حوار مع نجيب محفوظ أجرته ليلى الأطرش 1993

(ثقافات)

حوار تلفزي مع نجيب محفوظ أجرته ليلى الأطرش*

تم اللقاء في جريدة الأهرام 1993

نجيب محفوظ الكاتب العربي العالمي الأكثر شهرة، الروائي العربي الوحيد الذي نال نوبل.. القاص وكاتب السيناريو والمقالة.

 نجيب محفوظ اسم مرّكب اكتفى به الكاتب الشاب وتسلق به سلم الشهرة مجردا عن اسم الوالد والعائلة (عبد العزيز ابراهيم أحمد الباشا). اختار والده الاسم المركب تقديرا للطبيب نجيب باشا محفوظ لإشرافه على الولادة المتعسرة لطفله، ونجاته مع سلامة والدته. فسجل الطفل اسمه بأحرف الإبداع المنيرة.

 كتب الحارة المصرية كعالَم روائي متجدِّد بكل ما فيها من آمال وأحلام وإحباط ومشاكل وهموم، فكان مصرياً، ثم عالمياً حين قدّره العالم لانتمائه لبيئته المحلية في ثلاثيته الشهيرة، ولاهتمامه بفلسفة الأديان في “أولاد حارتنا” التي مُنع نشرها في مصر سنوات طويلة، وكاد يفقد حياته بسبب التحريض ضدها واتهامه بالإلحاد والكفر، لكن محاولة الاغتيال فشلت والحمد لله!

 نجيب محفوظ طالب الفلسفة في جامعة القاهرة بدأ اهتمامه بتاريخ مصر الفرعوني فكتب رواية رادوبيس، ثم عبث الأقدار، قبل الانتقال إلى هموم ثورة عُرابي والحرب العالمية الثانية، وبعد ذلك نكسة حزيران التي تنبأ بها من خلال عملين أو أكثر!

 نجيب محفوظ الكاتب الفذ أدرك معنى الفن السابع وأهمية السينما الجديدة في ذلك الوقت في توصيل الفكر والأدب، فاتجه إلى الكتابة لهذا الفن الجديد ليصل به إلى عقول الناس في الوطن العربي لأن نسبة كبيرة فيه أميّة، أو لا تقرأ، فأراد أن يصل إليهم من خلال السينما، وتحولت معظم رواياته والكثير من قصصه إلى أفلام حصدت العديد من الجوائز العربية والعالمية!

 كتب 62 عملاً ما بين سيناريو لأفلام أو قصة قصيرة حوّلت للتلفيزيون مثل قصة أيوب، وما بين أعمال روائية وقصص حوّلها غيره إلى أفلام تلفيزيونية وأفلام سينمائية، بدأ كتابة السيناريو مع صلاح أبو سيف في عام 1945 في فيلم المُنتقم، ثم كانت الأفلام التي شكلت علامات فارقة في السينما.

نال العديد من الجوائز منذ بدايته، جائزة مجمع اللغة العربية 1936، جائزة الدولة في الأدب، جائزة الدولة التقديرية في الأدب، وسام الجمهورية وقلادة النيل، وله تمثال في ميدان رمسيس!

في مكتبه في جريدة الأهرام دار الحوار بينما التلفزيون الياباني ينتظر دوره للتسجيل معه.

لم اساله عن فوزه بنوبل، فقد تحدث عنه في عشرات اللقاءات بحيث وجدت أن الوقت الممنوح لنا للمقابلة ساعة واحدة لضبط الكاميرات والإضاءة واللقاء، فآثرت أن أطرق مواضيع أخرى

-.نجيب: أهلاً بيكِ يا ستي

-.ليلى: أستاذي الكريم، الأديب إذا استطاع أن يستشِرف المستقبل فهو أديب خالد، حضرتك في ثرثرة فوق النيل، الشحات استطعت أن تتنبأ بالهزيمة العربية عام 1967، في هذا العالم الهلامي وكل المتغيرات التي تحدث فيه ، السياسية والثقافية والاجتماعية كيف ترى مستقبل هذه الأمة؟

-نجيب: هي أمل أكثر منها رؤية، يعني احنا نواجه عالماً جديداً، نلاحظ أنه يقوم على نوع من التكتلات مثل التكتل الأوروبي والأمريكي، المكسيكي، الكندي وفي آسيا كذلك، العرب يجب أن يواجهوا هذا العالم في وحدة ما، وحدة روحية، وحدة ثقافية، وحدة اقتصادية، ولا أقصد الوحدة السياسية التي هي مثيرة عادةً للمنازعات، يعني نبحث ايه اللي نتفق فيه! مش ايه اللي نختلف فيه! ونعمل على أن نكون في هذا النطاق وحده، عشان نقدر نواجه العالم ككل أقوى من أن نكون كل جزء على حده، مستقبلنا سيكون على قدر ما نستطيع أن نصفّي من خلافاتنا، ونؤكد من وحدتنا الروحية والثفافية والاقتصادية، عشان نواجه هذا العصر العالمي بكفاءة، ويكون لنا فيه موضع! وإلا الواحد يخشى الفناء لأن البديل اللاوجود.

 

-ليلى: في عام 52 توقفت عن الكتابة لمدة خمس سنوات لتستوعب المتغيرات التي حدثت في تلك الفترة، ربما كنت أستاذ نجيب أكثر الأدباء العرب الذين استوعبوا ما حدث، هل هناك مَلْمح ولو واحد في أعمالك بعد ذلك يمكن أن ينطبق على واقعنا الآن؟ ملمح ولو واحد لما يحدث الآن أو لما يسمى بالنظام العالمي الجديد؟

– نجيب: والله أمّا ترجعي لعمل بعيد قوي يعني خلصت منه في الخمسينات قبيل الثورة المصرية اللي هوه الثلاثية، تجدي أنها بتنتهي بثلاثة تيارات: تيار يساري وتيار إسلامي وتيار انتهازي، الواقع لما تنظري الآن إلى واقعنا تجدي فيه التيارات دي بَزَغت بس ايه تطورت فيها اللي قِوِي وفيها اللي تراجع وكلها بتتبادل التأثير، التيار الإسلامي موجود بشكل محسوس جداً، اليساري وأقصد هنا اليساري أكثر من اللي كنت أعنيه في الثلاثية كل المدنيين واللي بيقفوا موقف خاص من الحكم الديني، هذا أيضاً موجود، ثم الانتهازيين الذين يعيثوا في الأرض فساداً

–ليلى: هي حملت ملمح

–نجيب: آه بالزبط، الصراع ده يظهر ثاني بشكل رمزي في ملحمة الحرافيش.

-ليلى: الحرافيش أكثر القصص التي تحولت إلى السينما، هل الأستاذ نجيب محفوظ الذي كتب أكثر من 62 عملا للسينما، هل استشرف المستقبل بأن العالم سيصبح سينما وتليفزيون وعالم اتصالات؟ هل أدركت ذلك عندما بدأت بكتابة السيناريو؟

نجيب: كنا مدركين أنه في فن جديد بيسموه الفن السابع اتولد في القرن العشرين، احنا طبعا كنا ننتمي للأدب وليس إلى السينما، لكن التجربة اليومية الحياتية كشفت لنا عن علاقة وثيقة بين الاثنين، فالسينما قدمت خدمات جميلة جداً للأدب من حيث أنها نشرته لغير القراء، وأقصد بغير القراء الأميين ودول كثير بعالمنا أو المتعلمين غير المثقفين، فأيٍ كان قدرتها”السينما” في التحويل فلها الفضل في أنها يسرته إلى وجدان هؤلاء الناس، الأدب أيضا وهو يتابع السينما عرف ملامح الأسلوب الجديد. الأسلوب القائم على التركيز والإشارة والرمز وليس على السرد والإسهاب في الوصف.

– ليلى: أستاذ نجيب قلت إنك تعلمت كتابة السيناريو من شيخ المخرجين أستاذ صلاح أبو سيف

الأستاذ صلاح أبو سيف سنة 46أو47 اتصل فيّ عن طريق صديق وطلب مقابلتي، وقال إنه قرأ لي أول رواية انطبعت وهي “عبث الأقدار” وإنه استشف منها أني عندي استعداد لكتابة السيناريو، وعاوزني أكتب سيناريو معاه، كنت بسمع عن كلمة سيناريو لأول مرة في حياتي، قبلت التجربة حباً للاستطلاع وحبا في ثمنها (ضحك الاثنان)، ومشيت مع الأستاذ صلاح خطوة خطوة فتعلمت السيناريو يبتدي ازاي وينتهي ازاي، عند كل خطوة كنت أحسب دوري انتهى يقول لي لسه ما بتداش، فأقعد، لغاية ما خلصت عملي.

-ليلى: وتحولت لك كثير من الأعمال إلى السينما، وشاركت في كتابة السيناريو لكن الأعمال التي حولت عن كتاباتك لم تعكس وجهة نظرك، هكذا أجمع النقاد وقالوا إنها تعكس رؤيا المخرجين؟ هل ضايقك هذا؟

-نجيب: لا.. الحقيقة هم حاولوا، أصل المخرج هو المؤلف الجديد للعمل، فلابد أن رؤيته تِطبع العمل وتظهر فيه. إنما عادةً المخرج لا يتصدى لإخراج عمل مايكنش فيه توافق نفسي بين رؤيته ورؤية العمل. ولذلك جت الرؤية متوافقة في الغالب، حتى إذا كان اختل توازنها قليلاً لكنها أيضاً عبرت عن الرؤية بطريقة ما، يعني نلاحظ مثلاً في الثلاثية إنه في جوانب كان الاهتمام فيها زي الجوانب العاطفية وجوانب اللهو كان عليها شيء من التركيز أكثر من السياسة والكفاح الوطني، لكن الكفاح الوطني موجود أيضا، والسياسة موجودة أيضا، لكن رؤية المخرج اللي هو مخرج روائع عاطفية (حسن الإمام) لابد أن تظهر في العمل، ما فيش عمل تقدري تقولي أنه رؤيته ضاعت في السينما إلا ملحمة الحرافيش.

 – ليلى: ألأنها أنتجت سبع مرات ومع سبعة مخرجين؟

– نجيب: بالضبط، ملحمة الحرافيش رواية واحدة مقسمة إلى عشر حكايات، فهي رؤية واحدة ورواية واحدة، كانوا بياخدوها للسينما أجزاء، ويعتبروا كل واحدة قائمة بنفسها فتخرج عن السياق العام، وعن المشاركة في رؤية واحدة! وتطلع في النهاية كأنها صراع بين أهل حارة فتوّات وغير فتوّات، وقصة حب وحاجة عادية، فضاعت الرؤيا هنا بسبب التقسيم لأن ملحمة الحرافيش لا يُعبر عنها إلا بفيلم واحد وهذا مُتَعَذِّر إلا بمسلسل تلفزيوني

(لقاء المخرج توفيق صالح)

 

-لما عدت لمصر من خلال ما شاهدته ومن خلال اتصالي بصديق عزيز جداً عليَّ، فكرت بعمل ما تسمونه انتم الواقعية!

 – ليلى: من هو الصديق؟

-توفيق: نجيب محفوظ، اللي هو من أيامها واحنا أصدقاء!

–ليلى: من وقت درب المهابيل!

– توفيق: آه، في فترة درب المهابيل كنت أتعامل مع صديق! فقط صديق ليكتب موضوع معايا! إنما بعد كده بكم سنة تطورت علاقتي به إلى نوع خاص من الصداقة ربنا يديمها.

-ليلى: ان شاء الله: لكن نجيب محفوظ في ذلك الوقت كان مبتدئا في كتابة السيناريو واشترك معك، هل هو من النوع الصعب في التعامل؟

توفيق صالح: بالعكس بالعكس! أولاً أنا لا أعتقد أنه في إنسان على قيمة فكرية أو فنية أو أدبية، راجل له قيمته يصعب التعامل معه، لا أعتقد!

 -ليلى: هذا بشكل عام فما بالك بنجيب محفوظ؟

-توفيق: نجيب محفوظ؟! أنا في حياتي وأنا راجل عجوز وصادفني ناس كثيرة جدا في حياتي، أنا لم أعرف ولم أسمع عن انسان بتواضع وبأخلاق وبإنسانية نجيب محفوظ!

-ليلى: لكن في درب المهابيل هل تناقشتم مثلا في وجهة النظر؟ هل كان له رأي تصلب فيه ولو قليلاً؟

– توفيق: آه طبعاً! لا. تصلّب فيه قليلاً لا! هوه الفكرة أصلا أيه، هي كانت فكرتي، أنا كان عندي فكرة، وكنت فعلا بدأت أخطط في كتابتها وعرضت عليه وقلت له أيه رأيك نكتب السيناريو سوا، فقال لي سيبها معايا فترة بعد ما قراها طبعاً، قال خليني أعيد كتابتها بشكل آخر، قلت له نشوف نجرب، وفعلاً عمل ما الفرنساويين يطلقوا عليه …” ضربة معلم”، نفس الحدوته نفس الشخصيات بقت حاجة تانية وأضاف بشكل عبقري الشيء الذي جعل من هذا السيناريو قيمة.. طبعاً نص الناس في مصر رفضوا هذا الشكل السينمائي وهذا الأسلوب السينمائي في تلك الفترة.

– ليلى: لأنه جديد؟

– توفيق صالح: كان جديد خالص وما حدش يجرؤ يعمل فيلم بهذا الشكل! ولكن كان في اهتمام بمصرية اللغة السينمائية، ودي حاجة ما كانش سبق مثلها، إنما لا أذكر يعني دلوقتي بكلمك عن حاجة من 30 أو 35 سنة، لا أذكر أن احنا اختلفنا أو حصل جدل قوي بينا بالعكس كانت العملية بسيطة وسهلة.

 

-ليلى: أستاذ نجيب ارتبطَت ملحمة الحرافيش بيوم الخميس، وجئنا للقائك حسب طلبك في يوم الخميس، ما معنى الخميس للأستاذ نجيب محفوظ؟ ماذا يحمل من ذكريات؟

-نجيب: يوم الخميس يعني ..أولاً فرّقي بين حرافيش الخميس! وحرافيش الرواية (يضحكان)

حرافيش الخميس دول زملاء من الفنانين والكتاب، ناس يعني تجمعنا صداقة واجتماع وأُطلِق عليهم اسم الحرافيش على سبيل الفكاهة! حرافيش بقى الرواية حاجة تانية، وأنا فاكر لما قلت لهم إنه الرواية الجاية اسمها الحرافيش زعلوا، كان بيحسبوها أني أنا كاتب رواية عنهم! لكن الواقع أنه لا علاقة بين الاثنين على الإطلاق، أما منزلة يوم الخميس فده طبعاً ما فيش تلميذ في الدنيا في بلادنا مايعرفش قيمة يوم الخميس لأنه هو نهاية العمل وبداية الإجازة!

– ليلى: والله الأستاذ نجيب مبسوط أنت بالخميس!

-نجيب: آه بالزبط هو بتاع حفلات أم كلثوم و….

-ليلى: حضرتك تنقلني من موضوع إلى موضوع، ما دمنا نتكلم عن السيدة أم كلثوم، للغناء دور عند أستاذنا الكبير، حتى أنك في يوم من الأيام تعلمت الموسيقى ودخلت المعهد؟

– آه

– ليلى: وظهر الغناء أيضا في رواية “ثرثرة على النيل” وظهر في بعض أعمالك حتى الغناء الإيراني القديم! حضرتك بتحفظ أغاني؟ ما رأيك بالموجة الجديدة من الأغاني أو ما يسمى بالأغنية الشبابية؟

-نجيب: الأغنية الحديثة؟ والله أنا تتبعت منها القليل! لأنه يعني دلوقتي في ما يمنعني من السمع، زي ما انت شايفة! إنما أنا أقول لك إنه فيها مَزاج! فيها خفة وفيها ايقاع سريع، ولابد أن يكون في علاقة حقيقية بينها وبين نفوس الناس، ويدل على كده نجاحها! فنجاح الشرايط اللي تتباع بشكل غريب جداً يدل على الاستجابة! وعلى أن الغنوة دي هي المناسبة لهذا الجيل!.. كونها أحسن من اللي فات، أو أقل منه، أو هي عبارة عن نقطة تحول سوف يأتي بعدها اللي أحسن منها؟ ويجمع بين مزاياها ومزايا اللي قبلها؟ ده شيء متروك للمستقبل.

-ليلى: هل تحس بفجوة بين ما تُحِب وما تحبه فاطمة وأم كلثوم بناتك؟

– نجيب: آه طبعا دول جيل ثاني، ومستقلين، ولهم ذوقهم في السمع، وتقدري تقولي إنه كان لهم فضل يعني في أنّي حبيت حاجات وسمعتها، ماكنتش أنا لوحدي أقدر أسمعها أو أتذوقها!

 -ليلى: عدوية مثلاً؟

– عدوية وغيره وغيره وغيره، دياب وثروت (عمرو دياب، ومحمد ثروت) وكل الحديثين.

-ليلى: أستاذ نجيب أنت تحفظ الأغاني ليست العربية فقط، إنما الأغاني الفارسية والأغاني اليونانية، وأيضاً كتبت عن هذه الأغاني، فما أجمل الأغاني عند الأستاذ نجيب؟

-نجيب: في الغناء أنا قاموس! سمعت من القديم والحديث والمتوسط إنما على سبيل المثال نأخذ القمتين أم كلثوم وعبد الوهاب، أم كلثوم كنت أحب أسمع “الأطلال” مثلاً أو “فكروني” وعبد الوهاب “من أد أيه كنا هنا”.

 

(لقاء الملحن حلمي بكر)

– ليلى: أستاذ حلمي بكر في لقاء مع الأستاذ نجيب محفوظ قال إنه يحب أحمد عدوية، ويسمع عدوية بينما أنت لا تعترف به وتهاجمه..

-حلمي: أيوه! هناك بعض الغناء الذي عندما أستمع إليه أبتسم! وبعض الغناء لما  أسمعه أزعل! وبعض الغناء لما أسمعه أطرب! وبعض الغناء لما أسمعه أعيش في خيال وأخلّقه ويبقى من صنعي، ولكن هناك بعض الغناء اللي لما يُذاع يجب أن تتحرك شرطة المصنفات لكي تمنعه لأنه يبقى إدمان! هناك نوعين من الإدمان، الأستاذ نجيب محفوظ لما اختار أغنية ابتسم لها أو مطرب ابتسم له وسعِد له، تخيلي هذا الأديب العظيم الذي يكتب بمضامين ويلعب بالأساليب ويلعب بالمواقف الدرامية يختار عدوية!

– ليلى: كان جاداً في اللقاء حين قال ذلك؟

– حلمي: لأنه ابتسم له، لقي ابتسامة عدِّت في حياتنا! أنا محتاج للتنوع فاختار الأستاذ نجيب محفوظ اختار تنوع، عندما اختار عدوية اختار تنوع، وتنوع لا بأس به ولكن هو ليس الأغنية.

مقتطف لقاء الملحن بليغ حمدي: عدوية صوت له طعم وطعم خاص به، له معنى خاص به ويغني غُنى ابن البلد، عارفه ابن البلد الغلبان اللي بيحل مشاكله بالفهلوة بتاعته وبطريقته وبحياته، عدوية لون لا شك أنه يمثل نسبة كبيرة من، أنا ما بقولش من جمهورية مصر كلها! لا من القاهرة نفسها من ابن البلد في القاهرة، يعني هوه بيمثل ابن البلد في القاهرة، يمثل المكوجي يمثل السبّاك، ويمثل نوعيات موجودة في حياتنا فعلاً، ومن أهلنا أهالينا يعني مع اختلاف المهن اللي يمارسوها! إنما لا شك أن له مذاق خاص، أنا شخصياً بحب أسمعه! أنا يمكن أول واحد سمعته وقلت له انك حتغني وحتنجح، يعني لا شك أن له طعم!

-ليلى: أستاذ نجيب في عالم الاتصالات الذي نعيش فيه والأقمار الصناعية وانحسار القراءة الورقية والتليفزيون والغزو الثقافي، لم يعد للأديب ذلك الدور الكبير. هل تعتقد أستاذ نجيب أن الأديب الآن وفي المستقبل سيصبح حلية من خان الخليلي أو قيمة تاريخية مثلاً؟

-نجيب: شوفي يا ستي، الأدب له مميزاته والفيلم التليفزيوني أو الرواية التليفزيونة لها ميزاتها اللي تناسب العصر، يعني فيها السهولة وفيها الخفة وفيها الترويح عن النفس، وفيها المشاهد التي تجذب، وكل دي ميزات وتناسب الراجل التعبان في كفاح الحياة، والحاجات اللي زي دي! الأدب فن زي الرواية دي، لكن يحتاج لشيء من الصبر ولشيء من الثقافة خدتي بالك؟ عشان يستوعب استيعاب تام، طيب السهولة تغلب الصعوبة على المستوى العام، لكن ما تلغيهاش! لأنه سيظل في الناس من يعجبه التلفزيون، ولكن لا يشبعه! يحتاج إلى شيء أعمق وأشمل.

-ليلى: لكن عدد القراء قل كثيراً، وبدأ بعض الأدباء يتجه للكتابة للوسائل المرئية، وحضرتك أصلاً دعيت الأدباء ان يكتبوا للتليفزيون للارتقاء بهذا الفن؟

-نجيب: الدعوة بتاعتي يعني بتتفهم! أنا عرفت ليه زملاء بيعانوا صعوبة كبيرة في النشر وهم مواهب جيدة! فأنا نصحتهم بأن الرواية بتاعتهم اللي كتبت للأدب وللنشر ما فيش بأس إن قدروا يقدموها في التليفزيون، فده يعمل لها دعاية كبيرة يصح تساعد على نشرها، فأنا طلبت منهم التوجه للتليفزيون، مش بمعنى انهم يهجروا الأدب ويروحوا إلى التليفزيون! إنما يستخدموه كوسيلة لتسهيل النشر.

-ليلى: أستاذي الكبير هل تشاهد التليفزيون؟ وأي نوع من البرامج تشاهد؟

– نجيب: الحقيقة أنا كان لا يسيبني كتاب ولا مجلة ولا فيلم في التليفزيون ولا مسرحية! لكن السنوات الأخيرة لظروف عينيّ ووداني، أصبحت لا أقرأ كتاب ولا مجلة ولا أشوف فيلم ولا تليفزيون ولا إذاعة بكل صراحة! وحتى الأغاني ماعرفش أسمعها.. خدت بالك؟

-ليلى: حتى المقابلات التي تجرى مع حضرتك لا تحاول أن تعرف كيف ظهرت؟

– نجيب: إل أيه؟؟

– المقابلات التي تجرى مع الأستاذ نجيب محفوظ كمان مش حريص إنك تشوفها؟

-نجيب: ماشوفهاش، يعني مثلاً لو اللقاء ده ظهر في التليفزيون عندنا، الشاشة بتبان ضباب وأشباح والصوت مش مسموع.

–ليلى: الله يعطيك الصحة والعافية

-نجيب: آه كنت بتابع التليفزيون، والواقع إنه التليفزيون جهاز جميل جداً يعني وفضله علينا كبير جداً، لأنه ثقافة من لا يستطيعون الثقافة من منابعها الأصلية! فكان خير وبركة على الأقل 50% من العرب، يعني ساعات بنكون ماشيين في ثقافة الأوتومبيل في وسط القرى نشوف قدام عشش الفلاحين التليفزيون، فالفلاح البسيط اللي كان مقطوع عن الدنيا، بدأ يسمع أخبار وبيسمع أغاني ويشوف دراما، حاجات ما كانتش ممكن توصَّليها له ولا في الحلم!

-ليلى: في رواية “ميرامار” وَجَّهْت النقد لكل الشخصيات بكل ما تحمل من أفكار ومعتقدات! لكن في الفيلم كان الانتقاد موجّه إلى الفترة الناصرية فقط؟ هل ضايقك هذا؟

-نجيب: الفيلم في غلطة!.. مش غلطة! في راجل إقطاعي من ضمن الشخصيات، وفي ناس تقدُميين، وفي ناس ثوريين ناصريين وفي واحد شيوعي وفي إقطاعي، اختاروا مين للإقطاعي؟ يوسف وهبي الله يرحمه! فمسح الكل!

 (يضحكان)،

فبان في كثير من الأحيان بقدرته الفائقة وخفة روحه البطل الأكبر، ما هو الإقناع يجي عن أيه؟ عن شخصية الممثل برضه!  كتير من تمثيله وخناقاته وكل ده، فبان جانب النقد وبان جانب أنه في تعاطف معه، دي أخلت بالتوازن بتاع ميرامار الحقيقة، لأن رواية ميرامار تعرض شرائح كثيرة جداً وترفضها.

 

(لقاء المخرج صلاح أبو سيف)

-ليلى: الأستاذ صلاح ابو سيف كثيراً ما يقال بأن المخرجين السياسيين الذين نقلوا روايات نجيب محفوظ إلى الشاشة، نقلوا وجهات نظرهم السياسية، بينما لم ينقلوا نجيب محفوظ! حضرتك اشتغلت عدة أفلام عن رواياته، هل نقلت وجهة نظرك السياسية أو بلاش السياسية، وجهة نظرك أنت في العمل وليس وجهة نظر الكاتب؟

-صلاح: لا هو نجيب محفوظ بيدي دائماً الحرية للسيناريست والمخرج إنهم يقولوا رأيهم زي ما هم عايزين! يقول لك لا أنا قلت رأيي في الرواية خلاص! هم يقولوا. أنا شخصياً عملت روايتين لنجيب محفوظ غير السيناريوهات اللي كتبهم معايا، عملت “بداية ونهاية” و”القاهرة 30″، دايما كنت أتناقش معاه ليه؟ لأني عارف إنه الكاتب له رأي بين السطور. في آراء يمكن أي قارئ ما يفهمهاش، فأنا في الأفلام دي كنت بتفاهم معاه عشان يفهمني عشان أنا أفهم وأقول آراء نجيب محفوظ، طبعاً سينمائياً غير اللغة الأدبية بتتغير 100% فأعتقد يعني من أنجح أفلام نجيب محفوظ هو “بداية ونهاية” يعني زي ما نقول بالزبط صورة طبق الأصل من نجيب محفوظ

 -ليلى: ومازال مدرسة سواء في الرواية أو في الفيلم! يعني مشهد سقوط سنيّة في بداية ونهاية “سناء جميل” لا يمكن أن ينساه انسان. الحقيقة استطاعت الكاميرا أن تُجسد ذلك المشهد بنفس الصدق الذي جسده الأستاذ نجيب محفوظ، في روايته.

 -صلاح: مافيش شك، في حاجات مهمة جداً يعني أنا استوحيتها من الرواية وأنا بقرأ الرواية ادتني الوحي عن تعبيرات كثيرة جداً! وحاجات وتفاصيل صغيرة جداً اخدتها من الرواية نفسها، لكني بقول لك بتفاهم مع نجيب. اللي عايز يقولوا عشان أفهم.. ليه؟ لأنه ما يهمنيش آخذ رواية نجيب محفوظ وأقول رأيي أنا. لا! تبقى عن رواية نجيب محفوظ وماتبقاش رواية نجيب محفوظ؟! أنا لو ما كنتش فاهم نجيب محفوظ عايز يقول أيه؟ أو المؤلف أي مؤلف تاني!

-ليلى: الحارة المصرية هي سمة الأستاذ نجيب محفوظ ارتبطت به واوصلته إلى العالمية، أستاذ نجيب لو أردت أن تكتب “القاهرة “30” الآن كيف ستكون الحارة المصرية؟ كيف ترى الحارة المصرية في 93؟

-نجيب: طبعاً الحارة المصرية تغيرت تغير كبير جداً، واخده بالك؟ يعني مثلاً لو “زقاق المدق” دلوقت كنت حتلاقي عباس الحلو وحميدة يمكن في الجامعة! وابن المعلم كرشة تلاقيه من بتوع المقاولات! وسارق من البنوك يجي 40 مليون جنيه (يضحكان)

كله تغير مابقاش المشاكل بتاعة زمان، آه الواقع تغيَّر كتير، لكن ممكن استعمال الحارة كرمز كمان، يعني أنا الآن بكتب قصص عن الحارة لأني أحب الحارة لكنها قصص رمزية أكثر منها واقعية.

-ليلى: الواقع أستاذ نجيب لك عدة روايات وأعمال في مرحلة الرمزية، فلماذا لجأت إلى الرمز؟ هل هو تهرب من الرقابة؟

-نجيب: والله الرمزية فيها السياسي! لكن الرمزية دي فن! يعني قصدي أقول لك ده مذهب فني لا علاقة له بالسياسة أيضاً! يعني في ناس بيعمل رمز عشان ظروف سياسية زي رحلات غوليفر، لكن فيه رمز وفيه أمثولة ليس لها علاقة بالسياسة زي يوليسيز بتاعة جيمس تشويس! ده الأدب بطبعه هنا، لأن موضوعه عويص ولا يُطَلب منه إلا بالإشارة مش بالتوضيح، فيلجأ للرمز كطريقة تقريب، زي الأدب الصوفي ما يمكنش يكون واقعي، وواضح، فيه ده وفيه ده، وأنا كتبت الاثنين.

 -ليلى: معلش تسمح لي بسؤال شخصي، لماذا لا نشاهدك وأنت تلبس كرافة؟ ما بتلبسش كرافة ليه؟

-نجيب: بسبب الحساسية! ده من زمان يعني لما ألبس الكرافته وأربطها تلاقي الحته دي تلتهب هذا السبب! بالإضافة إن ما لهاش معنى (يضحك الاثنان) الكرافتة مالهاش معنى يعني

–ليلى: في الخمسينات أستاذنا الكبير نجيب محفوظ حارب بين أقواس “الأَوْرَبة” والتحديث وتأثير أوروبا علينا، الآن ونحن نعيش في عصر الاتصالات، وما يحدث في أقصى الأرض نعرفه في التو واللحظة! وما فيش مجال انك تحارب التحديث، ما دور الأديب؟

– نجيب: وعاوزه تحاربيه ليه؟ (يضحكان)

-ليلى: لا.. أنت حاربته في الخمسينيات؟-نجيب: يعني مصير العالم إنه يتقارب، وإن الحوار يستمر بين حضاراته المختلفة، وإن العادات اللي بتبان شاذة تبقى مألوفة نشوفها كل يوم في التليفزيون، فنعرف أن الناس دول لهم منهج في السلوك مختلف عنا حقيقي! زي ما منهجنا احنا مختلف عنهم! ده يجب أن يولّد تسامح واتساع نظره وحب لكل شيء، واخده بالك؟ وما فيش شعب ما أدَّاش حاجة كويسة للإنسانية! ومافيش شعب مش عايش وله ميزة ما، إن شاء الله يكون في الرقص أو الغناء! يعني التفتح ده كويس قوي! في حاجات خارجة يعني عن درجة الحياء في مجتمعنا ما يحتملهاش! هم درجة الحياء عندهم بتحتملها وبتقى حاجات عادية، دي يعني ممكن لما تظهر في التليفزيون نغير القناة! ويعني ما فيش حاجة لو خدنا عليها؟! ماهياش حاجة غريبة مصيرنا نوصل لها! قصدي أقول لك الانسان أمّا يتربى تربية كويسة، ويكون له مبادئ سامية متربي عليها، وتعمقت في نفسه تماماً، يقدر يوقف أمام أي تيار! ويقدر ينقد أي رأي، وده أحسن من الرقابة والوصاية، حنرجع تاني لايه؟ لاستنجاد صلاح أبو سيف بالبوليس، البوليس مالوهش شأن احنا بوليس رُوحنا، يجب أن أقبل اللي أقبله وأرفض اللي أرفضه، بس علينا نربي أولادنا.. التربية أهم شيء، العالم لا يخلو من أوبئة. نعمل أيه؟ يمكن ما نقدرش نقضي على الوباء! لكن في إرشادات صحية تنفع أي مواطن! وفي تطعيم .. بس.

– ليلى: أستاذ نجيب رغم أنك ظهرت في فترة طه حسين والعقاد إلا أنك لم ترتبط بصداقة بعميد الأدب العربي طه حسين أو العقاد؟ (أعادت الجملة مره أخرى لأنه لم يسمع) رغم ظهورك في زمن العقاد وطه حسين وكنت شابا صغيرا لم ترتبط بهما ارتباطا شخصيا بينما ارتبطت بتوفيق الحكيم؟

-نجيب: الارتباط الشخصي ده أضعف ارتباط بين الأدباء، يعني أنا ارتبطت بطه حسين والعقاد ارتباط روحي عميق جداً، وبغيرهم زي المنفلوطي وهيكل، وقدرتي على الحياة الاجتماعية والالتحام بالناس محدودة، يعني كان يجب-على حبي الكبير للعقاد- إني أروح الصالون بتاعه، وأعرف أنيس منصور هناك وكل العقاديين، ولكن أنا كنت أحب من بعيد، توفيق الحكيم كسر الحاجز ده ازاي؟ بأنه طلب يشوفني فتشجعت ورحت، فقال لي أنا لي قعدة في اسكندرية لمّا بتسافر ابقى فوت عليّ، واستمرت العلاقة، ما جتش الفرصة دي مع غيره!

– ليلى: هل كنت تخشى أن تبادر بالاقتراب من هؤلاء؟

 – نجيب: مش أخشى! أنا ما أحبش الاقتراب! يعني أميل للعزلة، وإلا كنت أتعرف بالعقاد ده العقاد مكانته كبيرة عندي جداً وطه حسين، كان يجب أسعى لهم وأعرفهم! إللي عرفتهم في حياتي عن طريق الاستدعاء توفيق الحكيم والمرحوم سلامة موسى! (سلامة موسى رائد الاشتراكية المصرية، عرف باهتمامه الشديد بالثقافة والفكر، درس في مصر وفرنسا وبريطانيا ونشر أول كتاب عن الاشتراكية العربية، رأس تحرير مجلة الهلال، وأسس المجمع المصري للثقافة العالمية، انتمى لعدد من المثقفين المصريين ونادوا بالكتابة بالعامية المصرية ثم تراجعوا، تتلمذ على يديه نجيب محفوظ بعد أن قال له” أنت موهبة كبيرة ولكن مقالاتك سيئة” مما دفعه للاهتمام بمواضيعه وكيفية طرحها)

 لأن سلامة موسى كان له مجلة، وكنت أنشر فيها، فبعت لي جواب عاوز أعرفك فرحت له وكانت زيارة في غاية الفائدة!

– ليلى: من أي ناحية أستاذ نجيب؟

-نجيب: لأنه كان راجل عظيم جداً! ومُوَجِّه عظيم جداً، ومثقف عظيم جداً، والاقتراب منه زي كأنك تعيشي مثلاً في هواء نقي

-ليلى: لكن معروف عن توفيق الحكيم أنه كان بخيلا! ومكتبك بجانب مكتبه في جريدة الأهرام هل صحيح أنه بخيل؟

-نجيب: يعرّفوه كده! وهو يحب أن ياخدها نكتة، إنما ما أعتقدش انه كان بخيل بالمعنى ولا حاجة.

-ليلى: أنت أب الواقعية وشخصياتك كلها واقعية، وعلم النفس يقول الروايات الأولى خاصة، أو المحاولات الأولى أو القصص الأولى دائماً فيها من نفس الأديب الكثير، أين نجيب محفوظ في أعمالك؟

-نجيب: يمكن زي ما بتقولي الأعمال الأولى الواحد بيكتبها عن نفسه لأنها أسهل، أسهل حاجة الواحد يكتب عن روحه! بس كلها؟ ما ينفعش! كانت تجارب أولى، كنت ما بين طالب في الجامعة وطالب في ثانوي، ولما عرف المرحوم سلامة موسى إني أكتب الروايات وماكنش تعرف بي قال: أحب أقرأها، فوديتها له، فقال انت يعني لك استعداد روائي كويس بس الحاجات دي لسه!

– ليلى: كانت روايات حُب يعني؟

– نجيب: لاء كانت حاجات ابتدائية ضعيفة لا تصلح للنشر، ولغاية ما وديت له “عبث الأقدار” وكنت مسميها حكمت خوفو، قال دي أنشرها.

-ليلى: رواية “رادوبيس” ثم “عبث الأقدار” حضرتك كتبت تاريخ مصر القديم، ثم الحديث في “الثلاثية” وكثير من الأعمال مثل “اللص والكلاب” حين رصدت الحركة والتحولات في تاريخ مصر، يعني الذي يريد أن يعرف تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي والثقافي يقرأ نجيب محفوظ فيعيشه، يمكن من رادوبيس إلى آخر الأعمال!

 – آه

-ليلى: ما الفرق بين الأديب والمؤرخ؟!

-نجيب: المؤرخ ده عالم ملتزم بمنهج علمي، يبحث الوثائق والمراجع بموضوعية كاملة عشان يصل للحقيقة، الحقيقة التاريخية، الأديب يكتب عمل فني! المقصود منه إمتاع الناس! وإنه يوصَّل لهم معنى يصح يتصل بالتاريخ أو لا يتصل! خدتي بالك، في نوع من القصة التاريخية يكاد يختلط القصّاص بالمؤرخ، اللي هوه نوع يأخذ القارئ عشان يعيشّوا في زمن فات زي الناس ما كانت بتعيش، فالغالب هنا الهدف تاريخي إني أعيِشِك مثلاً في عصر معاوية بن أبي سفيان، فبدرس المجتمع الأموي، نظام الحكم، الشخصيات البارزة، ازاي الناس كانت بتحتفل بالزواج والوفاة ووووو، بدرس التاريخ وحدوتة صغيرة تمشي، أنا هنا والمؤرخ مختلطين ببعض، هو يدرس عشان الحقيقة وأنا بدرس عشان الحقيقة، ولذلك الفن في هذا النوع من القصص التاريخية لا يزيد عن 20% ، الكاتب هنا بيبقى مؤرخ 80% و20% فنان، الأسلوب وطريقة العرض، لكن مش كله قصص تاريخية كده، في تاريخ ياخد الإطار ويخلق قصة يخلقها خلق واخده بالك؟ يعني احنا فين في عصر محمد علي! فالجزء الثابت التاريخي هو العصر والناس اللي فيه، لكن أنا ماشي مع واحد تصورت أنه مهاجر شامي جاي في مصر، عرف عائلة مصرية اتجوز بنتهم، اشتغل في نقل حاجات رمضان حصلت له مُلابسات خلَّته وصل للوالي واكتشف مكيدة… حكاية مالهاش أصل في التاريخ… خدتي بالك؟ تحصل بينه مقابلة وبين محمد علي خيالية ما حصلتش في التاريخ، كل المطلوب هنا إن محمد علي مايطلعش مثلاً غير الكلام اللي يُعْقل من هذه الشخصية!

-ليلى: حضرتك تؤيد استعمال الوثائق لإخصاب خيال الأديب فقط؟!

– نجيب: الوثائق هنا عشان الإطار عشان الإطار بس! إنما القصة فنية 100%، يعني الفرسان الثلاثة ده عصر بين فرنسا وانجلترا، لكن قصة الملكة واللي رايحيين يجيبوا اللي اتخطفت دي كلها خيالية، دي غير قصة “وردة” كان كتبها واحد ألماني عن عصر الفراعنة، جاي يعيِشِك في العصر الفرعوني كأنك عايشه فيه تماماً، فيبقى هنا المؤرخ والقصاص التصقوا ببعض! لكن القصة الثانية القاص فنان حر يتصور ويتخيل ما يشاء، بس لما يتعرض لحاجات تاريخية يحافظ عليها! يعني ما يصحش مثلاً يجي في عصر محمد علي ويقول لك لما ركبنا الطيارة عشان نوصل بني سويف!

(يضحكان)

 –ليلى: في عديد من أعمالك ظهرت شخصية الدرويش أو الولي، الشخص الأهبل الذي يقول الحكمة، لماذا هذه الشخصية ولماذا التركيز عليها؟

-نجيب: أصل البيئة تؤمن بالأولياء جداً وكل الأضرحة اللي تعرفيها اللي ساكنين فيها من الأولياء اللي يتبرّك بهم الناس، الناس تتبرّك فيهم وبتسألهم عن المستقبل زي العرّافين، فتلاقي يعني من الصعب في بيئة شعبية ما تلاقيش هذا النوع لا يمكن. يعني دي شخصيات أساسية!

-ليلى: معروف أستاذ نجيب أنت شديد التنظيم خاصة الوقت والكتابة، هناك من يقول إن التنظيم يتنافى مع الفن، وأن الفنان بطبعه يميل إلى البوهمية! فكيف استطعت أن تكون هذا الفنان المتفوق وبنفس الوقت شديد التنظيم؟

-نجيب: أصل أي فنان هو فنان ومواطن يعني هو إنسان عادي في مجتمعه وفنان، يمكن بحياته الفنية مش بتاع تنظيم، في الاستيحاء وفي استلهام الأشياء ماشي على تلقائيته، لكن لما يبتدي يشتغل ظروفه توجب عليه التنظيم! أنا التنظيم ده مش كفنان كموظف! لأني كنت مرتبط طول عمري بالوظيفة من الساعة 8 للساعة 2، إذاً يجب أن أنام في ساعة معينة عشان أصحى في ساعة معينة، ووقت يخصص للكتابة وإلا مش حأكتب، إنما بقى إني يجيلي الوحي مثلاً وأقعد أكتب طول اليوم؟ يعني معناه مش حروح تاني يوم، وبعد جمعتين أترِفد وتبقى حكاية!

(يضحكان)

– ليلى: لكن أستاذي الكريم لماذا استبقيت نفسك بالوظيفة وأنت الكاتب الذي كان ممكنا أن تحقق دخلا من الكتابة سواء للإذاعة أو للتليفزيون أحسن من الوظيفة؟

– نجيب: لا لا لا ما حصلش!

أنا طول عمري محتاج للوظيفة، وما بقيت فيها يوم واحد وأنا مش محتاج لها، هي غاية ما في الأمر، إنه تقريباً لما أحلت على المعاش اتسعت الأعمال والرزق جري شوية، فبقى ممكن أعيش من غير وظيفة! إنما هذه الظروف ماجتش قبل كده.

– ليلى: إذا كان الأديب الكبير نجيب محفوظ عانى في عالمنا العربي! هل تأسى يا أستاذي لحال الأدباء في الوطن العربي؟

-نجيب: ده مش كده بس، في الأكبر منه! بقى طه حسين والعقاد والمَازني ماقدروش يعيشوا كأدباء! اللي صحافي واللي أستاذ بالجامعة، ما هي دي وظائف، والعقاد كان موظف أيضاً، وكان موظف في الأوقاف آه.

– ليلى: لكن الوظيفة كانت تجعلك قريباً من الناس وتوحي لك بالشخصيات؟

-نجيب: كل مكان بيدي تجارب! يعني مثلاً عندك فتحي غانم وإحسان عبد القدوس ماكانوش موظفين زيي، لكن خدوا من الوسط الصحافي والفني نماذج هائلة!

-ليلى: من أحسن نجم سينمائي أو تليفزيوني جسّد شخصية من شخصياتك؟  تماماً كما رأيتها أنت ونجح في ذلك؟

– نجيب: يمكن يحيى شاهين في السيد أحمد عبد الجواد

 – ليلى: سي السيد؟

– نجيب: آه سي السيد، لأن سي السيد ده هو اللي شهر الرواية الحقيقة.

– احنا تجوزنا عن حب، وهو الحقيقة زوج مثالي وأب مثالي، وهو بيحترم آراءنا وما يرفض لناش أي طلب! يعني مش سي السيد، هو بعيد كل البعد عن شخصية سي السيد!

 

الواقع إني كنت دائما مع المرأة وحقوقها لأني مع حقوق الإنسان عموماً، فلا يمكن أكون مع حقوق الإنسان وأحرم نصف البشرية من هذه الحقوق، فأنا مع المرأة في حقوقها من حيث التعليم ومن حيث العمل ومن حيث جميع المزايا اللي يمتاز بها المواطن في المجتمع الحر).

 

-ليلى: لماذا يا أستاذ نجيب قبل نوبل كتبت الرواية والقصة القصيرة وبعد نوبل لم تكتب إلا القصة القصيرة؟

-نجيب: أنا بعد نوبل توقفت مع ضعفي ده! ما ابتدش أتحرك للكتابة تاني إلا من يناير الماضي وبكتب قصص قصيرة، أما القصص القصيرة اللي بنشرها في نص الدنيا فدي مجموعة كانت مكتوبة من سنة 87 19

–ليلى: نشكر الأستاذ نجيب محفوظ وأهلاً وسهلاً فيك

      * من كتاب مباخر العطاء من حواري مع أهل الفكر والفن – ليلى الأطرش – المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2022                     

لمشاهدة المقابلة الكاملة على الرابط التالي:

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *