(ثقافات)
قط ذكر لقطةٍ وحيدة
* هناء متولي
(1)
غُرز التِّريكو التي تحكيها (قِسمَت) مُحكَمةٌ ودقيقةٌ كأنَّها وُلِدَت لتفعل ذلك، الشَّال الصُّوفيُّ والعباءة التي ترتديهما من صُنع يديها، أمَّا البالطو الذي يُغطِّيه الشَّال فورثته من والدتها، وهو دائمًا ما يحمل الدِّفء لقلبها.
انتبهَت إلى الظلام من حولها حيثُ لم تُضئ المصباح منذُ جلسَت على مقعدِها ظهرًا، الساعة الآن تمام التاسعة، تتساءل: “كيف استغرق نسجُ الجوربين كل هذا الوقت؟”، وتتساءل أيضًا: “متى أكفُّ عن النسيان، وأعود إلى إدراك العالم من حولي؟”.
حمدَتِ الله على أنَّها تُحضِّرُ طعام يومٍ كامل لقطتها كي تكفَّ عن مشاغبتها أثناء انشغالها بغرزِ التِّريكو مهما استغرَقَ ذلك من وقتٍ. نظرَت إلى قطتها في محبَّةٍ، وتركت الكرسيَّ بينما تألَّم ظهرها قليلًا. شعرَت أنَّ الجو معتدل؛ فتخفَّفَت من شالِها الصُّوفيِّ وعصابة رأسها، لكنَّها جائعة على الرغم من كونها لم تعد مُهتمَّة بالأكل كالسابق.. وتتعجَّب من طبقات الدهون حول خصرها، وساقيها النحيفتين الطويلتين، وثدييها المُنكمشين.
أخرجت طبق الخرشوف المغسول وقطع اللحم والتوابل والبصل والماء، ووضعتها جميعًا في إناء مناسب، وأشعلَت الموقد أسفله، ثمَّ رتَّبتْ مكتبتها حتَّى تنضج الشوربة.
بعيدًا عن كل الأشياء التي خسرتها في عزلتها الطويلة، ما زالت محتفظة ببعضٍ من الخِفَّة رغم قِلَّة حركتها؛ تقضي ساعاتٍ مديدةً في التطريز، وبقيَّة الوقت تُلازم الفراش لا تتركه إلا لقضاء الحاجة أو لتحضير وجبة سريعة من الخضروات والجبن.
(قِسمَت) الأربعينية، بنظرة بعيدة من غريب لا يعرفها يعتقد أنَّها سيدة كبيرة في السِّنِّ، شقَّتها المغلقة على الدوام إلا من نافذة وحيدة للتهوية، وصوتها المهزوز، ومواء مُتَقطِّع لقطَّةٍ، جميعها أمور تُغلِّفها بالغموض والشَّفقة.
حساء البروكلي ليس نمطًا غذائيًّا جديدًا عليها، تتناوله منذ عشر سنوات تزامنًا مع مرحلتها الجديدة كامرأة وحيدة تعيش مع قطَّتها العجوز، لم تحب الحيوانات الأليفة من قبل، اقتنت قطَّتها لتقضي الساعات في إحصاء عدد دقَّات قلبها وارتعاش جفونها.
تشتبك الأسئلة في رأسها.. وتُفكِّر ساهمةً للبحث عن إجابات.. لماذا تتناول الطعام في المطبخ كل يوم؟ لماذا لا تتناوله على الفراش أو أمام التلفاز أو حتَّى فوق أرضية الحمام؟ لماذا لا تتصرَّف بحرية، وتبجُّح إن أمكن؟ لماذا لا تسير في الشقَّة عارية؟ لماذا تنام بملابسها كاملة وشعرها في أغلب الأحيان مغطى؟ لماذا صوت الراديو والتلفاز خفيض؟ لماذا تغلق باب الحمَّام خلفها؟ أمن الممكن أن يكون هناك مَن يتجسَّس عليها؟
ليس غريبًا أنَّها تتمنى أن يظهر لها شبحٌ أو جنِّيٌّ أو ما شابه، أيُّ شيءٍ يكسر رتابة حياتها ويجعلُ لها طعمًا ولو بالخوفِ، كانت تخاف هذه الأشياء في صغرها، وكانت تتمنَّى الحُرِّيَّة، أين أحلامها التي تراءت أمامها في وقت ما كنجمة في سماء معتمة؟ لماذا لا تجدها الآن؟
أنهت الغداء ولم يترك في حلقها لذَّةً أو طعمًا، ثُمَّ جلسَت كأنَّها تشاهد التلفاز، وسقطت في شلَّال من الذكريات، قبل سنوات، كانت عروسًا جديدةً وتحمل في أحشائها طفلًا، دخل عليها زوجها بينما تُجهِّز نفسها لإبلاغه بالخبر السعيد، لكنَّه يفاجئها بخبر آخر:
– أحبُّ امرأة أخرى، أنت طالق.
مسحَت دمعة فَـرَّت على وجنتها.. أطفأت التلفاز.. وفي حدث لا يتكرَّر كثيرًا خرجَت إلى شرفتها لتتبُّع حركة النَّاس لعلَّها تجدُ دفئًا جديدًا يُريحها من التَّذكُّر، تأمَّلَت خيوط العنكبوت في السقف، دِقَّتها وتشابكها ودواماتها اللا متناهية والتي تُشبه ذاكرتها، تتعبُ من تتبُّع حركة النَّاس.. تجرُّ ساقيها السَّرير.. تتمدَّدُ.. تنامُ.
(2)
للمرَّة الأولى منذ عامين تنزل إلى الشارع لسببٍ آخر غير صرف معاشها أو الذهاب إلى البنك، لم يكن هناك سببٌ للخروج هذه المرَّة، فقط أرادَت الخروج، شدَّت باب بيتها برفق وأدارَت فيه المفتاح مرتين.. وضعَت ساقها عند أوَّل درجة من السلم؛ فشعرَت بدُوار أو كأنَّما أصابها عمى مفاجيء، حاولَت أن تهبط درجة أخرى، لكنَّ إحساسها بالسقوط يُشَوِّش رؤيتها.
هل صار عليها أن تتعَلَّم النزول على الدَّرَج من جديد؟
جلسَت مكانها ثُمَّ أخذت تهبط كطفلٍ يتعلَّم، شعرَت بأقدام تسقط فوق رأسها.. تماسكَت واستدعَت ثباتًا قديمًا.. وهبطَت واقفةً رغم عثراتها المتوالية.. صفعتها الشَّمس بقوَّة.. اقترب منها حارس العقار مندهشًا:
– سيدة (قِسمَت)، هل تريدين شيئًا ما؟
– لا، شكرًا ، اليوم نويت أن أتبضَّع حاجاتي بنفسي، أفتقد ضوء الشمس ووجوه البشر.
تحرَّكت لخطوتين.. ثم توقَّفَت.. واستدارت بوجهها تسأل الحارس:
– هل ما زال كل شيء في مكانه؟
– كل شيء كما كان دائمًا.
تتلفَّت حواليها وتجدُ الشَّمس في السماء، والأرض في مكانها، والناس في الشوارع، على المقاهي، وفي المحال، الحياة لم تتوقف، لكنَّها هي التي توقَّفَت، الأطفال يُشبِّكون أصابعهم الصغيرة ويصنعون دائرة.. يُغنُّون ويلعبون كما كانت تفعل وهي صغيرة (فتَّحي يا وردة، اقفلي يا وردة)؛ فأغمضت عينيها معهم، وتخيَّلَت نفسها مُتجرِّدة من شالها الصُّوفيِّ الثَّقيل، ومن أعباء رُوحها، وتنضم إليهم تلعب.. تجري.. تمرح.. تسقط.. تؤذي ركبتيها كالسَّابق، وتُرسل القُبل في الهواء.
تابعَت المشي بصعوبة في البداية، ثُمَّ بمرونة أكثر، وهكذا حتَّى شَدَّتها لوحة امرأة برأس مُشَوَّهةٍ في بازارٍ على أوَّل الميدان، دخلَت تسأل عن سعرها، صاحب البازار رجلٌ خمسينيٌّ له رائحة الرجال التي نسيتها يوم أن احتضنها زوجها بعناقٍ زائفٍ حين فقدت جنينها. هل تعمَّد النظر في عينيها؟ هل لامَسَت أصابعه ثديها المنكمش؟ المدهشُ أنَّها ما زالت تشعر كامرأة.. تناولَت معه فنجانًا من القهوة وثرثرَت طويلًا حتَّى تفاجأت من عفويَّتها واسترسالها.. ثرثَرت كمن بحاجةٍ إلى الكلام الطويل.. أخبرَتهُ أنَّها وحيدة مع قطَّتها.. كما أخبرَته عن والديها اللذين تُوفِّيا أثناء قضائهما فريضة الحجِّ.. أخيها الذي تزوَّج ورحلَ بعيدًا.. بيتِ العائلة الذي بِيعَ.. إرثِها الذي لم تحصل عليه كاملًا.. شقَّتِها الصغيرةِ في الحيِّ الهادئ.. فوائدِ الوديعةِ ومعاش الأب، تحدَّثت كثيرًا.. كثيرًا جدًّا.
عرض عليها صاحب البازار أن تعمل معه بعد أن أخبرها بحاجته إلى من يساعده، خصوصا بعد رقود زوجه ومرضها، وقبل أن تودِّعَه شدَّ على يدها، واحتكَّ بمؤخرتها.
(3)
الماء البارد يتدفَّق على جسدها؛ فيتحوَّل إلى بخار كثيف يملأ فراغ الحمَّام، تدعك جسدها بعنف حتَّى تخدشه؛ فينزف، تجلس على الأرض.. أسفل الدشِّ مباشرة.. تترك الماء يدقُّ رأسها.. تحاول البكاء.. تتسوَّل دمعًا؛ فلا تجد، تخبط رأسها؛ لتمنع تدفُّق الذكريات لفتاة كانت مُدلَّلة، لم تختبر من الحياة إلا أحسن ما فيها، حبيبة والديها تنتقل إلى العيش مع زوج خائن، ثُمَّ الطلاق ورحلة البحث عن الذات، ثُمَّ فرص عمل خائبة، فصدمات من الصديق والقريب، فالفشل الذي يعقبه فشل، ففقدان الوالدين، وجحود الأخ، والعزلة الاختياريَّة، حتَّى انتهَت أخيرًا إلى عرض رخيص ومتأخر يضمن لها العمل والجنس في آن!
البرد يأكل عظامها.. تتدثَّر بالغطاء.. تنام للمرَّة الأولى قبل أن تغلق عينيها.. تستيقظ هادئةً.. تُحضِّر إفطارها وطعام قِطَّتها.. ترتدي ثوبًا ثقيلًا أسفل البالطو والشَّالِ الصُّوفيِّ.. لا تُضيء المصباح وتكتفي بالضَّوء المُتسلِّلِ عبر النافذةِ.. تنخرط في نسج خيوطٍ تشبه خيوط العنكبوت في دوَّاماتها.. تمحو ذاكرة الأمس وتنتوي شراء قِطٍّ ذكرٍ يؤنسُ وِحدةَ قِطَّتها.
- كاتبة مصرية