(ثقافات)
عزيز نيسين: بين ناظم حكمت وأتاتورك
ترجمة وتقديم: أحمد زكريا
أسباب كثيرة تدفعنا إلى استدعاء الشاعر التركي ناظم حكمت (1902 – 1963)، الذي يُصادف اليوم، الخامس عشر من كانون الثاني/ يناير، ذكرى ميلاده. فإلى جانب كونه أحد أبرز ممثلي الشعر التركي الحديث، فقد عبَّر أيضاً بأشعاره عن قضايا وطموح الطبقات الكادحة في تركيا والعالم.
ومن المعروف عن حكمت تضامنه مع القضية العربية في أوج صراع العرب مع الغرب، إذ كتب قصيدة عن مدينة بورسعيد أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. إلا أن هناك جانباً آخر يستحقّ تسليط الضوء عليه في حياة ناظم حكمت، يتعلُّق بشخصيته، وعلاقته مع مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية، مع حلول الذكرى المئوية لتأسيسها.
كتبَ كثير من الكُتَّاب والنقّاد الأتراك حول إعجاب وحماسة ناظم حكمت لتجربة أتاتورك في أول الأمر، ولكن سرعان ما تغيَّر رأي الشاعر اليساري بعدما اتَّضحت توجهات أتاتورك الغربية. توتَّرت العلاقة بينهما، وتعرَّض حكمت للسجن، لأكثر من مرة، في حياة أتاتورك. ومن أفضل النصوص، في رأينا، المُعبِّرة عن هذه العلاقة الشائكة والمتوترة بين ناظم وأتاتورك، هي المقالة التي كتبها الكاتب التركي المعروف عزيز نيسين حول ناظم حكمت، بعنوان “إنسان في الأبيض والأسود والأحمر”. والنصُّ أدناه هو ترجمة لهذه المقالة عن التركية. (أ. ز)
كانت أيام اجتماعات مؤتمر اللغة التركية في قصر دولمه بهتشه، وأراد أتاتورك أن يدعم كلُّ الشعراء والكُتَّاب قضيةَ التغييرات اللغوية. ولأجل هذا، كان يدعو الكُتَّاب والمثقفين في مناسبات عديدة. كانت اجتماعات المؤتمر تنتهي في النهار، ويجتمعون في القصر مساءً لتناول الطعام والشراب.
ذات مساء، سأل أتاتورك فجأة: لماذا لم يحضر ناظم حكمت بين هؤلاء، وطلب أن يأتوا بناظم إلى مائدته. تحرَّك المنظِّمون من أجل إحضار حكمت. كانت الاتصالات تُجرى والأوامر تُلقى.
في هذه السنوات، كانت هناك مطربة شهيرة تدعى دينيز كِيزي إفتاليا، والإعلانات الخاصة بها في كلِّ مكان. وفي منتصف الليل، دقَّ رجال الشرطة باب بيت ناظم حكمت في أران كوي بشارع أدهم أفندي. نهض ناظم من سريره، وفتح الباب بالبيجامة، فوجد رجال الشرطة يخبرونه بأن أتاتورك ينتظره على مائدته في قصر دولمه بهتشه. قال ناظم:
– لو جئتم لاعتقالي فسوف أرتدي ثيابي وآتي معكم.
قالوا إنهم لم يأتوا لاعتقاله، وإنهم سوف يأخذونه فقط إلى مائدة أتاتورك. فقال ناظم حكمت:
– أبلغوا تحياتي واحترامي لأتاتورك، ولكن في مثل هذه الساعة ينبغي دعوة دينيز كيزي إفتاليا، ولستُ أنا.
هذه واقعة حقيقية، حكاها بنفس الطريقة نجم الدين صَدَاق، وفالح رفقي أتاي.
ويُقال أيضاً إن أتاتورك قد انتظر قدوم ناظم حكمت كثيراً، وسأل عنه في آخر الليلة، ولم يستطع أي شخص أن يُخبر أتاتورك بما قاله ناظم. فقال أتاتورك:
– فهمتُ فهمتُ. بينكم رجلٌ واحدٌ، وهو الذي لا يأتي إليَّ.
في تلك الفترة، كان من الشجاعة أن يردَّ شخص هكذا على رجال شرطة أتاتورك الذين أرسلهم لاستدعائه إلى مائدته. وهذه الشجاعة كانت عند ناظم. لقد كان بقلبٍ مُتَحضِّر وشجاع.
ذات يوم، حكى لنا في بيتنا، صديق ناظم حكمت المحامي إسماعيل حقي بالامير:
– كان ناظم يقول بنفسه إن نجم الدين صَدَاق دعاه إلى الطعام في بيته، وكان هناك مدعوون آخرون. وبعد تناول الطعام طلب نجم الدين من ناظم أن يقرأ شعراً، فاختار قصيدة “جدار” بالتحديد، لكي يُزعج البرجوازيين الحاضرين. تأثَّر نجم الدين بالشعر وقال لناظم: “كم أراد أتاتورك أن يسمع شِعركَ منك. وأمر أكثر من شخص أن يأتي بك. لم يستطع أتاتورك أن يسمعك، لكننا سمعنا شِعركَ منك”.
وكان ناظم حكمت يقول لبعض أصدقائه المُقرَّبين:
– كنتُ أفهم مشاعرَ أتاتورك تجاهي من تصرُّفات المُقرَّبين إليه الذين أعرفهم. إذا ابتسموا لي وهم يسلِّمون عليَّ، وأظهروا ودَّهم، كنتُ أفهم أن أتاتورك يتحدَّث عني بشكل جيد على المائدة التي جمعتهم. وإذا تَجَاهَلَني هؤلاء أو سلَّموا عليَّ من بعيد، كنتُ أفهم أن أتاتورك أظهر غضبَهَ عليَّ أمامهم.
وهناك واقعة أخرى، كان فالح رفقي أتاي شاهداً عليها، وحكاها لآخرين:
في إحدى الليالي التي دعا فيها أتاتورك أدباءً كثيرين، مثل يعقوب قدري، إلى مائدته، سألهم أتاتورك عن رأيهم في شعر ناظم حكمت. فوجدها الأدباء فرصة لكي يمدحوا ناظم أمام أتاتورك حتى يسامحه ويُظهر تعاطفاً نحوه. طلب أتاتورك من أحدهم أن يقرأ قصيدة لناظم إذا كان يحفظها، وبعد أن استمع أتاتورك إلى قصيدة ناظم، قال:
– إيقاع اللغة التركية يظهر في قصائد ناظم حكمت. لقد وجد موسيقى الصوت التركي.
- عن العربي الجديد