واسيني الأعرج: المرأة تفرض حضورها الطاغي على كتاباتي

واسيني الأعرج: المرأة تفرض حضورها الطاغي على كتاباتي.. و”أصابع لوليتا” خرجت من رحم القسوة ردًا على العنصرية

حوار- مدرين المكتومية

القارئ لروايات الأديب الجزائري الشهير واسيني الأعرج، يُدرك حتمًا مدى تأثير المرأة على كتاباته، وكأنه كرّس إبداعه الفكري للاحتفاء بالمرأة، غير أن السرَّ في هذا اللغز المُحيِّر كشف عنه الأعرج في حواره الذي خص به جريدة “الرؤية” على هامش المشاركة في معرض الشارقة الدولي للكتاب؛ إذ أفاض صاحب الروايات الأكثر مبيعًا في البوح بأفكاره ورؤاه التقدمية، كما تحدث عن تفاصيل مختلفة تتعلق بالظروف المحيطة لتأليفه العديد من الروايات، وفصّل بصدق ما يعتريه من مشاعر جيّاشه تجاه المرأة عندما يكتب لها.

واستطاع واسيني الأعرج أن يبتكر لغة أدبية مُغايرة، تختلف عمّا هو سائد من كتابات أدبية في الرواية العربية، التي تشهد ازدهارًا وتنوعًا.. وتحدث الأعرج عن الحرب بكل حبٍ! وعن الحرمان بكل عطاء وامتنان، فقد تنقل بين الأماكن وعاش قصص أبطال رواياته ليُعبر عنهم بكل صدق، هكذا يؤكد.

والكتابة بالنسبة للأعرج، محاولة لإخبار الجميع أن للإنسان حياةً يمكن أن يعيشها بين صفحات الكتب، وأن الحياة لا تعني دائمًا أن نعيشها بجدية تامة، وأن هناك شيئا ما يمكن اكتشافه، فهو من قال: “لا أدري لماذا نذهب دائمًا نحو آخر الصفحات عندما يتعلق الأمر بأشواقنا وأحزاننا التي نكتبها، ربما لمباغتة الأقدار التي لا تمنحنا دائمًا وقتًا كافيًا لإتمام رحلتنا في الحياة كما نشتهي”، وقال أيضًا: “توجد في حياة الإنسان لحظة غريبة لا يعرف كيف يفسرها، ولا يدرك سرها أبدًا لكنها تصنع كلّ شيءٍ في حياته القادمة”.

الكاتب الجزائري تحدث باستفاضة عن فلسفة الكتابة ومفردات اللغة والظروف المحيطة بكتابة الروايات… وإلى نص الحوار.

في البداية حدثنا عن علاقتك بسلطنة عُمان.. وكم مرة زرتها؟

زرتُ سلطنة عُمان 4 مرات تقريبًا، المرة الأولى كانت عند تأسيس جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، وعندما شاهدت دار الأوبرا السلطانية أصابتني الدهشة، لكن دهشتي الكبرى كانت في شخصية السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه-، فقد كان عظيمًا في اهتمامه الدقيق بكل التفاصيل الخاصة حتى بتصميمات وإنشاءات دار الأوبرا السلطانية في مسقط.

ما الذي يمثله لك معرض الشارقة الدولي للكتاب؟

الشارقة تحتل مكانة خاصة في قلبي، فهي حبٌ استثنائي؛ لأنها من المدن العربية القليلة التي تحمل طابعا ثقافيًا بحتًا ومميزًا للغاية، وهناك رغبة سياسية عليا في الدفع بإمارة الشارقة نحو التطور الثقافي، ولا شك أننا كمبدعين عرب في أمس الحاجة لذلك.. وأحرص دائمًا على الذهاب إلى معرض الشارقة سنويًا رغم المسافة الكبيرة التي أقطعها للوصول إلى هناك، لكني أرى في هذه اللؤلؤة المضيئة ثقافيًا وفكريًا، المشهد الثقافي العربي كما ينبغي أن يكون، فضلًا عن كونها فرصة لعرض أعمالي على الذائقة الإماراتية الرفيعة.

 كيف تُولد روايات واسيني الأعرج.. وهل تمت للواقع بصلة؟

أشعر أنَّ بعض النصوص الأدبية مربوطة بحيثيات ظرفية خاصة، كطوق الياسمين مثلًا كنت حينها أحب فتاة سورية وعندما غادرت سوريا، شعرت بفادحة فقدان مدينة وفقدان امرأة، وعندما تصبح هناك مسافة بينك وبين العالم الآخر يبدأ الحنين يتسلل داخلك، وتجد نفسك تبحث عن طريقة لاستعادته، فلا تجد وسيلة سوى الكتابة لتساعدك على استعادة لحظات الحنين بصورة أجمل مما كانت عليه ربما، والحياة بها هزات جميلة وأخرى قاسية، ولكن عندما تستعيد الذكريات بالكتابة تمنحك اللغة فرصة أن يصبح القاسي منها جميلا، فبدأت أفكر عندها أن أكتب وذلك بعد مرور 20 سنة من مُغادرتي لسوريا.

بعد ذلك مباشرة كتبت “أنثى السراب”، وكانت مرتبطة بجانب نفسي وهو ما يمكن أن نطلق عليه “الفقدان”.

وما ظروف كتابة “أصباع لوليتا”؟

ولدت هذه الرواية في ظروف شديدة القسوة، أولها كان انهيار النموذج الفرنسي الديموقراطي، وباعتباري أستاذ جامعي داخل الجامعة لم أكن أرى أي مشاهد من العنصرية، ولكن خارج الجامعة كنت أشاهد العنصرية، وجاءت أصابع لوليتا للرد على الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي في أحد الندوات حينما ناقشته بنفس السياق حول الأقلية والأغلبية، وكان رده بأن ما الذي يؤكد له أنهم الأقلية، حينها بدأت تتكون لدي فكرة بالكيفية التي يمكنني خلالها كتابة رواية داخل السياق نفسه، دون أن تتحول الرواية إلى خطاب سياسي، بالإضافة إلى مواقف أخرى حصلت مع أشخاص قابلتهم.

وما أحداث الرواية؟ ولماذا لجأت إلى الكتابة في هذا التوجه رغم مخاطره؟!

لوليتا في الرواية ما هي إلا إرهابية ومُكلفة باغتيال أحدهم، وأحيانا تكون الأحكام الجاهزة على البشر ظالمة، وفي الرواية قالوا لـ”لوليتا” إن هذا الشخص غير مسلم كما أن لديه قرابة مع المسيحيين واليهود، والجميل أن لدى لوليتا قابلية الفضول والتساؤل، لتكتشف أنه ليس كما قيل لها عنه، حينها ساورها الشك وعندما يساور الشك القاتل الديني يبدأ التفكير بعقله، لأنه للحظة من اللحظات يعيش بعقل مُغلق أي يتلقى أوامر ويستوعبها ويقوم بتنفيذها، وهو يظن أنه عندما يفجر أحدا فإنِّه سيدخل الجنة مباشرة، ومع الوقت ستعرف لوليتا أنهم خدعوها ومع الوقت ستحبه وستجد أنَّه لا علاقة له بما يحدث، ولكن ستكون النهاية سينمائية فبدلا من تفجير هذا الشخص قامت بتفجير نفسها، فكما يسمون هذا الأمر بـ”الموت الرومانسي”.

في هذه الرواية المكان موجود في باريس، والحدث أنا من خلقته ولكن كل شيء حقيقي وموجود، حتى الفندق أنا عشت به ليلة كاملة حتى أتخيل المشهد.

هل تتأثر كتابات المثقف الذي يعيش في المهجر؟

المهجر علمني أشياء كثيرة، فقد كنت أسافر إلى باريس باستمرار، لكن عندما جاءت الأزمة ذهبت لباريس وكتبت في تلك السنة “في أرض الغربة”، وكانت لدي رحلات ممتدة بين باريس وهولندا ولوس أنجلوس، وبقيت في أمريكا حوالي سنة، وفي بداية الأوضاع غير المستقرة في الجزائر كنت حينها أكتب “في شرفات بحر الشمال”، وكانت لديَّ منحة كتابة في هولندا وبدأت أكتب الرواية التي تتحدث عن الجزائر، فاكتشفت أني لا أتحدث عن الغربة، وأن الأمر عبارة عن ديكور تحول من الجزائر إلى هولندا، لكن الأصل والقلب يحملان الجزائر وتعيش الروح في هذا البلد.

تجربة كل شخص لها خصوصيتها، أي أنها تعتمد على الشخص في الكيفية التي يعيش فيها المهجر، أنا خرجت من الجزائر في 1993 في عز الأحداث الإرهابية، بعد أن جلست عاما كاملا أعيش في سرية تامة بعد تلقي العديد من التهديدات الإرهابية، واضطررت للسفر في 1993 لباريس بدعوة من المدرسة العليا للأساتذة عن طريق صديق كبير هو من قام بعمل القاموس العربي الفرنسي، ومنحني منصب لمدة سنة، حتى بقيت في صربون حتى الآن وهي السنة الأخيرة لي، وأود أن ارتاح قليلا لأكتب بهدوء.

أما حياة المهجر فقد علمتنا الكثير من الأشياء، ويختلف أثرها من شخص إلى آخر وكل شخص يعيشها بشكل خاص، وأنا عشت حياة المهجر محمّل بذكريات وطني والحنين إليه ولم تحدث قطيعة بيني وبين وطني وكل كتاباتي متصلة بالوطن مهما تغير المكان، فنحن ننتقل بالأجساد وتبقى الأرواح معلقة ببلادنا. كما أنني في الغربة تعلمت من خبرة الأصدقاء والزملاء في النشر والترجمة للغة الفرنسية والتعرف على بلاد أخرى والجوانب الحضارية والثقافية للأوروبيين، فالهجرة تنمي تجربة الإنسان، وعندما تكتب تكون الكتابة من وحي المكان الذي تنتمي إليه.

كما إن رواياتي الأخيرة التي كتبتها خارج البلد، كانت فيها لمسة من بلادي أو لمسة عربية، مثل “حكاية العربي الأخير” والتي سببت لي مشاكل عربية كثيرة من حيث الرؤية، فكثير من الناس لم يفهموها، ونظروا إليها على أنها نص متشائم، ولكني عندما أرى الوضع الحالي أجد التشابه فيما كتبته بها قبل 10 سنوات تقريبًا.

نجد في كتاباتك التجديد المستمر في المصطلحات ومفردات اللغة، ما الهدف من ذلك؟

دائمًا أقول إن الأدب ليس درسًا يعطى للقارئ؛ لأن القارئ أيضًا ذكي، لكن الأمر عبارة عن تقاسم، فعندما امتلك شيئًا جميلًا لا أريد أن أحتفظ به لنفسي ولكني أحب مقاسمته مع الآخرين.. وأريد الإشارة إلى أن اللغة مرتبطة بطبيعة النص، فمثلا لغة “طوق الياسمين” لا يمكن أن تكون سوى لغة عشقية بين شخصين، وبالتالي التعبير عن هذا الوجدان المشتعل يحتاج للغة حقيقية ومفردات صادقة.

وفي الرواية السياسية “العربي الأخير” استخدمتُ لغة مزدوجة أو ثلاثية الأبعاد، البعد الأول هو اللغة الواصفة التي تتسم بطابعها السياسي، والبعد الثاني هو اللغة المرتبطة به وهو داخل السجون بما أنه عالم كبير يقوم فيه بإعادة النظر في كل حياته وهذه تحتاج إلى لغة داخلية تعبر عن الخيبة، والبعد الثالث اللغة العاطفية عندما يبدأ في حب امرأة فينتقل من اللغة العادية إلى اللغة العاطفية الداخلية.

لذلك أرى أنه عندما تريد أن تتقن الكتابة عليك أن تتنقل بين الأماكن والدول، فالتنقل يمنحك جغرافيا جديدة لم تكن ببالك، لأنها تحمل رائحة لا يمكن استشعارها بعمق ما لم تمر عليها، ولذلك الآن انا منشغل بمكان آخر في بيروت “قصر البيكادلي” الذي كان وقتها مسرحا كبيرا جدا في لبنان في السبعينيات، وكل مثقفي العرب مروا عليه بما فيهم الظاهرة الرحبانية، وقد أحببت تقديم رسالة من خلاله وهو الاهتمام بهذا المكان الذي قضيت سنة ونصف السنة بحثا عن وسيلة للدخول إليه، وعندما سنحت لي فرصة الدخول وجدت المكان عبارة عن رماد أو مكان مدمر، وحاليا أنا بصدد الانتهاء من روايتي الجديدة “عازفة بكاديلي”.

وفي آخر 15 سنة، أصبحت لا أقتنع بالخيال وفقط، فعندما أكتب عن مي زيادة لا يكفي الخيال، يجب أن أعرف من هي مي زيادة أولًا، ومن ثم أعمل على مدار سنة كاملة في البحث عن كل ما يتصل بها من وثائق ومن مقالات وملفات وأخبار، لأخرج من التعليم المدرسي لاكتشاف الذات، حتى يقال إن هذه مي زيادة لواسيني، لأنك أنت من سيذهب لتلك الشخصية، وعندما تريد أن تتقن الكتابة عليك أن تتنقل بين الأماكن، فظللت أتنقل بين الأماكن وذهبت إلى  فلسطين التي ولدت فيها مي زيادة وقريتها شحتول وذهبت لمصر حيث دفنت، وإلى الجامعة الأمريكية واطلعت على الوثائق التي يمتلكونها وقدموا لي المساعدة، ولديهم أهم محاضرة لمي زيادة التي قدمتها بعد خروجها من مستشفى الأمراض العقلية، والتي كان لا بد أن تبثت خلالها أنها ليست مجنونة، والمحاضرة التي ألقتها وتحدثت فيها عن وضع المثقف العربي، ولم تتكلم عن نفسها أبدًا وتحدثت حول الدور الذي يلعبه المثقف في مجتمعه.

حضور المرأة في كتابات واسيني الأعرج يلعب دورا كبيرا، هل يعود الفضل لزوجتك؟

تأثير زوجتي زينب يأتي بقدر اتساع قلبها، لأنها لو كانت امرأة أخرى لربما لم تكمل الطريق معي، وهذا يأتي من كوني أيضًا تربية نسائية بسبب هجرة الرجال للعمل في فرنسا أو الالتحاق بالثورة في الجبال فأصبحت الضيعة نسائية وأنا ولدت في هذا المناخ، فأصبحت أفهم وأعرف وعلى دراية كاملة بالمرأة، فعندما تقع عيناي على امرأة يمكنني أن أتصور من عينيها الحالة التي تعيشها.

أنا أحب المرأة كثيرًا، أحبها عن بعد وعن قرب، ولدي عاطفة قوية جدا تجاه المرأة، هذا الوجود بالطبع ينعكس عليك كأديب وكاتب، فعندما تكتب ستكتب من هذا الأفق، وبالتالي حضور المرأة سيكون قويًا حتى في العناوين، لا شعوريًا أجدها تطغى على كتاباتي ومؤلفاتي.

إلى أي مدى تساهم الرواية في إعادة كتابة التاريخ العربي؟

لدينا خيبة من التاريخ العربي، لأنه في نهاية المطاف إما أن يكون تاريخ عائلات، أو تاريخ مجموعات بشرية،  فمن خلال الصراع على الحكم يكون كتابة التاريخ للمنتصر، وعلينا أن نتعلم تاريخ المنتصر وليس التاريخ الحقيقي، و مثلا في أوروبا عندما تقرأ التاريخ تجد نفسك تقرأ تاريخ الصراعات البشرية وليس وجهة نظر واحدة للمنتصر، ولذلك نحن بحاجة إلى النظر للتاريخ بنظرة أخرى.

وعندما تريد أن تكتب رواية تاريخية، فأنت لا تملك الثقة بهذا التاريخ، وإذًا فأنت بصدد القيام بتصنيع تاريخ روائي وليس تاريخ البلد، فعندما تأخذ أحداثا ووقائع الجهة الرسمية ترويها بشكل معين، ولكن لديك مرويات جانبية إما شعبية وربما من المعارضين في الرأي، فعليك أن تحاول أن تأخذ المساحة الوسطى المبنية على منطق وعقل، وتأخذ الحادثة بمروياتها الرسمية والشعبية ولا تأخذ موقفا عدائيا أو غير عدائي لهذا التاريخ.

والخلاصة، أنك عندما تكتب عن التاريخ فأنت لا تعيد إنتاج التاريخ، لكنك تدخل في صلب التاريخ والحقيقة.

  • عن الرؤية العمانية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *