراج والإنتاج،[16]
نال المسلسل جوائز عديدة من سوريا والأردن ومصر والبحرين، ولِيُعتبر مع مسلسل “ملوك الطوائف” ضمن القائمة الذهبية لأفضل مئة مسلسل عربي. كما حاز المسلسل على عددٍ من جوائز مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون، إذ تقاسم جائزة مهرجان القاهرة الذهبية مع مسلسل “الطارق” وفاز الدكتور وليد سيف للمرة الخامسة كأحسن كاتب سيناريو وفازت الممثلة الاردنية “جولييت عواد” والتي جسدت دور “أم أحمد” في المسلسل بجائزة أحسن ممثلة؛ وفاز الممثل جمال سليمان بجائزة أحسن ممثل عن تجسيده لشخصية “أبو صالح “.[17]
(6)
المؤتلف والمختلف بين هذه الأعمال.
رغم أن “الدرب” و “التغريبة” هما في الأصل عمل واحد، متطابق إلى حد كبير، إلا أن هناك فروقات يسيرة بينهما في الحوار وبعض المشاهد وفي النهاية، وبرزت هذه الاختلافات بين الحلقات الثلاث الأخيرة من المسلسلين على وجه التحديد؛ ففيها بعض الاختلاف في التفاصيل وسير الأحداث، يقول شفيق طه النوباني في مقال له بعنوان “الرؤية الفكرية في مسلسل التغريبة الفلسطينية”: وبالرغم من التشابه الذي جاء بين المسلسلين سواء كان ذلك من ناحية الشخصيات أو من ناحية المشاهد التي يمكن للمشاهد المتابع لكليهما أن يستدعي من خلال مشهد في أحدهما مشهدًا في المسلسل الآخر، إلا أن الرؤية الفكرية في أحدهما مختلفة عن الآخر، ولعلها جاءت في “التغريبة الفلسطينية” متطورة عنها في “الدرب الطويل”. [18]فهل الأمر كذلك؟
من أهم الفروقات بين المسلسلين أن الشخص القادم من إحدى الدول المحيطة بفلسطين للمشاركة في الثورة الفلسطينية عام 1936 كان في الدرب الطويل “حمد العربيات” وقد جاء من السلط في شرقي الأردن،[19] بينما كان في التغريبة “عاصي” الذي جاء من “حماة” في سوريا، وكان “حمد” يحب “وطفة” ويريد الزواج منها، بينما كان “عاصي” يحب “حياة” ويريد أيضاً الزواج منها، وأحضر “حمد” معه ربابة لتسليه في الطريق وفي أوقات الفراغ، بينما أحضر “عاصي” معه ناياً؛ وسنرى “حمد” قد عاد في الرواية، بينما غاب “عاصي”.
كان الإبقاء على شخصية “حمد العربيات” مع “عاصي” سيثري فكرة اشتراك غير الفلسطينيين في الجهاد ضد الصهاينة، هذه المشاركة التي رأينا جانباً منها في مشهد ضم مقاتلين قادمين من سوريا والعراق وشرق الأردن[20]، وفي المسلسل رأينا عربا غير فلسطينيين شاركوا في الجهاد على رأسهم الشيخ “عز الدين القسام” رحمه الله، وفوزي القاوقجي على رأس جيش الإنقاذ الذي أرسلته الجامعة العربية (ولم يحقق شيئاً).
نهاية مسلسل “الدرب الطويل” تختلف قليلاً عن نهاية “التغريبة الفلسطينية”، هنا ـ في الدرب الطويل ـ فبعد أن زار رشدي أمَّه خضرةَ وزوجَها؛ بعد أن اصطحبه (محمد عبد الله) ذلك الرجل القادم من قرية (الطيبة) من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 ليزور والدته في بلدة (أم الفحم) حيث تقيم، نرى أن خضرة تلتقي بأهلها وتزورهم في المخيم بعد حرب 1967.
نرى رشدي بعد حرب 1967 قد تخلى عن عمله في (السعودية) وقرر البقاء في الضفة الغربية والانضمام إلى المقاومة الفلسطينية، بل ويقوم بتدريب الشباب أمثاله على السلاح بمن فيهم ابن فلسطين المحتلة عام 1948 والذي قاده في رحلة لقائه بأمه، وفي هذا إشارة على مشاركة من أصبح يُطلق عليهم (عرب 48) في المقاومة، أو على الأقل وجوب انضمامهم للمقاومة.
في نهاية مسلسل “التغريبة” رأينا رشدي يذهب إلى المكان الذي أخفى فيه بندقية أبيه ويستخرجها؛ في إشارة إلى استمرارية الكفاح المسلح وأنه الطريق لتحرير فلسطين.
رأينا رشدي في “الدرب الطويل” يستخدم بندقية أبيه في تدريب المقاومين بُعيد الحرب مباشرة، وهنا إشارة إلى استمرار المقاومة فور احتلال بقية البلاد، وهنا رأينا تصاعد أعمال المقاومة في الأراضي المحتلة وتناميها، وفي إشارة أخرى إلى أن هذه الثورة الوليدة هي امتداد للثورات السابقة، سمعنا ثناءً من أبي صالح على ما يقوم به رشدي من مقاومة الاحتلال وأنه فخور به، ولا ينسى أبو صالح أن يحذر ابن أخته من العملاء.
أثناء تدريب المقاومين الجدد يركز رشدي على مفهوم “المقاومة الشعبية” ودور الجماهير في معركة التحرير مع التأكيد على البعد العربي للقضية الفلسطينية.
في “الدرب الطويل” رأينا أبا صالح يصطحب عائلته (لا سيما أبناء الجيل الثالث عائشة وأخوتها الصغار) لزيارة قريتهم التي كانوا فيها قبل الهجرة وقد دمرها اليهود، وهنا يقوم أبو صالح وأمه (أم أحمد) بتوضيح معالم القرية من بيوت وقبور وطرقات وأشجار للأبناء الصغار ليربط الجيل الجديد بماضيه وجذوره، ولم ينس أبو صالح أن يزور قبر “حمد العربيات” الذي استشهد في نهايات ثورة 1936ـ 1939.[21]
في الحلقة السابعة عشرة في المسلسلين مشاهد التهجير، وكانت المشاهد في المسلسلين شديدة الواقعية والتأثير، فالناس يتراكضون وسط الغبار المنبعث من القذائف، وإطلاق النار الشديد المثير للفزع وسقوط القتلى والجرحى بما في ذلك قتل الأطفال الرُّضع، وينفرد “الدرب الطويل” بتداخل لقطات وثائقية حقيقية مع المشاهد التمثيلية، ورأينا بعض المشاهد التمثيلية قد لُوِّنت باللون البُنِّي المحاكي للون التراب لمطابقة التمثيل للصور الوثائقية، مشاهد الثوار وهم في الخنادق وسط الغبار المثار مع تبادل لإطلاق النار الكثيف نقلنا إلى داخل المعركة.
الصور الوثائقية أعطت صورة عن مستوى الأسلحة بين العرب والصهاينة، فالصهاينة يملكون أسلحة أكثر حداثة من الثوار، إذ رأينا مع الأعداء طائرات ومدافع، أسلحة الثوار تبدو عديمة الجدوى، فهي تحتاج لسحب الزناد عند إطلاق كل طلقة بينما عند الآخرين أسلحة رشاشة.
المشاهد الوثائقية ممزوجة بالمشاهد التمثيلية لاحتفالات اليهود بـ (النصر) في مقابل صور وأشلاء القتلى الفلسطينيين وتهجيرهم نقلنا لأجواء الحرب وأدخلنا في المعاناة الحقيقية للناس آنذاك.
هنا ـ في الدرب الطويل ـ يتم اعتقال رشدي من قبل الصهاينة، ومصادرة بندقية والده، وحتى يعترف عن كل ما يعرف عن المقاومة ورجالها وخططها وتسليحها وتمويلها وغير ذلك يتعرض لتعذيب قاس شديد، ويتم الحكم عليه بالسجن المؤبد، ولكنه بقي ثابتاً على خطه، وشاركته وساندته في هذا الثبات خطيبته (عائشة ابنة خاله أبي صالح) التي أصرت أن تبقى خطيبة له وأن لا تنفصل عنه بسبب هذا الحكم القاسي، ويقوم الصهاينة بإحضار أمه “خضرة” لتقوم بالضغط عليه لينهار ويعترف بمن يقف وراءه ومن معه من الثوار، ولكنها تشد من عزمه.[22]
في الدرب الطويل…التغيير الكبير يطرأ على كل من “صلاح” و”عطية” فصلاح الذي كان يتحرق ألماً لما صارت إليه أحوال المخيم واللاجئين، والذي أصيب بإحباط شديد وخيبة أمل نتيجة للهزيمة المرة عام 1967 رأيناه وبعد أن أصبح طبيباً يشعر ببعض الترفع والتكبر على الناس وأحوالهم، وصار يفكر في مغادرة الضفة الغربية والهجرة للعمل في الخارج، رأيناه يغير موقفه هذا ـ بعدما كابد مع الناس من مضايقات الصهاينة ـ ويُصِّر على البقاء في الضفة الغربية ويفتح عيادته في المخيم لعلاج المحتاجين فيه، ورأينا في المقابل “عطية” الذي كان غير منضبط وكثير المشاكل ويسطو على بيوت الناس ويسرق ما يمكنه سرقته، رأيناه هنا وقد تحول إلى ثائر يعمل في صفوف المقاومة، ورأيناه يحتفظ بقصيدة “صلاح” التي كتبها له فيما مضى وعنوانها “عطية ينظر غضباً”، لقد تأثر عطية بهذه القصيدة وفهمها فهماً عميقاً، فبدل أن يكون ثائراً على الأوضاع الاجتماعية والفقر والجهل وواقعه البائس وحسب، صار ثائراً على الاحتلال مقاوماً حتى تم اعتقاله، العثور على هذه القصيدة في جيب عطية؛ جعل اليهودُ يعتبرون صلاحاً “الموجه السياسي” لعطية، فتم اعتقاله والتحقيق معه لمعرفة صلته بعطية ـ أي بالمقاومة ـ ولكن استشهاد عطية وخروج جموع الناس من أبناء المخيم في جنازته بين أصوات الزغاريد؛ جعله يعيد مراجعة نفسه والتصالح معها؛ فقرر البقاء في الضفة الغربية ليفتتح عيادة في المخيم، خصص جزءاً من وقته فيها لمعالجة الفقراء.[23]
في رأيي لقد تجلت عبقرية “صلاح أبو هنود” الإخراجية في هذا المسلسل رغم معيقات الانتاج التي حالت دون إبراز موهبته على حقيقتها. واما إبداع حاتم علي فغني عن الكلام.
بالعودة إلى سؤال الفرق بين رؤية المسلسلين إن كانت متطابقة أم مختلفة؟ أرى أن العملين تجمعهما رؤية واحدة رغم هذه الاختلافات اليسيرة، المهم في الأمر القول باستمرار المقاومة والصمود والتحدي.
(7)
الرواية
يقول “وليد سيف”: “وإذا كان الشائع هو تحويل الرواية إلى عمل سينمائي أو تلفازي، فلعلي من أوائل من عكسوا الاتجاه، فعملت -وما أزال أعمل- على تحويل أعمالي الدرامية إلى روايات مقروءة. فصدرت لي رواية «مواعيد قرطبة» المبنية على مسلسل «ربيع قرطبة»، على وفق شروط الشكل الروائي”[24] (ثم صدرت له روايات: النار والعنقاء في جزئين، الأول بعنوان (الرايات السود)، والجزء الثاني بعنوان (صقر قريش) وصدرت عام 2021 وهي مأخوذة عن مسلسل صقر قريش، ورواية “الشاعر والملك” وصدرت عام 2022 ومأخوذة عن مسلسل “طرفة بن العبد” وصدرت عام 2022.
كان آخر هذه العمال المعاد كتابتها روائياً رواية “التغريبة الفلسطينية” وقد جاءت في جزئين، حمل الجزءُ الأول عنوان (أيام البلاد)، وحمل الجزء الثاني عنوان (حكايا المخيم)، وتقع الرواية بجزئيها في نحو ألف صفحة، وبطبيعة الحال أعاد الدكتور وليد سيف صياغة عمله الدرامي هذا ليوافق الصيغة الفنية للعمل الروائي، فقال: ومما شجعني على النهوض بهذا المشروع أنّ أعمالي الدرامية كُتبت بالأصل بلغة أدبية، فيصح أن توصف بالأدب الدرامي المصور، وقد أُعد فيها عددٌ من أبحاث الماجستير والدكتوراه والأبحاث الأكاديمية الأخرى، في بلدان مختلفة من الوطن العربي. ولم يكن في الوسع توفير النصوص الأصلية لأولئك الباحثين لأسباب عملية، ما اضطرهم إلى الاجتهاد في تفريغ الكثير من المشاهد وتدوين الحوارات والمواقف. وهو أمر مجهد. فرأيت أنّ من المناسب تحويلها إلى روايات مطبوعة لتكون في أيدي القراء والباحثين عبر الزمن. وكما أنّ الصناعة الدرامية السينمائية والتلفزيونية الراقية تضيف إلى العمل بأدواتها البصرية المؤثرة، فإنّ الشكل الروائي يتيح، من خلال شروطه ومقتضياته، للكاتب والقارئ، من العناصر السردية والوصف الخارجي والداخلي والتأملات النفسية والفلسفية، ما لا تقيده محددات الصناعة السينمائية والتلفازية، وما يمتد على وسع خيال الكاتب”[25]
عند قراءة رواية “التغريبة” لا بد أن يبذل القارئ جهداً كبيراً في عدم استحضار أي من “المسلسلين” ليكون وجهاً لوجه مع هذا العمل، وليُعملَ القارئُ خياله هو في تصور الأحداث لا كما جاءت في المسلسل بالصوت والصورة وانفعالات الممثلين وتوجيهات المخرجين.
(8)
بين الدراما والسرد… ما فارق الرواية عن المسلسل؟
تقول الكاتبة “إيمان بديوي”: “ما يميز “التغريبة الفلسطينية” في الرواية عن “التغريبة الفلسطينية” في السيناريو، هو قدرة الكاتب على وَصَفَ مجريات الأحداث الاجتماعية والسياسية بكامل تفاصيلها وحيثياتها، دون اختصارِ أيٍ منها، كما يحدث عادةً في المعالجة الدرامية لمقتضيات التصوير والإخراج. والشاهد في هذا، قول وَليد سَيْف في كتاب سيرته (الشاهد المشهود، ص 476)، عن مرحلة كتابته لنصّ السيناريو، أنّ “الذاكرة ممتلئة بالمشاهد والتجارب والأخبار والقصص، وكلها تتدافع للحضور في نص لا يمكن أن يتسع لها جميعاً.. والانتقاء من كثير متزاحم أعسر من التوسّع بالقليل”. لكن، مما لا شك فيه، أنّ الرواية والمسلسل عَمَلان يرفد كلّ منهما الآخر في محاولة خلق توازن معرفي للقارئ والمتلقي، ولتكاملهما الدورَ في تمكين الأفراد على التحليل والتفسير، من خلال اتساع دائرة الوعي والإدراك.
وأضافت الكاتبة: إنّ وظيفة القارئ هي أن يتعامل مع هذا الإبداع الأدبي في حركته الاجتماعية، فالرواية تقدم المجتمع كحقل معرفي، يُمكّنه من فهم الظواهر الاجتماعية بصورة شمولية وأكثر عمقا،
وعليه هو أنّ يغوص في تحليل وتفسير سلوكيات الفاعلين في الأحداث الاجتماعية من داخلها، واستنتاج كافة المعاني المحتملة لها ضمن السياق الواقعة فيه (سياق الممارسة). وهذه الأخيرة، هي إحدى فوارق الرواية عن المسلسل، فهي تفرد للكاتب مجالًا أفضل لنقل الأحداث وإيصال المعنى؛ لأنّ فرصة الشخوص للتعبير أكبر، فيرى د. وَليد سَيْف “أن العقل الروائي يفرد مساحات واسعة لعوالم الشخصيات الداخلية وكيفية تلقيها لما هو حولها”.
على صعيدٍ آخر، يحمل النصّ معنى متعدد أوجه التأويل، كما لا يكتفي بمعنى واحد وإنّما يفرز العديد من مستويات المعاني والتفسيرات، وعلى القارئ أن يعتمد على ذاته في التأويل واستنباط المعاني وقراءة الحدث التاريخي. التأويل الذي يُقصد فيه فحص واستخلاص جميع المعاني الكامنة في النص، إذ ينتهي دور الكاتب عند دار النشر بعد أنّ يصدر كتابه، لتبقى محاولة فهم القضية الفلسطينيّة مهمة القارئ الواعي. وهذا ما أكدّ عليه وَليد سَيْف مؤخرًا بقوله: “أريد أن أوجه القارئ لكيفية قراءة الرواية، فيجب أن يقرأها على عاتقه، ويتصورها كما تتفتت في وعيه.”[26]
وتضيف الكاتبة إيمان بديوي” “تمثل الرواية .. مواقف وأفعالاً اجتماعية وتاريخية. إنها تجمع وصف الحياة النفسية “الداخلية” للفرد ليس فقط بتصور الأوساط الاجتماعية بل أيضاً بتحليلات “اجتماعية” لهذه الأوساط”، يتجلى هذا في وصف الكاتب للظروف الاجتماعية التي أحاطت بشخصيات الرواية؛ كرصده لقضايا اللاجئين من خلال سرد معاناتهم وأحوالهم الاجتماعية، والوصمة الاجتماعية التي لحقت بهم جرّاء وقائع المخيم، المخيم الذي يراه د. وليد سيف “عنوان المأساة الفلسطينية، وحاضنة الكفاح والمقاومة”. أضف إلى ما سبق، بُعدًا آخر، وهو تجليات الهوية في النصّ. إذ أنّ الحديث عن المكونات الثقافية والاجتماعية للمجتمع يعتبر جزءًا مهماً في عملية بناء الهوية، في أبعادها الاجتماعية والسياسية والقومية والإنسانية، حيث يمكننا اعتبار رواية “التغريبة الفلسطينية” أداة مقاومة في وجه سلطة تزييف الحقائق وطمس الهويات وخطط التطبيع وصفقاته، وما يقوم به الاحتلال من عمليات اغتيال للذاكرة وسلب حق العودة وانتقاص قصص الكفاح والثبات.[27]
في الرواية نقرأ “مذكرات” علي الشيخ يونس وما فيها من انفعالات وحديث نفس وهواجس وأمنيات، بينما في العمل الدرامي حيث كان الراوي “علي” يصف ذلك وصفاً وكأنه يمهد للأحداث أو يعقب عليها.
في الرواية قرأنا شعراً بالفصحى ومقاطع بالعامية، للشاعر وليد سيف ولغيره من الشعراء، منها أشعار قيلت في “الدرب الطويل” والقليل منها في مسلسل “التغريبة”.
وفي الرواية مقاطع من شعر “وليد سيف” لم تنشر سابقاً، وقد نوه الدكتور وليد في نهاية الجزء الثاني من الرواية أن “الشعر الوارد في سياقات السرد على لسان شخصية صلاح من شعر المؤلف”[28] ومن هذه المقاطع:
أحلم بالنهار
بوردة تفتحت على فم الصغار
بنجمة تدْرُج في شوارع الطفولة
بفلة تلوح في جديلة
أحلم بالقمر
يحبو على سطوحنا وينثر الغناء
ويزرع الأحلام والنعناع والصفاء….إلخ القصيدة[29]
وكذلك مقطوعة:
“هو الحب لولاه ما كانت القبرات تغني على شجر الذاكرة
وما كانت السحب المثقلات التي تكسر الهاجرة
وذي النُّجُمُ التي فاجأني العشق لمَّا تزل ساهرة
وهذي البحار التي حيرتني زمانا
فلما وضعتُ مراسيَّ خَلَّفْتُها حائرة
وهذي الظباء التي اشتملت بردائي
وهذي الجِمالُ التي لا تَشُدُ بغير حدائي
وهذي الزهور التي طلعت من شقوق الفضاء
وهذي الجبال التي أسندت رأسها في تخوم السماء”[30]
وبالمناسبة، فإن ما جاء في الحلقة السابعة والعشرين من التغريبة من مراسلات وخطابات بين “صالح” و “نادية” شقيقة صديقه “ماهر” وهو ضرب من “الشعر المنثور” ليس مطابقاً حرفياً لما جاء في التغريبة، وفي المسلسل حوارات أطول من الرواية.
أضف إلى ذلك قصيدة “عطية ينظر غضباً” التي قالها “صالح” في “عطية” وفيها يقول:
“انظر في غضب
أطلق ساعدك من الصخر ودق به الأسوار
أسرج صهوات الريح
تقحم مملكة الشمس وأشعل كفك قبضة نار
ازأر، أطلق من حلقك لغة الرعد…
والق إلى الرمل المزمار
خذ جُنْحَ الصقر، تعلم لغة الإعصار
ارفع رأسك في غضب واجعل قامتك الأشجار
اخْرُجْ من ظل الخوف، افتح شباكك …
واصرخ في وجه العالم: لي خلف الشباك نهار
لي في كل بلاد الدنيا فرسٌ وعروسٌ وقطارْ
أنا آتٍ من كل جهات الأرض
وأنا ألبس جلد الريح وطين الأرض
وأنا آتٍ حجراً مشتعلاً
شجراً ملتهباً لا تطفئه الأمطار
فتأهب يا عالمُ إني قدرٌ، ليس تضل الأقدار”.[31]
فهذه القصيدة قالها “وليد سيف” خصيصاً لعمله الدرامي ولم تُنشر من قبل.
وفي الرواية مقاطع من قصيدة “الحب ثانية” التي نشرها الدكتور وليد سيف في ملحق جريدة الدستور الثقافي يوم 23/10/1992، وهذا يعني أنه قد أضاف هذا المقطع بعد انتهائه من كتابة “العمل” ببضع سنوات، وفيها يقول:
” من أين يأتي كل هذا البحْر، هذا الجَمْر…
هذا الورد، هذا الشهد، هذا الوجد، هذا الرعد..
من أين العصافير التي تحتل حنجرتي، ومن أين الغيوم؟
من أين موسيقى السنابل، لسعة “القٌرَّاصِ”.[32]
أصداء النورس، دفقة الشعر العصي
من أين مزمار الرعاة يعيدني مني إليّ؟
من أين يخطف لونه هذا المساء؟
والأرض تصعد كي تقبِّلها على ألق سماءُ؟[33]
في الرواية يعمل صالح بعد تركه المدرسة في صالون حلاقة،[34] بينما في العمل الدرامي يعمل خطاطا في محل له.
في الرواية قام الكاتب بتكثيف المشاهد في حين كنا نراها في العمل الدرامي قد استغرقت بضع الوقت، أو جاءت في مشاهد متعددة، منها وصف “علي” للمخيم، فقال: أطفال شبه عراة يتراكضون ويتصايحون بين الخيام، وقد علا وجوههم قدر الفقر والأوساخ، مع قلة الاستحمام، فالماء عزيز، ومسيلات الماء القذر تحاصر المشاة، وطوابير طويلة تقف أمام المراحيض القليلة العامة التي حُفِرَت هنا وهناك، ورفعت جدرانها من الصفيح، وكلٌّ ينتظر دوره وقد حمل بيده إبريقاً أو كيلة ماء، وأكوام القمامة تتراكم هنا وهناك”[35]
جاء في الدرب الطويل والرواية في حوار “علي” مع زوجته عندما زارا أهله في المخيم قول “علي”: يعني شو كنت متوقعة؟ يناقشوكِ في نظرية الجشتلت في علم النفس[36] بينما يقول لها في التغريبة “شو بتتوقعي يحكوا معك؟ النظرية النسبية!![37]
استخدم الدكتور “سيف” اللهجة العامية الفلسطينية في العملين: الروائي والدرامي، في العمل الدرامي كانت طريقة لفظ الممثلين للكلمات الخاصة بهذه اللهجة يساعد البعيدين عن هذه اللهجة على فهمها والتفاعل معها، بينما في العمل الروائي سيجد بعض المشقة في لفظ الكثير من هذه الألفاظ وفي تفهم معناها. ومن هذه الكلمات ” كردوش، والتي تُلفظ “تشردوش”، فحرف “الكاف” عند الفلاحيين يُلفظ مثل حرف (ch) الإنجليزية، وهو يعني صنف من الخبز مصنوع من الذرة أو الشعير.
كلمة: زلام والزلومية: وتعني الرحل والرجولة.
عمارة الزيتون: مجموعة من أشجار الزيتون.
الحمولة: مجموعة من الناس تشكل فرعاً من العشيرة.
يا وَرَدي: يا ويلي (صرخة يطلقها بعض الناس في أرياف بلادنا عندما يتلقون نبأ فاجعة ما)[38]
هسَّع: الآن
قديش: كم (كم من الوقت مثلاً)
بتحلس وبتملس: تتحسس
جرايره: أعماله السيئة التي تجر للمشاكل
صُرِّة الخبز: قطعة قماش مربوطة وبداخله عدد من أرغفة الخبز.
لوماي: لولا أنني
المقثاة: حقل زراعة القثَّائيات كالخيار والفقوس والكوسا والباذنجان.
خِرْقَة: قطعة قماش تغطي بها المرأة رأسها، وقد تُسمى في بعض القرى: شاش أو شاشية، أو غُترة، أو منديل.
لع: لا، لأ
عزا… شايفين يا بنات؟ عزا كلمة للتعبير عن التحسر والدهشة، وهي اختصار لكلمة “عزاء”.
قرطت منها حتى استويت: أكلت منها كثيرا
قَصَّة البيت: عتبة البيت وتكون مرتفعة عن ساحة البيت قليلا
الخراريف: الحكايات الخيالية
بطاقة (كرت) المؤن: بطاقات صرفتها وكالة الغوث الدولية لإعطاء اللاجئين مقداراً شهرياً من المعونات.
اقضب على الكرت: تمسك به جيداً
ريحة البرتكان تفحفح: رائحة البرتقال نفاذة ومنعشة
يا مِن درا: يا تُرى
يخبط في الوحل: يدوس ويضع رجله في الطين
تروِّد له: الأم تغني للطفل كي ينام
عيون شُقُل: عيون تعاني من الحَوَل
المُعنى وزريف الطول والميجنا وجفرا والعتابا والمهاهاة: أنواع من الغناء الشعبي
-
هناك في الرواية عدد من الأخطاء الطباعية، يجب الانتباه لها في الطبعات التالية، ويقابلها في المسلسلات المكتوبة باللغة العربية الفصحى الأخطاء اللغوية التي يقع فيها الممثلون لقلة معرفتهم باللغة العربية الفصحى، وبداهة ان المؤلف غير مسؤول عنها في الرواية والمسلسلات، فهي من مهمة مراقب اللغة والشخص الذي قام بتدقيق الطباعة.