في نعيم مقابر الكتب القديمة والمستخدمة

(ثقافات)

في نعيم مقابر الكتب القديمة والمستخدمة

أنس الغوري

هذا النّعيم لا يدركه ويعيش في لججه إلا قلّة قليلة، إلا من انتفض جسده برعش الوجد!

بعض الفقراء المسحوقين الشغوفين بالمعرفة، الرافضين للركض خلف الرغيف، لهم نصيبٌ كبير من هذا النعيم، بل خبراء بدهاليز مملكة أسرار هذا النعيم. كذلك، أيضاً، بعض الأغنياء الهواة من جامعي الكتب القديمة والنادرة.

في المكتبات والأكشاك المخصّصة لبيع الكتب القديمة والمستعملة، لا تجد الكثير من الرواد، روّادها أقلاء إلى حدٍّ ما. وهذا يمنح البعض شعوراً بالحبور؛ حتى لا يتم مزاحمتهم على كنوزهم، غير أنّ هذا فيه شيء من الأنانية.

 ثمّة سحر يكتنف هذه المكتبات والكتب التي بداخلها. هذا السحر لا تُدرك ماهيته المطلقة!

ماتجده في هذه المقابر المنسيّة أنّى لك أن تجده في أعرق المكتبات الحديثة. قد تجد عناوين قيّمة جداً، وقيمتها تعود لفحوى مضمونها ونُدرة وجودها. وهناك في كثير من البلدان من يبحث عنها وهو على استعداد بأن يدفع أيّ ثمن! خصوصاً الباحثين والمحققين. بينما تكون في متناول يدك بثمنٍ زهيد.

هنا، في هذه الأمكنة المتعددة العوالم، تُصنع المتعة وتتم عملية الإشباع الروحي.

التنقل في أروقتها يمنح الثمالة، يصيب بالخدر، يُشعل بالقلب حبّ التملّك اللامحدود، الاستسلام برضا كلّي للفتنة!

تبحث، تنقّب، تصطاد كلّ ما هو غير مألوف ومعروف ومتداول.

أيضاً، هناك جمالٌ مضاعف ومركّب بجودة طباعة وأغلفة بعضها. أغلفة أخآذة، على اختلاف مضمونها إلا أن فيها جمالٌ بديع، تدفعك رغبة محمومة للاقتناء وإن لم يكن من الاهتمامات القرائية. إنّها تخلع الفتنة على الرائي والقارئ على حد السواء!

متعةٌ لا تَتَبدد، هنا، بل حلاوة ولذّة تَتَشكل وتَتَمدد. مسٌّ خفيّ لا يوجد له تفسير!

المهووسون بهذه الفتنة، والفقراء المقاومون لصلافة الواقع، تجدهم في هذه المقابر أشبه بالنّساك المعتكفين،  بصبر أنبياء يبحثون. هناك من يتهيأ بأدوات لهذا الطقس ببعض التدابير، وآخرون ينغمسون بكلّهم مغيّبون رغم الآثار التي تخلّف والتعب المحبّب؛ الظفر بالكنز ينسيهم. أوليس كلّ الأشياء الجليلة والثمينة دفينة؟!

ذات الكتب، القديمة والمستخدمة، تحمل بين طياتها رائحة عطريّة فريدة، تدفع الغالبية لمعاودة الاستنشاق مرات ومرات. فعل أشبه بالإدمان!

يا ترى، هل هي الذكريات التي تهيّج النوستاليجية أم المكونات التي تعتّقت بتعاقب مرور الزمن؟!

توصل فريق من الباحثين الكيميائيين لاستنتاح مكونات هذه الرائحة، إذ صرّحوا عنها أنها: “مزيج من عشب مع مسحة من الأحماض، ولمحة من الفانيليا مع نسبة من التعتيق الكامنة”.

هذه الكتب، التي ترأف بعاشقها، يكفيها من العظمة والتخايل بنشوة تلك اللحظة الأولى بالاكتشاف والالتقاء والاستنشاق مع إغماضة وتنهيدة. هذه اللحظات توازي نشوة التقاء عاشقين بعناقٍ حميميّ بعد طيِّ مسافة غياب.

عن نفسي، أنا، لي طقسٌ مقدّس ويومي مع المكتبات والأكشاك المخصّصة لبيع الكتب القديمة والمستخدمة رغم أني أعمل كبائع كتب.

صباحاً قبل ذهابي للعمل، ومساءً بعد العودة، لابدّ من الزيارة والبحث. لا أفارق الكتب، وهي لا تفارقني.

هناك كتب أحصل عليها بتُّ على معرفة بقرائها السابقين من خلال آثارهم وذائقتهم القرائيّة. أحدهم، تعرفت عليه عن قرب وبتنا نلتقي ونتحادث كلّ حينٍ وحين. آخرون، أتمنى لقياهم والخوض معهم بأحاديث لا تنتهي!

وجدتُ عدداً لا بأس به من الكتب النادرة والقيّمة ولا زلت أجد. بعضها، وهبته بالمجان لمن أجده يبحث عنها بلهفة وجديّة في مواقع التواصل الاجتماعي من خلال المتصفحات المخصّصة لبيع الكتب وتبادلها. وغيرها من الكتب أحتفظ بها لنفسي للقراءة والمشاركة مع دائرة ضيقة من القرّاء الجادين.

أتضرّع أن تظلّ هذه المقابر مشرّعة أبواب نعيمها للباحثين الظامئين.

شاهد أيضاً

سوسن دهنيم وأحمد زايد يوقعان كتابيهما في أبوظبي للكتاب

(ثقافات) سوسن دهنيم وأحمد زايد يوقعان كتابيهما في جناح مؤسسة العويس بمعرض أبوظبي للكتاب   …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *