زهايمر

(ثقافات)

زهايمر

خلود الإبراهيم

دققتُ الباب برفقٍ، وكأني أخشى على الباب و الجدران ومن يسكنون المنزل من طرقاتي. لم أنتظر طويلاً، فتحتْ لي فتاةٌ تبلغ من العمر ستة عشر ربيعاً، بدتْ ملامحها لا تمتُ للربيع بصلة،  كغصنٍ مكسورٍ متدلٍ لا يزال بعض لحائه متمسكاً بالفرع تصفعه الرياح بدتْ ماثلةً أمامي. رحبتْ بي بكلماتٍ قليلةٍ شاحبةٍ لا تحمل بهجة الترحيب بضيف لم يعد ضيفاً بل أكثر.

أشارتْ ليّ بالدخول ولم تسألني ماذا أريد أن اشرب ، فهي تعلم أني أحب احتساء القهوة بجانب النافذة برفقة والدتها، توجهتْ نحو المطبخ ويممتُ شطر غرفتِها، أعهدُها تمضي وقتها فيها، نادراً ما تغادر السرير. تجلسُ فيه تتأملُ الفضاءَ الذي يفصلها عنه زجاجُ النافذةِ التي غطّتْها ستائرٌ بيضاءٌ شفيفةٌ.

 عندما دخلتُ لم تنتبه لجودي، أحببتُ شرودها في شيء غامض لا يعلمه غيرها. كطفلٍ يراقبُ الدربَ بانتظار أبيه الذي أخذته عاصفةُ حربٍ لئيمةٍ، لم أرغب بأن أقاطع سهوَها، جلستُ على كرسيّ بجانب طاولة، تناثرتْ عليها بعض التقارير والوصفات الطبية و بعض علبِ الأدوية التي تنتصبُ متجاورةً تومئ إلى أملٍ باتَ يُسحبُ من بين أصابعنا يوماً بعد يوم. وقوفها ماثلة أمامي دفع ذاكرتي لاستحضار يوم أمس ، كيف مرّ بكل ثقله على روحي كأنّه سنة، هويتُ باكيةً على سريري بعد أن دلق كلامه فجأة أمامي كمن سكب ماءً مغلياً في كأسٍ من زجاجٍ في يوم سيبيريّ فلم يحتملْ الكأسُ فتهشم، ثمّ رحلَ بحقائبِ السفرِ التي جهزها دون علمٍ مني، يريد أن يلحقَ بحلمه اليتيم الى بلادِ ما وراء البحار، لم يعدْ له شيء يتمسك به على هذه البلاد. ودعني بعناقٍ باردٍ ثمّ رحلَ، غشيني الظلامُ ، لم أقوى على الرؤية، اختفتْ الأصوات من حولي وكأنها لم تخلقْ، تلاشتْ الجدران، استحال كل شيء إلى عتمةٍ ممتدةٍ إلى أقاصي الكون، باردة شاحبة لا تلوي على شيء، بعد ساعاتٍ من الصفعةِ أمسكتُ الهاتف لاتصلَ بها، كان أسمها في مقدمة الأسماء التي تتصدر قائمة المكالمات الصادرة منذ زمن بعيد، قبل أن يحدث ما حدث، والآن لم يعد موجوداً بين الصادر و الوارد من المكالمات التي باتتْ قليلة، حتى الرسائل لم تعدْ تُكتبُ لكي تُرسل، كانتْ وحدها كتفاً تتكئ عليه أحزاني ، و زيتَ قنديلي، ومنديلاً يمتدّ إلى جوفي يزيل هماً كنتُ أظنه مقيمٌ، همستُ لنفسي: أين ذهبتِ و تركتني؟

التفتتْ إليّ ، غمرتْ أشعةُ الشمسِ خصلاتِ شعرها المنسدلة على كتفيها النحيلتين، عبرتْ نسمةٌ تشرينيةٌ باردةٌ من بين الستائر حرّكتْ خصلةً من شعرها استقرتْ فوق جبينها، رمقتني بفرحٍ رغم عينيها الناعستين، شعرتُ بها تحاول تذكُري ، رغم  مراحل الزهايمر التي مرتْ بها إلا أن هذه المرحلة أشدّها، أمضيتُ سنواتٍ منذ إصابتها أعيدُ لها تاريخها بأكمله كل يوم لكي لا تنسى ، لم اغبْ عنها يوماً، لكي تبقى صورتي ماثلة في ذاكرتها لا يمحُها أي زهايمر كان، و الآن بعد أنْ أكلَ المرضُ ذاكرتها وأوهنَ العمر جسدها لا أجدني إلا حاضرة أمامها اشكو لها ما يقترف العمر بحقي، و تسمعني بكل ما أوتيتْ من صمت وشرود، رغم أنّي بالأمس لم أقو على الاتصال بها رغم علمي أنها لا تتذكرني إلا أني بعثتُ لها برسالة أخبرتها بما جرى ، ولم تُقرأ، لم تبتعد عيناها عني ،و لم تفارق الابتسامة وجهها البريء براءة الأطفال ، مدّت يدها تطلبُ مني الاقتراب، جلستُ على طرف السرير بجوارها. غشى بريقٌ عينيها كبريقِ صفحةِ البحر تحت شمسِ صباحاتٍ صيفيةٍ، مررتْ أصابعها الغضة على صفحة وجهي ثم اخفضتها إلى أن وصلتْ صدري ، استقرتْ يدها فوق قلبي ، شعرتُ بها تسحب حزني من بين أضلعي و تدفع بالسكينة فيه، اقتربتُ منها حتى لامسَتْ جبهتي جبهتها، شعرتُ بها دافئةً كمدفئةٍ في كانون، انطفأتْ نيران صدري دفعة واحدة ، همستُ لها: رغم هذا الزهايمر اللعين إلا أنكِ يا صديقتي يدٌ حملتْ قلبي قبل أن يهوي مني.

 وضعتُ يدي فوق يديها المرتخية على الغطاء كقطة أليفة تغفو في بقعة ضوء سقطتْ من نافذة، أخذنا نراقب سربَ حمامٍ يطوف بالسماءَ بسلامٍ .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *