عبد الجبار الرفاعي متكلّمٌ على نحوِ سكينة

(ثقافات)

عبد الجبار الرفاعي متكلّمٌ على نحوِ سكينة

باسمة القصاب*

لا يفتتح الدكتور عبد الجبار الرفاعي تحيّة يُرسلها، أو اتصالاً هاتفياً، أو محادثة يختُمها، بغير الدعاء بالسكينة وبهجة الروح والسلام الداخلي، تكاد تكون هي لازمته الأثيرة. حين ينطقها، تشعرُ بها تخرج من عمقٍ لا من فمّ، من روح تمتزج معها لا لسان يلفظُ بها.

أشهرٌ قليلة فقط منذ تعرّفتُ على الدكتور الرفاعي بـ “الشخص”، أعرفه قبلها اسماً بارزاً وحضوراً ثرياً في مجال الفكر الإسلامي والتجديد، وكان كتابي “كالتي هربت بعينيها” مفتاح هذه المعرفة، أروي في هذا الكتاب تجربتي داخل جماعة عقائدية مغلقة عشت في كنفها قرابة 16 عاماً، غادرتها بعد تحوّل فكريّ. كان لي شرف أن يحظى كتابي بقراءة الدكتور الرفاعي قبل نشره خلال النصف الأول من 2022، وأن يحتويني بحماس تلقّيه. ملأني سعادة عندما عبّر لي بأن الكتاب ينطق من خلال ذات الأغنية التي تشدو بها روحه، وهكذا انفتح الكلام على المعرفة، فعندما تلتقط الأذن شدو أغنية تلامس الروح، تنفتح الآفاق.

بقدر سعادتي، أخجلني التواضع الذي وجدته من رجل في بلاغة قامته، والتواصل الذي يبادر به بقلب متّسع وروح أنيسة، والدعم الذي لن يتوانى عن تقديمه دون سؤال، بل باقتراح منه، وأجمل من هذا، حديثه الذي يخترق القلب والعقل معاً، ويزجي طمأنينة وادعة في الروح والنفس، والارتياح العميق في نبرته وهو يعبّر عن نفسه: “لقد رزقني الله ما يفوق أحلامي وطموحاتي، رزقني سكينة الروح وطمأنينة القلب”، تلك السكينة التي تشرق في الوجه على هيئة سماحة، وفي الصوت على هيئة حنوّ، وفي الحديث على هيئة تألُّه.

  كيف يمكن لمشتغلٍ بعلم الكلام، وعلم الأديان والملل والنحل، وما يكتنفها من مغالبات ورغبات في الانتصار وإظهار الغلبة على الخصوم، أن يكون في هذه السكينة والهدوء؟ كيف يتأتى لشخص بهذا الانشغال الغليظ أن يكون بهذا الارتخاء والسلام الداخلي؟ سؤال ظلّ يلاحقني وأنا أحاول فهم شخصية عبد الجبار الرفاعي.

أجد أن سرّ هذه السكينة عند الرفاعي يكمن في تألهه الصوفي لا تفوقه الكلامي، بمعنى أن المتكلّم فيه أسماء الله بتأويلاتها الصوفية، لا صفات الله باحتراباتها الكلامية. ينطق في الرفاعي سكينة البسطامي والحلاج والنفري وابن عربي والتوحيدي وصدر المتألهين، ينطق فيه هؤلاء بسكينتهم ووحدة وجودهم، وقربهم من أسماء الله التي تظلّل البشر بالرحمة والحبّ والسلام.

المتكلّم الذي في الرفاعي ليس من أصحاب الفرق والملل المتخاصمين، ليس من الذين ينافحون عن فرقهم ويدافعون، ليس من الذين يدفعون مخالفيهم إلى أطراف النار وقلقها وهلعها، بل من المتصوّفة الذين يدفعون الناس إلى أطراف الجنة وحدودها وأشجارها وقطوفها الدانية، تأتي السكينة إلى الرفاعي من هذا الظلّ الظليلّ الوارف.

تأتي سكينة الرفاعي من صفة الرحمة الإلهية التي تحضر في مركز خطابه حضوراً وجودياً كلياً طاغياً على كلّ شيء، ومن هاجسه المعني بإنقاذ صورة الإنسان، وصورة الله التي تشكّلت في فضاء النزاعات والحروب والاستبداد وتفشي العبوديات، ورسم صورة تليق بعدالته ورحمته وجماله. يرى أن “صورة الله التي يرسمها المتكلّم هي التي يُشتقّ منها نمط التدين”[1]، الصورة الرحمانية تُنشئ تديناً رحمانياً، والصورة المنتقمة الجبّارة تنشئ تديناً انتقامياً متوحّشاً. لهذا يستظلّ الرفاعي بنفس الرحمن ورحمته كلاماً وحضوراً، وبه يدفع قراءاته وتأويلاته نحو الظلّ الظليل الذي في الجنة، لا اللهب اللهيب الذي في النار.

تأتي سكينة الرفاعيّ من شغفه بإيقاظ المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي في الدين. ينشدُ المتكلّم الذي فيه تذوّق جمال الله وما يتجلّى به في العالم من نور، لا كلام الذين يلوثون تجليات جماله ويحجبونها بلون الدم المسفوح، وحين تستيقظ معاني الجمال فيك، ترى الكون مظهراً لهذا الجمال، وترى صوره المتعددة تجليات لهذا الجمال، فكل صورة هي ظلّ من ظلال الله، والكون هو مجموع هذه الصور والتجليات، هو دخول ظلال الصور في ظلال بعضها، وإضافة بعضها إلى بعض، وهو اكتمال بعضها بالبعض الآخر.

 تأتي سكينة الرفاعي من تقبل الفِرق باعتبارها ظلالاً، لا من صراع الفرق باعتبارها ضلالاً. السكينة طمأنينة نجاة الفرق على اختلاف الطرق لا الفرقة الناجية.

 حين يسكن فيك هذا الجمال، تملأ السكينة قلبك، ولا يعود للقبح مكاناً فيه، ولا الكراهية ولا الخصومة ولا التنابذ والتقاتل، فالجمال والقبح لا يجتمعان في قلب واحد، وعندما يسطع الجمال على القلب يتبدّد كل ظلام، وتنشرح الروح بالاستنارة الروحية.

تأتي سكينة الرفاعي من اختياره أن يكون من العِباد لا من العبيد، العباد الذين يبحثون عن الفضيلة والكمال الروحي والأخلاقي، لا خوفاً من النار ولا طمعاً في الجنّة كما يفعل العبيد المتنسكّون، بل لأنهم لا يقبلون لأنفسهم إلا أن يكونوا أحراراً أخلاقيين إنسانيين، والحرية كما يراها الرفاعي أشقّ من العبودية، وأكثر ألماً منها، لكنها تتيح للروح أن تتنفّس عبيرها الخاص. حرية العابد تفتح ضميره الإنساني على الفضيلة “ضميري الديني يتمثل في هذه العناصر الثلاثة المتضامنة: الإيمان، الاخلاق، والانسانية”[2]. الفضيلة ليست تنسّكاً محزوزاً بالخوف، لا الخوف من المطلق، ولا الخوف من الذين يعتنقون أدياناً أخرى لا تتفق مع معتقدك. الخوف ارتباك لا يتّسق مع سكينة النفس ولا سلامها الداخلي. السكينة صفو داخلي، ثقة في المطلق وارتياح حرّ. إذا تحررت من خوفك فأنت في سكينة، ليست الجنّة والنار ما تحددان للعابد معيار الصواب والخطأ، بل الفضيلة والحكمة التي تشرق بالنفس وتهذب الروح.

تأتي سكينة الرفاعي من تحرّره من رسم الجماعات وثقل تكوينها فيه، استنقاذ نفسه من هيمنتها على عقله وفكره ووجوده، مغادرته وهم حقيقتها المطلقة، تمرده على قوالبها التي استهدفت تحديد مساراته وخياراته وعلاقاته، استنقذ ذاته الفردية من أن تبتلعها الذات الجماعية “هذه الجماعات تهتم بكل شيء خارج الذات، فيما تعدّ الاهتمام بالذات أنانية وتفاهة ومروقاً عن الجماعة وانحرفاً عن الوظيفة العظمى في إنقاذ الجماهير وخلاصها”[3].

تبدأ السكينة من حيث ينتهي رسم هذه الفرق والجماعات فيك، ويحلّ مكانها رسم الله فيك، حين تفتح أسئلتك على وجودك، وعلى فيض الله فيك، حين تعرف نفسك فتعرف الله، حين ترى نفسك بطبيعتها بنواقصها بعيوبها بضعفها بتناقضات الإنسان فيها، حين تصير لديك شجاعة أن ترويها وأن تعرّيها وأن تدرّبها وتربيها، “أعيش سلاماً روحياً لم أظفر به إلاّ بمشقّة بالغة، ومراجعة نقدية قاسية لتجاربي ومواقفي وأفكاري، أعانني عليه تدريبي لذاتي على الاعتراف بعجزي والبوح بضعفي البشري والجهر بفضح أخطائي والإعلان عن تناقضات ومفارقات سلوكي”[4].  هنا تحلّ السكينة في القلب، وينفتح المعنى الذي تضيق به العبارة، وتتسع له الروح.

أختم بعبارة جميلة لأبي حيان التوحيدي عن السكينة في كتابه الإمتاع والمؤانسة، قد رأيتها حاضرة في سكينة الرفاعي، معبّرة عنها، يقول التوحيدي: “إنما يشع من هذه السكينة على قدر ما استودع صاحبها من نور العقل، وقبس النفس، وهبة الطبيعة، وصحة المزاج، وحسن الاختيار، واعتدال الأفعال، وصلاح العادة، وصحة الفكرة، وصواب القول، وطهارة السرّ، ومساواته للعلانية، وغلبته بالتوحّد، وانتظام كلّ صادر منه ووارد عليه”[5].

*    أديبة وناقدة من البحرين.
[1] عبد الجبار الرفاعي. مقدّمة في علم الكلام الجديد. ص 9.
[2] عبد الجبار الرفاعي. الدين والظمأ الأنطولوجي. ص 71
[3] عبد الجبار الرفاعي. الدين والظمأ الأنطولوجي. ص 30
[4] عبد الجبار الرفاعي. الدين والظمأ الأنطولوجي. ص 75
[5] أبو حيان التوحيدي. الامتاع والمؤانسة. الليلة الرابعة عشر. ص 203

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *