في الحاجة إلى إنسانية إيمانية… حوار مع د. عبد الجبار الرفاعي
مايو 6, 2017
خاص- ثقافات
*حاوره: نبيل علي صالح
س1: فضيلة الدكتور عبد الجبار الرفاعي، كيفَ تفهمون فكرة أو مصطلح “الأنسنة”.. “أنسنة الدين” ثقافياً ودينياً وإنسانياً؟
جواب: يحيلنا مفهوم “أنسنة الدين” إلى تحديد ما نريده من “الانسان والدين”، إذ يختلف مفهوم “الانسان” وهكذا مفهوم “الدين” حسب السياقات التي نفهمه في فضائها، والمرجعيات التي يحيل اليها، والرؤية للعالم التي نتبناها.
ربما يشي استعمال مصطلح “أنسنة الدين” بتفسير وضعي للدين، يفهم الدين بوصفه ظاهرة ينتجها الانسان، وهو كما اشتهر تفسيره لدى مجموعة من الفلاسفة والمفكرين والعلماء الغربيين، إذ قدموا تفسيرات وضعية متنوعة للدين، كان فيها الدين لديهم تعبيراً عن اغتراب الانسان الكوني، أو خوفه، أو جهله، أو أنه ضرب من المرض النفسي”الوهم”، أو أنه مرحلة من مراحل تطور الوعي البشري يغادرها المجتمع لحظة ينتقل إلى رتبة أنضج وأكمل من الوعي، أو أنه تبرير للاضطهاد والتعسف في التوزيع والاستغلال الاقتصادي الذي تتعرض له الطبقة العاملة ومن ثم تخديرها. هذه التفسيرات وغيرها تنزع إلى فهم الدين وكأنه بمثابة الفقر أو الجهل أو المرض أو غير ذلك من الظواهر السائدة في الاجتماع البشري، بينما يتطلب الدين تفسيراً أبعد مدى مما ذهبت اليه كل تلك التفسيرات.
الانسان هو الكائن الوحيد في هذا العالم الذي لا يكتفي بوجوده الخاص، لذلك يعمل دائما على توسعة ذلك الوجود واثرائه، من هنا يحتاج كل شخص لما يتخطى ذاتَه المحدودة، وبقطع النظر عما يعتقد به، سواء كان أيديولوجيا، أو ميثولوجيا، أو فكرة، أو أمة، أو أثنية، أو بطلاً، أو وطناً، أو ملحمة، أو سردية، وغيرها، هي كلها تنتمي إلى المتخيل الذي تنسجه كل جماعة لنفسها، ويتحقق فيه كل فرد ينتمي اليها، فيشعر أن وجوده الفردي يترسخ بمزيد من الوجود. بمعنى أن لدى كل فرد حاجة اضافية للوجود عابرة لوجوده الشخصي المحدود، تتسع لها كينونته تبعاً لسعيه للحضور في العالم، وتلك الحاجة لا تقف عند حد مادام يسعى للاغتراف من وجود مطلق لا محدود.
الدين هو المثال الأوضح والأعمق للمكون الأنطولوجي الذي يمثل أغزر منبع يستقي منه المتخيل، ويصوغ شكل وجوده، ويتكرس به وجود الكائن البشري الذي ينتمي لذلك المجتمع.
أما الانسان فهو الكائن الأغرب والأعمق والأعقد في هذا العالم، وعلى حد تعبير نيتشه: “إن كل انسان اعجوبة فريدة”. الكائن البشري بطبيعته عميق جداً، ومتناقض أحياناً، يتغلب غالباً في طبيعته وحياته الشر على الخير. الحروب والصراعات لم تخلص هذا الكائن من الشر الذي يعبث في العالم. ربما ليس هناك دواء أنجع من الحب واثراء الحياة الروحية والأخلاقية يخفض الآثار الفتاكة للشر. وربما لا سبيل لتخفيف آلام الكراهية، ولا وسيلة لتقليل النتائج المرعبة للنزعة التدميرية لدى الكائن البشري سوى المزيد من الاستثمار في الحب، سواء بالكلمات الصادقة أو المواقف الأخلاقية أو الأفعال الجميلة، والاصرار على تجرع الصفح والغفران رغم مراراتهما.
منذ فجر الوعي البشري شغلت الانسان أسئلة مازالت وستلبث تتكرر كل يوم، تتمحور حول: المبدأ، والغاية، والمصير.كل هذه الأسئلة تنشد اكتشاف حقيقة الكائن البشري ومعنى حياته ومآلاته، والعالم الذي يسكن فيه، وماوراء هذا العالم.
في ضوء هذ الفهم للانسان والدين فما أعنيه بـ”أنسنة الدين”، ليس هو ما يذهب إليه بعض المفكرين من أن الدين ينبغي أن يُدرس كأية ظاهرة بشرية مقطوعة الصلة عمّا عدا البشر، ولا تبرير أو تفسير لوجودها وتطورها خارج عوالم البشر العينية، وكأن الدين كما أية ظاهرة بشرية يمكن أن نفهمها في اطار ما نفهم سواها من ظواهر.
لا أتمنى أن يتبادر الى الذهن مما ذكرت أني أدعو لدراسة الدين وفهمه خارج اطار العقل والعلم والمعرفة والخبرة البشرية، ذلك أن أي فهم بشري لا يتحقق خارج ذلك. كذلك لا أريد أن أذهب إلى القول بتصويب كل دين والإعلان عن أن كل دين مصدره وحياني غيبي، بل أريد القول إن الدينَ توقٌ بشري أنطولوجي عميق للروح كي تلتحم بمطلق يكرّسها ويسمو بها، سواء كان هذا المطلق هو الله، أو مطلق تنسجه المخيلة كما أشرنا. وهذا التوق هو ما يفسّر لنا ما لا يقبل التفسير المنطقي من تفشي صور زائفة للمطلق، يستلهمها كثيرون كدوافع مجنونة في العمليات الانتحارية، وإنتاج الأوهام والخرافات.
“أنسنة الدين” التي أدعو لها هي نمط حضور لـ”الإله الروحي الأخلاقي” في حياة الانسان، وبكلمة أخرى هي “تدين انساني روحاني أخلاقي”، لا يقطع الصلة بالله ويجعل الدين ظاهرة بشرية خالصة، مثلما لا يتجاهل الطبيعة البشرية، ويتعاطى مع الانسان وكأنه روح مجرد فقط، وانما يوظف كل المعطيات المتاحة للعلم والمعرفة والخبرة في الفهم الصحيح لهذه الطبيعة، وهو كما يسعى لتأمين احتياجاتها الجسدية في سياق هذا الفهم، لا ينسى احتياجاتها العابرة للجسد من حاجة لمعننة الحياة، وتنمية القدرة على التغلب على القلق الوجودي، وتزويد الانسان بما يخفف عنه آلام الحياة ويشفيه من مواجعها، ويخلصه من التشاؤم والعدمية في عالمه البشري الذي تتكشف له فيه على الدوام مواقف تشي بالعبثية واللامعنى.
أنسنة الدين عندي بمعنى “انسانية ايمانية، وايمانية انسانية”، وهي لا تتطابق و”الانسانية الغير ايمانية” التي يتحدث عنها بعض المفكرين في الغرب والشرق، وتتمحور فيها الأنسنة على مركزية الانسان، وتفضي إلى نسيان الله وتأليه الانسان.
ضرورة اقتران الانسانية بالايمان يعود إلى أن الكائن البشري لن يستغني عن الحياة الروحية، لذلك كثيراً ما يقود نسيان الله إلى ضياع الكائن البشري، وتخبطه في روحانيات مستلبة زائفة لا تخلو من وثنيات وخرافات غرائبية، وممارسات هي أقرب للسحر والشعوذة، كعبادة البشر وتأليههم، أو الانصياع لضروب من روحانيات عبثية، والشغف ببعض أنواع الارتياض العنيف، أو اعتزال الحياة والهروب من الأوطان إلى غابات وكهوف وزوايا نائية، والتسليم الأعمى لدجالين ومشعوذين يزعمون أنهم مُلهِمون حاذقون في إيقاد جذوة الحياة الروحية.
أما ضرورة اقتران الايمان بالانسانية فيعود إلى الحاجة للخلاص من القراءة الخرافية للنصوص الدينية والقراءة العنيفة لهذه النصوص. القراءة العنيفة تفتك بالانسان وتهدر كرامته، وتبدد الايمان، والقراءة الخرافية لا تخلو من وثنية، وكل وثنية لا تهدر كرامة الانسان، وتبدد المضمون الروحي الأخلاقي للدين فحسب، بل يحتجب معها الله عن العالم، وتنتصب بديلاً عنه تعالى أوثان تتعدد بعدد تلك الخرافات، وهذه الأوثان ليست إلاّ آلهة زائفة تستعبد الانسان، بعد أن تشل عقله، وتمزق روحه، وتبذر حقوقه، وتحجبه عن الإله الرحماني الأخلاقي.
مفهوم التدين في “الانسانية الايمانية” غير التدين المستلبة فيه إنسانية الانسان. أما الايمان في “الانسانية الايمانية” فهو الايمان الحر الذي يقترن فيه الايمان والتدين دائماً بالحرية وليس بالاسترقاق والعبودية. في “الانسانية الايمانية” يكون إيماني حيث تكون حريتي، أي أن الصلة بالله هنا صلة عضوية لا تتأسس على الرضوخ والانسحاق وإهدار الكرامة البشرية، بل تتأسس على الحريات والحقوق البشرية.
الدفاع عن الله في “الانسانية الايمانية” يبدأ بالدفاع عن كرامة الانسان، وصيانة حقوقه، وحماية حرياته. إذ لا يمر الطريق إلى الله إلاّ عبر احترام الانسان ورعايته وتكريمه.
الانسانية الايمانية يتحد فيها مسار الايمان بمسار حماية كرامة الانسان واحترام حقوقه وحرياته، بل أن الايمان إنما يتحقق ويتكرس فيها بالغيرة والشفقة على الانسان. إنها أنسنة للانسان بحمايته من لا انسانية الانسان، وتحرير الانسان من تعصب وعدوان وعنف الانسان.
الانسانية الايمانية يحيل معناها إلى أن “الله واحد، وأيضاً الانسان واحد”، لذلك يكتسب الانسان حقوقه الطبيعية من كونه انساناً لا غير. وعلى هذا الأساس يبتني مفهوم المواطنة التي ينبثق منها استحقاق كل مواطن لحقوقه المدنية والسياسية. في سياق هذا الفهم تكتسب المساواة قيمتها من كونها مساواة لا غير. وتكتسب الحرية قيمتها من كونها حرية لا غير. وتكتسب المحبة قيمتها من كونها محبة لا غير. وتكتسب الرحمة قيمتها من كونها رحمة لا غير. ذلك أن المساواة والحرية والمحبة والرحمة قيم كونية عابرة للمعتقدات والأثنيات والثقافات والهويات، والزمان والمكان، والتاريخ والجغرافيا.
ولو لم يستمد الكائن البشري حقوقه من كونه انساناً، وانما يستمدها من انتمائه إلى هوية وثقافة خاصة، وقتئذ يتضخم ماهو لاإنساني ليبدد ماهو انساني. الأيديولوجيا لا تعبأ كثيراً بإنسانية الانسان عندما تُعلي عليها الهوية والحقوق الثقافية الخاصة، فتنقلب الهوية في مفهومها إلى لاإنسانية تُسجَن فيها القيم الانسانية الكونية.
س2: ما دوافع وأسباب حاجتنا كاجتماع ديني لإعادة تسليط الضّوء على مسألة “إنسانية” الدين الإسلامي، أو إعادة اكتشاف جذره القيمي الإنساني مع كونه تأسّس -في عمقه الذاتي وأصالته الموضوعية- على قيم ومبادئ إنسانية استجابت لها وآمنت ودانت بها أمم وشعوب وحضارات إنسانية كثيرة على مدى التاريخ كله؟
جواب: كان النص الديني المؤسس في الاسلام وما زال، كما هي نصوص الأديان الأخرى، ملهماً لسلسلة من التأويلات والتفسيرات المختلفة، التي أفرزتها العصور المتوالية للاجتماع الاسلامي، وما استبدّ فيها من صراعات الاستحواذ على السلطة السياسية والدينية، وأنماط الثقافات الموروثة لدى الشعوب المسلمة، وطبيعة الظروف الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والتقاليد المتداولة لديها.
تراكم عبر الزمان كم هائل من التأويلات والتفسيرات التي نسميها علوماً أو معارف إسلامية أو تراثاً إسلامياً، وأضحت منجماً يموّن الحياة الدينية في الاسلام بكل ما تتطلبه. وغيبت تلك التأويلات والتفسيرات بالتدريج القرآن الكريم، وغرق التلامذة والأساتذة في الحواضر والمدارس والحوزات الدينية في طبقاتها المتراكمة. معظم الدارسين نسوا أن كل هذه القراءات هي هوامش وشروح واجتهادات في فهم النص، وهي ليست إلاّ تمثلات بشرية للقرآن تنتمي للتاريخ، حدودها الزمان والمكان واللغة وثقافة المجتمع، وكل ما كان يسود العصر الذي أُنتجت في فضائه.
“نسيان الانسان” ظاهرة استبدت في حقول عديدة من تراثنا، نراها في الكثير مما أنجزه المحدّثون والمفسرون والمتكلمون والفقهاء وغيرهم، وساعدت هذه الظاهرة في تكريس قراءة عنيفة مغلقة للنصوص، لا تنفي الانسان باسم الله فقط، بل تنفي الحياة باسم الآخرة، وتنفي العمران البشري باسم الاستخلاف، وتنفي الروح باسم التكليف، وتنفي الأخلاق باسم الفقه، وتنفي الحريات باسم العبودية لله، وتنفي حقوق الانسان باسم حقوق الله، وتمحو الصورة الروحانية الأخلاقية الجمالية لله باسم العودة للسلف ومحاربة البدع والمستحدثات.
السلفية بوصفها نمطاً في التفكير والتعبير والسلوك شائعة في كل الأديان والثقافات، لكنها اجتاحت بشكل مريع الحياة الدينية لعالم الاسلام في هذا العصر. لم تتوقف الدعوة السلفية عند المؤسسات الدينية ورجال الدين، بل تبناها بعض المفكرين والباحثين المعاصرين في عالم الاسلام، ممن برعوا في دراسة وتوظيف الاتجاهات والمناهج والمقولات الجديدة في الفلسفة والعلوم الانسانية وعلوم التأويل، بغية تبرير السلفية والعمل على اغواء الشباب وفتنتهم بها.
السلفية على الضد من “الانسانية الايمانية”، ذلك إنها نمط تفكير يعاند التاريخ، ويظل يكرر ما كان كما كان. تتشبث السلفية دائماً بمقولات لازمانية لامكانية لاتاريخية، لذلك تقاوم بشدة كل تساؤل، وتناهض أية دعوة للمراجعة والنقد والغربلة والتمحيص. “الانسانية الايمانية” تواكب الواقع، وتصغي لايقاع حركة التاريخ، وتسعى لانتاج نمط ايمان يتناغم وذلك الايقاع، وتدين يخلص المتدين من الاغتراب عن عصره ومحيطه. ولا تنجز ذلك إلاّ بعبور الماضي، والخلاص من صور الإله العنيف الدموي المحارب.
اكتشافُ المنابع الانسانية في الدين محاولةٌ لإحياء الصورة الروحانية الأخلاقية الجمالية لله، والتحرر من كل الصور النمطية للإله العنيف الدموي المحارب التي أنتجتها العصور المختلفة، وأضحت فيها صورة الله تُختزل في سلطة غاشمة مستبدة لا يهمها الانسان، لذلك ألغت الحدود بل دمجت الايمان بالله بطاعة السلطان والرضوخ له، فاقترنت صورةُ الايمان والتدين باسترقاق السلطان للبشر، وعدم الاكتراث بكرامتهم وحرياتهم وحقوقهم. رسوخ تلك الصورة وتفشيها في مقولات كلامية وفتاوى فقهية أسهم بتشكيل أرضية لولادة داعش وشقيقاتها اليوم، وستتناسل على الدوام منها داعشيات. ومازال الكثير من شباب المسلمين لا يعرفون عن الاسلام سوى ما كتبه أولئك المؤلفون الذين رسموا صورة الله بألوان الدم والقتل المثيرة الصادمة.
س3: باعتبار أنّ الإنسان غاية الدين، ومحور الفاعلية الحضارية، مامواقع الأنسنة في الفكر الديني (الإٍسلامي) على مستوى التشريع والخطاب الفكري، وعلى مستوى منظومات الحقوق الفردية والمجتمعية؟ ثم أليس لفكرة الأنسنة (أنسنة الدّين) بحدّ ذاتها تلك الفاعلية العملية والميدان الخصب للتقريب بين العلوم الإنسانيَّة والعلوم الشَّرعيّة؟!!.
جواب: ليس بوسعنا إنقاذ النزعة الانسانية في الدين من دون تجسير العلاقة بين علوم الدين و علوم ومعارف الانسان المختلفة، ففي الأديان الوحيانية فضلاً عن سواها لا يتحقق أي دين منها خارج فضاء حياة الكائن البشري وأنماط تعاطيه مع ما حوله وأساليب عيشه، لذلك نجد كل تمثلات الأديان أرضية بشرية تتجسد في سلوك الانسان ومنجزاته ومكاسبه المتنوعة، وترتسم في تجليات إبداع عقله، وما ترتوي به أشواق قلبه، وما تسكن به روحه. لكننا لم نزل حتى اليوم نرفض بشدة توظيف تلك العلوم في دراسة وتحليل وتفسير الظواهر والتعبيرات الدينية في الحياة الشخصية والاجتماعية، ونتهم أية محاولة تدعو أو تعمل على ذلك بالمروق عن الدين. المؤسف أنه لم تقتصر هذه القطيعة على علوم الدين بل تسربت إلى كافة مجالات حياتنا الأخرى الثقافية والاقتصادية والسياسية وغيرها.
الطلاق الذي ورثناه في عالم الاسلام منذ عصور الانحطاط بين علوم الدين وعلوم الدنيا كما يسميها القدماء، وما تركته الاتجاهات النصوصية للمحدثين والظاهريين والاخباريين سنة وشيعة، والمواقف المناهضة للتفكير الفلسفي والكلامي في الإسلام، قادنا إلى دروب مسدودة يكرر فيها حاضرُنا ماضينا، فلا نبدأ خطوة فيها إلاّ حيث ننتهي ولا ننتهي إلاّ حيث نبدأ.
هذا الطلاق ولّد انطواءً وحساسية سلبية حيال العلوم والمعارف والخبرات البشرية الكونية أوهمتنا بالاكتفاء بما لدينا، وألا حاجة لنا بكل ما يبدعه الانسان، وبمرور الزمان تحولت هذه الحساسية إلى ممانعة مرضية غاطسة في اللاوعي الجمعي، تبرز أحياناً على شكل فوبيا حيال كل ما لا نعرفه وما لم نألفه في ميراثنا من قبل مما يبتكره ويكتشفه غيرنا. ويعود إلى تلك الممانعة المرضية الكثير من إخفاق عالم الاسلام وضآلة مساهمته في إنتاج ما يتناسب وحجمه الديمغرافي في الفلسفة والعلوم والمعارف المتنوعة الحديثة. وإلا بماذا نعلل هذا الاخفاق الحضاري؟ وكيف نفهم التهافت بين الشعور بالتفوق على الأديان والثقافات الذي يغذينا به تراثنا من جهة، والعجز عن الاسهام في صناعة ماهو جميل وخلّاق في العالم اليوم من جهة أخرى؟ وكيف نفسّر الغياب شبه التام لما يقارب مليار ونصف انسان عن أعياد نوبل منذ أكثر من قرن، بينما تحضر مجتمعات صغيرة أخرى بكثافة وفاعلية في هذه الأعياد؟
ولعلنا نعثر في تلك الممانعة المرضية على معظم العوامل الكامنة خلف إجهاض مبادرات تحديث التفكير الديني في الاسلام منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم، وبلوغها غايات لا تتطابق ومنطق البدايات وربما تنقضها أحياناً. س4: من المعروف أنّ مرجعية الدين تستند إلى مجموعة قيم ونصوص معيارية ثابتة، تبنى عليها وتنشأ في ضوئها تجارب دينية تاريخية.. والواضح أن كثيرين يميزون ويفرقون بين صورة الدين الأصلية كما تمثله قيمه الذاتية القارّة، وبين ممارسات وأفعال الأتباع والمريدين، بما هي سلوكيات التدين الخاضع لتأثيرات اجتماعية ومتغيرات ثقافية وبيئية مجتمعية وتاريخية وغيرها… في رأيكم: هل من الصحيح والمنطقي والعقلاني والشرعي الفصل والتمييز بين مساحة الدين ومساحة التدين في علاقة الدين بالفرد والمجتمع طمعاً في أن يرتبط الناس بجوهر الدين بدل ارتباطهم بأنماط وتجارب دينية كامنة في الماضي وفي التاريخ، قد تكون لها سلبياتها وتعقيداتها وتجاربها المكلفة رمزياً ومادياً، خاصةً على مستوى ما نعيشه اليوم من هذا الدمج وعدم الفصل (المقصود!!) بين “إنسانية” الدين كقيمة ذاتية وبين سلوكيات من يدعي تمثيله والنطق باسمه من تيارات وجماعات التكفير والتطرف والإرهاب الديني؟
جواب: أعترف أن التمييز الذي نشدّد عليه صعب جداً بين الدين بوصفه ظمأً أنطولوجياً متجذراً في كينونة الكائن البشري، وحضور الدين وتمثلاته في حياة الفرد والجماعة الذي يحلله صديقنا المفكر المصري عبدالجواد ياسين بوصفه “تديناً”، ذلك أن حضور الدين في حياة الكائن البشري ليس سوى ما يظهر في الأفعال والمواقف المتنوعة لحياته، فكيف نفصل بين الانسان وفعله ومواقفه التي لا يحضر إلاّ بها في العالم.
تكرر هذا التمييز كثيراً بصياغات عديدة في أدبيات عصر النهضة، ومازلنا نبرر به كل سلوك خطأ يصدر عن شبابنا تجاه المجتمعات الأخرى حتى اليوم، فكلما صدر فعل لا أخلاقي ولا إنساني من شاب مسلم في الغرب والشرق نقول هذا فعل لا يمثلنا، ونبرر ذلك بالقول المكرر: إن “الدين غير المتدينين”، وإن “الاسلام غير المسلمين”. طالما ناقشني تلامذتي وبعض الشباب المتدين حول السلوك المتوحش للارهابيين المسلمين مثل انتحاريي داعش وغيرهم، ممن ينهلون من أعلام وفقهاء ومتكلمين ما زال ميراثهم حيّاً فاعلاً مؤثراً في تربية وتنشئة وتثقيف الشباب، تبجلهم وتحرص على نشر آثارهم جماعات ومؤسسات كبيرة، ويتخذون مؤلفات أولئك الأعلام وكتابات تلامذتهم أمس واليوم مرجعية لهم. وحين كنت أجيبهم بذلك الجواب المستهلك: “الدين غير التدين”، و”الاسلام غير المسلمين”، غالباً ما يسكتون، غير أن سكوتهم يشي باعتراض أقسى من الكلام، كما تلمح اليه النظرات الساخرة لعيونهم.
لا يمكننا وضع حدود صارمة بين الدين والتدين، ذلك أنه لا يوجد دين خارج حياة الانسان وتفكيره وتعبيره وسلوكه. الدين يتجسد عبر التاريخ في حياة الفرد والمجتمع تبعاً لطبيعة العمران “حسب تعبير ابن خلدون”، ولا يستقل عن ثقافة البشر وطبائعهم.
هنا ينبغي أن نعود إلى التعرف على أنماط تفسيرات النص الديني التي هي أولى أشكال تمثلات الدين في حياة الانسان، وهي المنبع الرئيس الذي تستقي منه سلوكيات ومواقف المؤمنين بالدين، ولا شك في أنها بأسرها تفسيرات تنتمي إلى إسلام التاريخ. تلك التفسيرات رسمت صورتَها الخاصة لله المحاكية لكل ظروف وملابسات الحياة السائدة في زمان ومكان وبيئة معينة، وهي غالباً صورة تُشرّع كل أشكال مناهضة العقل وقمع الايمان الحر، ومصادرة الحقوق والحريات، وتكرس أنواع الاستبداد والعبودية المعروفة في تاريخ مجتمعات عالم الاسلام.
وبمرور الزمان لا تمسي تلك التفسيرات للنص المقدس مقدسة فقط تستعصي على المراجعة والنقد والغربلة، بل غالباً ما يمسي مفسّر النص مقدساً أيضاً لا يخضع للمسائلة فيما يقول ويفعل. وهي ظاهرة بشرية عامة لا تختص بالنص الاسلامي المقدس، وانما استبدت في كل الأديان عبر التاريخ، لكن استطاعت بعض الأديان مثل المسيحية الحد منها، والعمل على التمييز وعدم الخلط بين مكانة مفسّر النص الديني والنص نفسه، إذ بدأت تعمل على وضع كل منهما في نصابه، منذ أن بدأت مع حركة الاصلاح الديني وتواصلت حتى الفاتيكان الثاني ١٩٦٢ – ١٩٦٥، لكنها للأسف مازالت ماثلة في عالم الاسلام حتى اليوم.
هنا تظهر الحاجة ماسة لتوظيف العلوم والمعارف والخبرات البشرية في قراءة وفهم النص المقدس، بغية اختراق الطبقات الكثيفة المتراكمة عليه عبر الزمان، والعمل على تحيينه واستحضاره، ليجيب عن أسئلة عصرنا، ويصغي لرهاناته، ويواكب إيقاع مشكلاته. وهي مشكلات فشلت الصورة النمطية لله المتوارثة من عصور الاستعباد في حلها، لذلك ينبغي أن نعمل على حضور صورة الله المغيَّبة عن العالم، تلك الصورة التي تنشد الحق والخير والرحمة والحب والجمال والسلام.
في ضوء هذه الصورة يمكن أن يظهر في حياتنا نموذج تدين لا يخاف العقل، ويتصالح مع كل زمان ومكان. تدين لا يطلب من المسلم مواجهة العالم الذي يعيش فيه وإعلان الحرب على البشرية، ولا يتمسك بمنطق أحادي يرفض كل تطور. تدين ليس مريضاً بشيزوفرينا من الآخر، تدين ليس حذراً أو وجلاً من مكاسب الغير في العلوم والمعارف والتكنولوجيا المتنوعة.
س5: في ضوء التحديات المثارة أمام الإسلام (كدين إنساني بطبيعة الحال) وبعد الذي جرى من هيمنة تيارات وتنظيمات الإسلام الجهادي الراديكالي (من جماعات القاعدة وأخواتها وداعش ومكوناتها وتحزباتها) التي قامت بأعمال متوحشة منافية للقيمة الإنسانية، وما أملى ذلك من تساؤلات وفتح باب الاستفسارات والأسئلة المصيرية عن الدين ذاته.. ما دوركم كمثقف (ديني) على مستوى إحياء نزعة الأنسنة الإسلامية كمطلب جدّي ملحّ ليس فقط على صعيد توكيد حقيقة أن الاكتراث بالشاغل الإنساني لم يكن يوماً بعيداً عن فضاء التفكير والنقاش العربي والإسلامي، بل أيضاً على صعيد تفعيل دور وحضور المبدأ الإنساني كمبدأ إسلامي جوهري لا بدّ من تفعيله وإعادة الاعتبار إليه عملياً؟
جواب: هناك مبالغات وتهويل ورومانسية في فهم دور الفكر والمفكر، والثقافة والمثقف، خاصة المثقف الديني وتأثيره في عملية التغيير الاجتماعي. وبسبب هذا الفهم الملتبس أصبح المثقفون متهمون أو خونة كما يقول الأديب الايراني جلال آل أحمد، أو المثقفون مناضلون تبعاً لما يراه اليسار، أو المثقفون فدائيون كما يذهب الراديكاليون منهم، أو المثقفون مجاهدون وشهداء كما تتحدث بعض أدبيات الجماعات الدينية.
لم يعد المفكر أو المثقف أو أي فرد مهما كان صانعَ العالم، ولم تعد حركة التاريخ مُرتَهنة بالأبطال، ولم يعد تغيير المجتمع في عالمنا اليوم متوقفاً على الفكر والثقافة فقط بمعناها القديم، بل إن تطور العلوم والمعارف البشرية وضع معادلةَ التغيير في مسار يواكب ما استجدّ من تطور.
تكنولوجيا النانو، والهندسة الوراثية، وتكنولوجيا المعلومات والأنترنيت والاتصالات، كل يوم تنجز ما لبث الكثير منه حتى الأمس أحلاماً وربما خيالاً علمياً. لا أظن أن شخصاً اليوم لم تحدث تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال الجديدة والأنترنيت تأثيراً في كيفية حياته. الأسبوع الماضي كنت في رحلة برية من بغداد إلى جنوب العراق، سلكت فيها طريقاً يمر عبر مراعٍ وأراض زراعية، فهالني حضور الهواتف النقالة لدى الرعاة والفلاحين في قرى نائية مهملة مبعثرة على مساحات زراعية شاسعة، حتى الرعاة والفلاحون الأميون اخترقت حياتَهم وسائلُ الاتصال الحديثة. وطبقاً لما اكتشفه المعلّم هيدغر فإن دخول أية تقنية جديدة في حياة الانسان تتحوّل تبعاً لها رؤيته للعالم وطبيعة حياته. التقنية ليست أدوات وآلات وأجهزة وأشياء محايدة كما كنا نعتقد، وإنما هي كيفية حضور للكائن البشري في العالم، يحاكي هذا الحضور كيفية هذه التقنية ويتناغم معها.
بموازاة تقنية المعلومات ووسائل الاتصال الجديدة هناك تكنولوجيا الهندسة الوراثية التي تعدنا بما لم تعدنا به علوم ومعارف الانسان من قبل. ذلك أنها تتدخل في الخارطة الوراثية للكائن البشري، وتستطيع أن تجري تعديلاً على الشفرة الوراثية. وفي ذلك ما ينبيء بإمكانية التحول في شيء من الصفات الثابتة للطبيعة البشرية.
أتمنى أن نقرأ كتاب “فيزياء المستحيل” للفيزيائي الأمريكي من أصل ياباني الحائز على جائزة نوبل ميشيو كاكو، وهكذا كتابه الهام الآخر “رؤى مستقبلية: كيف سيغير العلم مستقبلنا في القرن الواحد والعشرين” لنفتح نافذة على صورة الغد، وما يعدنا به العلم من انتقال إلى أساليب أخرى في العيش مغايرة لما نحن فيه.
“المثقف الديني” كما أفهمه هو الباحث المستوعب للتراث، والخبير براهن العلوم الانسانية، والمهتم بدراسة الدين وتقديم فهم ونقد لتجلياته في الحياة الشخصية والاجتماعية، وهو فهم لا يتطابق بالضرورة مع كل ما هو موروث. مثل هذا الباحث أعزل لا يحميه أحد عادة، لأنه لا يعزف ألحان أية سلطة سياسية أو دينية، ولا يحظى برعاية أية مؤسسة أو جهة اجتماعية أو منظمة حزبية. بل تتحفظ على منجزه وربما تحاربه المؤسسات التقليدية، والجماعات الدينية، والتنظيمات الحزبية، ذلك أن التفسير المختلف الذي ينجزه للظواهر الدينية يستفز الكل، والناس بطبيعتهم يقلقهم ويخيفهم كل جديد ينشد الالتحاق بالعصر ومغادرة الموروث.
رغم أن المثقف الديني لا يماليء أية سلطة، غير أن البروليتاريا الرثة، وبعض المثقفين المغرمين بشعارات اليسار، والمهرجين، لا يرضيهم ذلك، فيطالبونه بكل ما يحلمون به ويتمنونه، ويترقبون منه أن يكون بديلاً لمؤسسات الدولة والمجتمع الثقافية والاعلامية والسياسية والاقتصادية، بل يريدون من هذا المثقف أن يحمل بندقيته ويقاتل، مثلما فعل ريجيس دوبريه الذي توجّه إلى بوليفيا ليلتحق بالمناضل الشهير تشي غيفارا، وإلاّ فهو في نظرهم قاعد جبان متهم، وإن كانت جهوده متواصلة في التربية والتعليم والبحث والكتابة والنشر. ولا يعبأون بما يكابده في تأمين رزقه، وحيرته في تأمين الحد الأدنى لأمنه الشخصي ومصير أسرته.
المثقف الديني وكل مثقف حرّ ليس مبشراً أو داعية أو مناضلاً أو فدائياً. إنه باحث مكوّن تكويناً جاداً في تفسير النص الديني، مستوعباً للتراث، ومواكباً للعلوم الانسانية، يعمل على فهم الواقع وتفسير تجليات الدين في حياة الانسان. المثقف الديني ليس مسكوناً بأدلجة الدين، وليس صاحب دعوة تبشيرية. تتلخص مهمته بتفسير العالم، وهو يعرف أن تفسير العالم مقدمة لتغييره، إذ يخفق كل من يحاول تغيير العالم قبل تفسيره.
تتمحور جهود المثقف الديني على تفسير ونقد ما يتفشى في مجتمعاتنا اليوم من قراءة خرافية للنصوص الدينية، كما يعمل على فهم وتفكيك القراءة الفاشية المتوحشة لهذه النصوص.
ويهتم هذا المثقف أيضاً بتكريس الحياة الروحية، ويسعى لبعث وتنمية المواقف الأخلاقية، بوصفها تجربة للحياة نعيشها، وتجربة للحقيقة نتذوقها. ويشرح كيف أن تأثير هذه المواقف متبادل في حياتنا الشخصية، وكيف تمر الأخلاق بدورة انتاج تكون فيها هي الأثر وهي المؤثر، فكما ننتج نحن المواقف الأخلاقية ونعيشها ونتذوقها تعيد هي انتاج شخصياتنا أخلاقياً. الأخلاق نسيج منظومة علائقية ينتج بعضها بعضاً، كل موقف أخلاقي تغتني به شخصياتنا ويثريها وينقلنا إلى مرتبة أسمى في سلم التكامل. وهكذا كلما تسامى الانسان أصبحت بصمة أقوله وأفعاله أخلاقية، وصارت الأخلاق يصنعها وتصنعه، يرفدها وترفده، تصونه ويصونها، تحميه ويحميها.
س6: يرى كثير من نخب الحداثة الدينية العربية كمحمد أركون ونصر حامد أبو زيد وعبدالمجيد الشرفي وغيرهم، أن موضوعة “الأنسنة” كاستراتيجية نقدية تكرس كل القيّم التي تعيد الاعتبار للإنسان؛ كالعقلانية، والحرية، والديمقراطية، والمساواة… بعد أن سلبها منه اللاهوت أو السلطة الكهنوتية التي تنطق وتقرّر باسم الإله دائماً على حد تعبيرهم.. ما تقييمكم لما سجّلته المدونة النقدية الحداثية العربية من نقد للخطاب الديني الإسلامي التقليدي والمعاصر خاصّة على مستوى انهماكه بالحديث النظري عن أهمية وضرورة التجديد الديني نظرياً، وما سجلته أيضاً تلك المدونة النقدية من تفكيك لمضامينه المعرفية، ومن تحليل لطبيعة العلاقة بين هذا العقل الحداثي وبنية الخطاب الديني، وطموحاته الاستراتيجية الأنسنية التي استهدفت (وتستهدف) ترويض جموحه “الديني”، وتفكيك سلطته النسقية، واستبطان مكبوته التخييلي، ومخزونه الرمزي، وفضح تلاعباته الكهنوتية ومراوغاته الإيديولوجية، إذا جاز لنا التعبير؟
جواب: الدين خارج التفكير عند الكثير من الباحثين والدارسين والأدباء والمثقفين في بلادنا. التفكير والتعبير والكتابة الجديدة في قضايا الدين ضريبتها موجعة. مسار المفكر والباحث المهتم ببحث أسئلة الدين واشكاليات المعرفة الدينية اليوم لا يخلو من مغامرة. إنه يجازف لحظة تقديم فهم مختلف في تحليل طبيعة المعرفة الدينية ودراسة تعبيرات الدين في الحياة، لأنه يتوكأ على مناهج وأدوات ليست متداولة لقراءة النص الديني، لا تكرر ما هو شائع وموروث. لا يصح وضع المفكر والباحث في الدين في سلة واحدة مع غيره من المفكرين والأدباء والنقاد والكتّاب المهتمين بحقول أخرى خارج الدين وقضاياه، ممن لا يواجهون مخاطر ومعاناة ومتاعب مثلما يواجهه من يفكر في الدين خارج السياق الموروث.
محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وعبدالمجيد الشرفي وغيرهم مفكرون تتمحور جهودهم على دراسة تعبيرات الدين في تاريخ الاجتماع الاسلامي، وبيان أنماط الايمان والتجارب الدينية، وحقيقة الوحي وكيفية تشكل النص الديني وتدوينه، وماهية المعرفة الدينية وعلاقتها العضوية بالزمان والمكان وثقافة العصر المنتجة فيه، واستجابة النص لرهانات العصر واستفهاماته.
قدّم هؤلاء المفكرون وتلامذتهم وغيرهم بالعربية سلسلة أبحاث تناولت بالتحليل والنقد مدونات التفسير وعلوم القرآن والحديث وعلومه والفقه وأصوله وعلم الكلام وأصول الدين والفلسفة والتصوف والسيرة والتاريخ. للمرة الأولى مع هذه الأبحاث تنتقل الدراسات الدينية إلى أفق جديد، يتجاوز دراسة الدين والتراث بأدوات تراثية، ويتوكأ على توظيف معارف وعلوم الانسان والتأويل وفلسفة الدين في دراسة إمكانات حضور المعنى الديني في حياة الانسان اليوم، واكتشاف حدود المقدس والدنيوي.
بغض النظر عن كفاءة ونجاح كل هذه الجهود، لكنها محاولات جادة لتدشين مسار بديل للدراسات الدينية يسعى لإخراجها من المسارات التكرارية الدائرية المسدودة، عبر ردم الفجوة بين علوم ومعارف الدين وعلوم ومعارف الانسان المختلفة، بوصف الأخيرة تدرس الظواهر الدينية وتجليات النص الديني في الحياة، وهي ظواهر بشرية يمكن فهمها في إطار المعطيات المتنوعة لعلوم ومعارف الانسان.
المؤسف أن هناك الكثير من الارتياب والتشكيك بجدوى هذا النوع من الدراسات بالعربية، وتعرضها وأصحابها لأحكام قدحية قاسية، تشكك في مشروعيتها، وقد تصل حد التكفير والتفسيق والتبديع أحياناً. مع أن هذا الاتجاه في الدراسات الدينية ظهر في الغرب منذ عدة قرون. وسبقنا اليه مفكرون دينيون في الهند وباكستان وايران وغيرها من بلاد الاسلام غير العربية.
في ايران مثلاً تكتسب جهود المفكر الديني أهميةً فائقة لدى جماعة من رجال الدين في الحوزة، ويصغي اليها الكثير من الأكاديميين وتلامذة الجامعات والنخب في البلاد، وتحدث بعض الآراء جدلاً ونقاشاً واسعاً، لا يتوقف عند الورق بل يتخطاه لمنابر الخطابة وحلقات الدرس الحوزوي والفضاء الثقافي العام. ولا يعتقد معظم النخب أن مثل هذه الآراء تنقض تدينهم أو تمحق إيمانهم. المفكر الديني الايراني كائن روحاني يحرص على تكريس حياته عبر أداء الطقوس، لذلك يشعر من يتضامن مع طروحاته أنه مؤمن. مع إنْ رؤيته للعالم لا تتطابق مع ماهو شائع، لكنه لا يختلف في معظم مظاهر سلوكه عن النمط العام لتدين الناس.
تكمن أزمة المفكر والباحث الديني في البلاد العربية في غربته عن المجتمع، وغربة المجتمع عنه. لا يتوجس الناس من تفكيره وآرائه فقط، بل يشعرون أنه منقطع عنهم في كل شيء في حياته وسلوكه. إن جهود هؤلاء المفكرين والباحثين في ديارنا مازالت لم تعثر على تربتها المناسبة، ولعلها لا تجد مثل هذه التربة مادامت بعيدة عن الحواضر والحوزات والمدارس الدينية. الفضاء الديني العام كان ومازال مُحتَكراً لرجال الدين والخطباء وأئمة الجمعة والجماعة، وكتّاب وشباب الجماعات الدينية، بينما المفكر المستنير في بلادنا يفكر ويكتب ويتحدث خارج هذا الفضاء، لا يصغي اليه أحد، مثلما لا يصغي هو لأحد.
أشرت أكثر من مرة إلى أن تحديث المؤسسة الدينية لا ينجز وعوده مالم ينبثق داخل هذه المؤسسة، تحديث الحوزة لا ينجز وعوده مالم ينبثق داخل الحوزة، تحديث الأزهر لا ينجز وعوده مالم ينبثق داخل الأزهر، تحديث المسجد لا ينجز وعوده مالم ينبثق داخل المسجد. تحديث الكنيسة لم ينجز وعوده إلاّ بعد أن انبثق داخل الكنيسة، تحديث الفاتيكان لم ينجز وعوده إلاّ بعد أن انبثق داخل الفاتيكان.
س7: في ظل أزمة المعنى (فراغ المعنى الوجودي) التي تهيمن على المجتمعات الحديثة، كيف يمكن لقيم الدين الإنسانية المعنوية (وبأية طريقة) الإسهام في التخفيف من آلام الناس وضغوطاتهم الحياتية، والعمل على إنتاج ونشر الاستقرار الفردي والاجتماعي، بعيداً -بطبيعة الحال- عن مجالات الفقه التقليدي، وتصورات الإسلام المتعددة المختلفة والمتضاربة الأفهام والاجتهادات والشروحات والبيانات والتفسيرات.. أين تكمن حاجة الفرد البشري للدين.. في إشباع الروح، في الشوق للمعرفة والتوق للحكمة، في أنسنة القيم الدينية، في إثراء الوجود الخاص أولاً والعام ثانياً؟
جواب: الانسان كائن مسكون باكتشاف وتفسير كل ما حوله من عوالم، إذ أن كل ما لا يفسر ويبرر يجعل هذا الكائن غارقاً بأسئلة تثيرها افتراضات قلقة وأوهام مخيفة. الدين شبكة دلالات تمنح الانسان قدرة على العيش في عالم يستطيع فهمه وتفسيره. صحيح أن الكثير من تفسيرات وتبريرات الدين نَسَخها اتساعُ مجالات العلم، ومحتها ممحاة تطور المعارف البشرية، والآفاق الجديدة للعقل الحديث، لكني أتحدث هنا عمّا هو خارج هذه المجالات والآفاق من مديات تلح على العلماء على الدوام أن يفتشوا عنها، ويقدموا افتراضات متنوعة في فهمها. فمهما بلغت فتوحات العلم واتسعت مدارات العقل فإن العقل ذاته يدلل على أنها تظل محدودة مهما امتد الزمان، لذلك يبحث الانسان بموازاة ذلك عما يمنحه معنى جديداً يفسر به ما لا يفسره العلم في حياته. وأعني بذلك أنه ليس هناك كائن بشري لا تلح عليه أسئلة حائرة عن معنى وجوده في هذا العالم، وعن الموت الذي يباغته وتتعطل فيه حياته، ويتوقف فيه كل شيء فيها، والمصير الذي لا يعرف عنه شيئاً، وما يتفشى في العالم الذي يعيش فيه من شرور مريعة، وغير ذلك من أسئلة تتفرع عن هذه الأسئلة وتحيل اليها. لن تغيب هذه الأسئلة أبداً مادام هناك إنسان يفكّر في العالم.
فما يتصل بسؤال الموت مثلاً فإن تقدم العلم لا يستطيع تعطيله، وإن استطاع تأجيله.كل انسان يشعر أنه يقع في أحضان الموت، وإن فعل كل شيء لكن لا يستطيع طرد كابوس الموت. الموت هو التحدي الأعظم للكائن البشري، استجابات الكائن لهذا التحدي وإن كانت متنوعة لكنها كلها لا تكفّ عن التوق للخلود.كل انسان يواجه الموت بمنجزه، الفلاح يواجه الموت بمحاصيله، العامل بعمله، الرسام بلوحاته، الشاعر بقصائده، المعمار بعمارته، المكتشف باكتشافه.كل جماعة بشرية يتضامن أفرادها وتنتج سردياتها ومتخيلها التاريخي في سياق مواجهة الموت.
تظهر تعبيرات مواجهة الموت والتوق للخلود في حياة الانسان في كل من: الدين الذي تتمدد به الحياة ولا تزول أبداً حسب مفهوم المتدين، والفن الذي يجعل الذاكرة حية على الدوام، والعلم الذي يصيّر وجود المرء أغنى وأقوى، والكتابة التي هي ضرب من بقاء واستمرارية حضور الكاتب وديمومته، والامومة والأبوة التي يتسع فيها الوجود الشخصي للغد عبر الأبناء، واكتناز المال الذي يشعر معه المرء بالاستغناء وعدم الاحتياج للغير، والسلطة التي تمنح من يمتلكها شعوراً يتخيل معه أنه يقبض على حياة أوسع من حياته الشخصية، بوصفه يمتلك قدرةً من شأنها أن تجعله يتحكم بمصير حياة الغير في مملكته، فيضمها إلى حياته، لأنه يهب الغير البقاء أو يحكم عليه بالفناء.كل ذلك وغيره يقوم به الانسان ليهرب من الموت، ويتخلص من الفناء، ويظفر بالأبدية.
يضع الدين بين يدي الانسان منظومة تفسير تقدم له إجابات عن كل ما لا يجيب عنه العلم في حياته، يجيب الدين عن الأسئلة الوجودية الكبرى، كسؤال معنى الحياة، والموت، والمصير. الدين تمثل رمزي للوجود، ونمط حضور في العالم، يتشكل في فضائه مفهومُ الانسان للحياة، وأفق رؤيته، وتتكيف تبعاً له صلاته بالأشياء، وأنماط علاقاته الاجتماعية بالأشخاص.كما يقدّم الدين تبريراً للحياة، وإن كان الدين لا ينفرد بذلك، غير أنه ينفرد في إنتاج رؤية للانسان الديني يعيش معها في عالم مقدس بموازاة عالمه الدنيوي.كذلك يقدّم الدين تفسيراً وتبريراً ينفرد فيه للموت، بوصف الموت ليس فناء، وانما تحوّلاً في طبيعة الحياة، وتأبيداً لها بنحو يجعل تحدي الموت مستساغاً. وكأن الانسان الديني يشعر أنه يهاجر من واقعه المرّ ليسكن عالماً طهراً لم تدنسه شرور وخطايا البشر، ثم يدنو ذلك العالم القدسي ليلتحم بالواقع ويتسامى به، بالشكل الذي ينقذ الانسان الديني من الكثير من آلام الحياة ومواجعها، إذ يمنحه تعويضاً مؤجلاً عن كل آلام حياته، ويمنحه قدرة اضافية تخفف من وطأة الألم وضراوته، بنحو يصبح هذا الانسان قادراً على تحمله مهما كان. كذلك يحرص الدين على منح الكائن البشري شيئاً من الألفة والانسجام مع العالم، يستطيع معها هذا الكائن أن يحتمي من الاغتراب الوجودي والهشاشة والضياع.
أتمنى ألا يفهم كلامي خطأ، من اني أقصد ان حدود الدين تقتصر على المجال الفردي، ذلك أن كل دين بل كل معتقد شخصي له أثر مجتمعي عابر لأثره الفردي. المجتمع هو مجموع أفراده، وكل حياة دينية أصيلة تنتج تحولاً روحياً وأخلاقياً في شخصية الفرد، سيجد هذا التحول صداه المباشر في حياة المجتمع. نعم لا يمكنني القبول بأن نضحي بضمير الفرد، ونبدّد حياته الخاصة، وننحر كرامته وحريته وحقوقه لأجل الجماعة. أعلم أنها معادلة صعبة جداً في عالمنا، لكن لا يمكن أبداً قبول كل ما ينتهي إلى عبودية الفرد للمجتمع ومحو الذات.