بائع المسك

(ثقافات)

 

بائع المسك: الأديب إبراهيم العجلوني (شهادة)

سامر حيدر المجالي

 

انتقل على رحمة الله أمس الأحد 4/11/2022 الأديب والمفكر الأردني إبراهيم العجلوني.. وفي الكلمات التالية شهادة شخصية فيه، ولعلها قليل ممّا يستحقه حيًّا وميتًا..

 ما جالستُ أستاذَنا وعلّامتَنا، إبراهيم العجلوني (أبا سلطان)، إلّا نالني منه ما ينال جليسَ الصالحين الذين وصفهم سيد الخلق نبينا محمد –عليه الصلاة والسلام- في الحديث المتَّفق عليه قائلًا: “إنما مَثَل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المِسك ونافخ الكير، فحامل المسكِ إمّا أن يُحْذيَك، وإمّا أن تبتاع منه، وإمّا أن تجدَ منه ريحًا طيّبةً، ونافخُ الكير إمّا أن يحرقَ ثيابَك، وإمّا أن تجدَ منه ريحًا مُنتنة”.

فأنا الذي احتذى وابتاع ووجد أطيب ريح..

وللأمر تفاصيلُ تعود بي إلى زمن الصِّبا في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي؛ إذ إنَّني واحد من جيلٍ عَبَرَ فجوة هائلة بين زمنين ولم تنضجْ تجربتُه بعد. كنّا الوارثين لعقود الأيديولوجيات الدخيلة علينا، التي احتكرت المشهدَ الثقافي في بلادنا، وضُمِّن خطّابُها في معظم النتاج الأدبي من شعرٍ ورواية قصة، وكنّا الوارثين كذلك للدولة التنّين، دولة هوبز التي جمعت إلى سطوتها روح الاستبداد الشرقي، ضمن درجات متفاوتة من قطر إلى قطر، فكانت ذات سلطة مطلقة، تمارس الوصاية، وتعسف بالمخالفين، وتمتلك الإعلام.

لكننا من وجه آخر، كنّا المقبلين على زمنِ تفكّك هذه النظم؛ زمن ريغان- تاتشر، الذي سيدشّن انسحاب الدولة من المشهد، وسيعلن التخلّي عن “السرديات الكبرى” لصالح “نهاية التاريخ” وسطوع شمس الليبرالية، وسقوط الاتحاد السوفييتي، وسيطرة الشركات العابرة للقارات على كل شيء في العالم.

في تلك الظروف كان البحث عن موقف أصيلٍ تمتدُّ جذوره في وجدان هذه الأمة أمرًا في غاية الصعوبة، وهو ما يزال كذلك على كلِّ حال. والأصعب أن يقترن هذا الموقف -حين يوجَد- بعمقٍ وسَعَة، وإحاطةٍ ونباهة، وعصامية ونزاهة. كان تلمّس رجال من هذا النوع؛ مثقفين مفكرين ذوي أقلام سيّالة ونوايا سليمة وضمائر لم يلوّثها الحطام، كالبحث عن حلقة في فلاة، فإن ظفرَ المرء بأحدهم عُدَّ هذا الظفر لقية ثمينة، قلَّ أن يجود السياقُ المعتمُ الفقيرُ بمثلها.

هكذا برز الأستاذ إبراهيم العجلوني، واحدًا من ثلَّة قليلة من الكتاب المرموقين الذين يطمئنُّ القارئ إلى ما يقدّمونه من محتوى معرفي، وإلى ما يصدرون عنه من غايات نبيلة. توهَّج اسمه في نهاية الثمانينيات في كلٍّ من “الرأي” “الدستور”، أو لنقل: أدرك جيلي هذا الوَهَج الموسوعي مع تفتّح وعيه وغموض عالمه؛ فإن رام أحدُنا عمقًا فلسفيًّا وجده عنده، وإن أراد الاطلاع على كنز من كنوز التراث فعند العجلوني ضالته. وكان إذا تحدَّث في السياسة جمع في حديثه بين دقة الفكرة ووجاهة الموقف الأخلاقي، لا يهتزّ ولا يتنازل، ويسكن انتماؤه إلى حضارة أمته في صميم وجدانه.

لا أنسى على المستوى الشخصي مواقفه المتينة إبّان انطلاق الانتفاضة الأولى لأهلنا في فلسطين المحتلة، ولا توازنه خلال حرب الخليج الأولى. ولا يمكن لأيّ شغوف بالمعرفة الحقّة أن يتجاوز مقالاته المعرفية؛ إذ يبرز فيها حكيمًا يشير إلى الطريق ويأخذك في مسارات المعرفة، يضيء لك دربًا يقود إلى الإمام الشافعي، وآخر إلى فكر أبي حامد الغزالي، ويأخذ بيدك من الإمام الجويني إلى الباقلاني إلى ابن جني إلى ابن فارس إلى طه عبدالرحمن إلى العقاد إلى نديم الجسر، عابرًا الأزمان، طائفًا بالأفكار كما يطوف أحدنا بأخصِّ نواحي بيته.

فإذا ظننتَ أنه هضم تراث العرب والمسلمين فحسب، تفاجأتَ بأنه عميق الاطلاع على الفلسفة الإغريقية، وخبير في كانط وفولتير ونيتشه وسائر فلاسفة عصر النهضة، وعصر التنوير، والحداثيين، وما بعد الحداثيين.. ذلك مع قدرة على الموازنة بين فكر وفكر، ونفاذ إلى زبدة الأفكار بمهارة فائقة.

ولعلَّ لقائل أن يقول: وما يدريك أنه على هذا القدر من العمق والدراية وأنت لم تعرفه إلا من كتاباته في الصحف، أو شذرات أعماله الأدبية التي لم تطَّلعْ عليها مكتملة فتكون لك القدرة على الحكم الموضوعي، وأنت تعلم أن نفرًا عريضًا من الكُتّاب يستطيع التمويه على قارئه، وانتحال آراء غيره فيُضمّنها قالبًا لا يكتشفه إلا من هو أرسخ منه قدمًا في العلم والمعرفة؟

هنا أعود إلى أول كلامي في هذه الشهادة؛ لأقول إن خمسين عامًا من الإشعاع المعرفي لَتؤكّد أن معدن هذا الرجل معدن متفرد، وبرغم ذلك فإنني في هذه اللحظة أبني حكمي على مجالستي أبا سلطان مرات ومرات، بعد أن هيَّأت لي المقادير معرفته عن كثب، وبعد أن مضت منذ ذاك الوقت الموصوف أعوام كثيرة.

وإنه لحسن طالع رغم تأخّره، تحقَّقَتْ فيه معاني الصحبة، وحالي فيها حال من أخذ بنصيحة الحكيم العربي الذي قال: “إن لم تجدْ من صحبة الرجال بدًّا فعليك بصحبة من إذا صحبتَه زانك، وإن رأى منك خلة سدَّها، أو حسنة عدَّها”. فبائع المسك غدا لي صاحبًا وجليسًا؛ ذلك أنني بعد الصِّبا تغربت عن بلدي، فضربت في الأرض سنوات طويلة، فلم  يتهيأ لي أن ألتقي بأبي سلطان إلا في العام ألفين وسبعة عشر، حين نشرت كتابي الأول “شياطين في حضرة الملكوت” فوصلت نسخة من الكتاب إليه عبر صديقنا المشترك الدكتور حسن المبيضين، وقال فيه أستاذنا أبو سلطان عبر زاويته اليومية في جريدة “الرأي” ما رفعني فوق السحاب، وما أنا إلا دون ما قاله، لكنَّه كرمُ روحه وحسن ظنّه اللذان طُبع عليهما.

حينذاك صممتُ على شكره وجهًا لوجه، فالتقيت به في مكان عمله، ونشأت بيننا أسباب المودة الصافية من كلِّ كَدَر. وتكررت اللقاءات كثيرًا، لا سيما بعد عودتي إلى الأردن بشكل نهائي في بداية العام ألفين وتسعة عشر، فكانت المجالسة تلو المجالسة وأيقنت أن هذا الرجل مدرسة بحالها، وأن في قلبه شيئًا لله، فلا يكتم علمًا، ولا يحضر مجلسًا إلا ترك فيه أثرًا لا يزول.

وهذه الصفات مجتمعة؛ أي نشر العلم، والموسوعية، وصفاء القلب، وجودة الذهن، تجعل جليسه رابحًا في كل حال؛ وأيُّ ربح هو! فإنك إن حدثتَه في الفلسفة خاض بك بحرها الواسع وقدَّمها لك على طبق من مودّة، وإن حاورتَه في الأدب استرسل فيه كمن لا تخفى عليه شاردة من شؤونه، وكلما فُتح أمامه باب ولج فيه واستخرج لك من كنوزه ما لا يقدر عليه غيره، كل ذلك يأتيك مقرونًا بذاكرة حافظة، ولسان طلق، وقريحة متوثبة، واطّلاع عميق أفنى فيه سنوات من عمره، زادُهُ فيها كتبُه، ومحركه شوقٌ غامر إلى المعرفة.

وبقي إلى اليوم الذي تُوفي فيه على النهج نفسه؛ عودًا كلَّما عركته التجارب زاد طيبًا. ولعلَّ إيمانه بأنه صاحب مشروع وجب عليه القيام به لم يفارقه حتى اللحظة الأخيرة؛ مشروعه هذا كتاب موسوعيّ عن شخصية الرسول محمد -عليه الصلاة والسلام- يتناول فيه صورته في عيون الغربيين، ويفنّد افتراءاتهم عليه وعلى شخصّه المطهر. إنه فوق علمه وموسوعيته محبٌّ مخلصٌ لشخص نبينا العظيم، يحتسب عمله هذا عند الله، ويُنيلك إذ تجالسه قطوفًا من محبته هذه، فتكتمل سحابة المسك التي يغمرك بها: علم ثرٌّ من ناحية، ومحبة لله ورسوله من ناحية..

أي بائع مسك كنتَ وما زلتَ يا أبا سلطان!

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *