القول الثقيل في علم الكلام الجديد

(ثقافات)

القول الثقيل في علم الكلام الجديد

د.علي أحمد الديري*

   جمعتني والرفاعي طرقٌ ومسالك تحت مظلات كثيرة، منها: الأستاذية وما فيها من لذة المريد، والصداقة وما فيها من قوة العلاقة، واللقاء وما فيه من قوة الشوق، والكتابة وما فيها من كلّ ذلك.

أكتب هذه الشهادة وأنا أتنقل بين مطارات الهجرة على موعد للقاء بيروتي يجمعنا بعد انقطاع يقترب من سبع سنوات. نعم، نحن أصحاب الأوطان المؤجلة، نجد فيما يجمعنا وطنًا ليس بديلًا لكنه أثير.

أكتب في هذه اللحظات – في ناشئة من لحظات ما قبل الفجر التي يقهرك عليها السفر الطويل بين القارات – مُستلهمًا فكرة من إشارة وردت في مقاربة الرفاعي لمفهوم الوحي في علم الكلام الجديد، وأوقفتني على فتح لطيف لمعنى الثقل في الآية “إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا”، المزمل، 5. يفسّر الرفاعي الثقل بالتكامل الوجودي للنبي “ص”، الذي جعله مستعدًا لتحمل هذا النوع من قول الوحي بصلابة وقوة وعزم وإيمان وتسامٍ وإصرار، الوحي بهذا التحمل صلة استثنائية بالله، حالة وجودية: إلهية بشرية/بشرية إلهية. أي أن الثقل، يكمن في الذات، في وجودها الذي تُنشئه بقوة روحها وعقلها وهي تَشق معنى النص الذي يُوحى إليها، بقدر ما النص يشق سمعها.

هكذا أفهم النص الديني باعتباره قولًا ثقيلًا بما فيه من قوة تكوين وفتح وإنشاء وفرادة، يتطلب منا أن نتلقاه بقلوب مشعة بالإيمان وعقول مليئة بالنور، وقراءات مفعمة بالتأويل الذي يُعمّر الأرض بالخير والسلام والسكينة، لا العنف والقتل والتوحش.

 كلُّ ما يُلقى من خطاب، يحمل قوة الفكرة وأفق الغيب واتساع الأرض وسر الإنسان، أعتبره قولًا ثقيلًا، يستدعي الصداقة والصحبة واللقاء والأستاذية والمريدية، فأنت تحتاج إلى من يشاركك حمله بأحد هذه العناوين. جمعتني صحبة “القول الثقيل” مع الرفاعي، فنحن نتشارك حمل هذا القول وتقليبه بأفهام متعددة، وتخليصه من ثقل العنف، وشحنه بثقل المعنى.

تجربة الوحي في فهم علم الكلام الجديد، وفي فهم العرفاء والمتصوفة لا تنتهي ولا تنقطع، ما دامت السماء مُلهمة والأرض عامرة. ينتهي التشريع، لكن لا تنتهي مهمة الإنسان في قراءة القول الثقيل، يظل الإنسان يسعى لإعطاء القول الثقيل معنى دنيويًا يعيش به، ويخفف به ثقله المادي، ليغدو كائنًا خفيفًا، وفق نظرية الصوفية في الكثائف واللطائف.

  القول الثقيل حين يتجسد في لغة حية، يعطيها من غيب وحيه، وتُعطيه من شهود أرضها، تمامًا كما قال محمود درويش، وهو يتحدث على لسان إدوارد سعيد في طباقه مع هويته: “ولي لغة إنجليزية للكتابة طيّعة المفردات، ولي لغة من حوار السماء مع القدس، لكنها لا تُسعف مخيلتي”. في حوار السماء مع القدس، تلتقي لغة الوحي المقدسة مع لغتنا العربية المعيشة في التاريخ والمجتمع، هنا ينشأ ما يمكن أن نسميه إشكالًا ثقيلًا، يحتاج إلى جهود بشرية تبتكر له حلولًا وشروحًا وتأويلات غير منتهية.

أشترك مع الرفاعي في هذا الحوار، نطوّع لغتنا وأفكارنا وكتاباتنا، لتقليب هذا القول الثقيل، وفهم إشكال لقاء الغيب مع الأرض فيه، وإعطائه معنى دنيويًا، من دون أن يفقد خزائن غيبه المكتنزة بالمجاز.

لا أحد يحتكر شرح القول الثقيل ولا تأويله ولا تنزيله في قلوب الناس وعقولهم، سيغدو علم الكلام الجديد في مقاربة الرفاعي، محاولة لتنزيل القول الثقيل، لخدمة الإنسان وحفظ كرامته، وذلك بأن يكون نازلًا فيه وله، لا عليه، بمعنى نازلًا من أجله، لتلطيفه وترقيقه، لا نازلًا كأجل عليه، لتعنيفه وتغليظه.

  في عام 2002 كنت رفيق الرفاعي لزيارة صديقنا المفكر جودت سعيد، أستعيد الآن هذه الزيارة، باعتبارها صداقة ولقاء مع أحد مؤولي القول الثقيل، وأحد الشخصيات التي بذلت جهدًا كبيرًا لتخفيف ثقل العنف من أفهام من يعتقدون أن ثقل القول يعني صرامة الحدود، وكثرة الفروض، وشدة العقاب، وغلظة البراءة من المختلف، ونافحت من أجل توجيه معنى الثقل إلى وزن الروح وعمق الجمال وتجرّد المطلق.

الذين لا يتلطف ثقل القول في أفهامهم، لا يتجاوزون جرن الناقة، ويظلون يرددون للانبهار الخارجي: “إن النبيّ (ص) كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جِرانها، فما تستطيع أن تتحرّك حتى يُسرَّى عنه”، الجِرن هو باطن العنق، إذا برك البعير ومدّ عنقه وصدره على الأرض، قيل: ألقى جِرانَ بالأرض. إنها صورة تعبر عن ثقل ما يتلقاه النبي (ص) من قول، وكذلك هي صورة لطبيعة حياة النبي في الأرض، بشر يمشي في الأسواق ويركب دابته، ويتفاعل مع الغيب من فوق ظهر ناقته، نحتاج لهذه الصورة المركبة للنبي كلّها لنقدم كلامًا جديدًا، كلامًا يمد عُنق النصّ، لا يلوي عنق النصّ، ولا يتوقف عند جِرن عنق الناقة.

الذين يظلون في ثقل الظاهر، يفقدون خفة الباطن، ولا يتجاوزون ثقل جرن الناقة، إلى جِرن العقل والروح حيث الأفكار تُطحن وتُدق وتسوّى، وهذه واحدة من معاني الوصل بالغيب وتحقق الوحي، والنبوة بما هي صلة بالغيب، هي رسالة بفكر جديد وفهم جديد وكلام جديد، ومن هنا يأتي معيار الكلام الجديد في فهم الرفاعي: أن يُقدّم المتكلم فهمًا جديدًا لمعنى الوحي.

من يتمكنون من توطين أنفسهم على تحمّل مشقة الوصل بالغيب، ليشقوا سمعًا جديدًا، يتكلمون كلامًا جديدًا، يُنشئون به فهمًا جديدًا للوحي، وهذا عين ما قاله ابن عربي: “فإن الله سبحانه لما أغلق دون الخلق باب النبوة والرسالة أبقى لهم باب الفهم عن الله فيما أوحى به إلى نبيه (ص) في كتابه العزيز”[1]. يبقى الغيب حاضراً في الفهم كرزق وفتح من الله: “وكان علي ابن أبي طالب يقول: إنّ الوحي قد انقطع بين رسول الله، وما بقي بأيدينا إلا أن يرزق الله عبداً فهماً في هذا القرآن “[2].

وصل الفهم هو ما بقي من الوحي بعد ختم وحي الشريعة، به نجدد معنى ثقل القول، ويحرص ابن عربي على تذكيرنا بالصحبة والتخلق والأدب، فبهم نستعين لتوطين النفس على تحمّل مشقة القول الثقيل. وهذا ما لمسته في صحبة الرفاعي التي لا تنفك عن التأدب والتخلق. وقد صحبني في تقديم كتابين لي عن ابن عربي، فمقاربة خطاب ابن عربي بما يحمله من قول ثقيل بحاجة إلى أن تُلقي عليه جرانك أي توطن نفسك عليه، ولا يكفي ذلك، بل أنت بحاجة إلى صاحب يطمئنك إلى أنك تلقيت هذا القول الثقيل بما يليق به، فوجدت السكينة في شهادة الرفاعي حين كتب لي: “إنها المرة الأولى التي يأخذني باحث إلى فضاء لا مفكر فيه في ميراث محيي الدين العميق، الدقيق، الخصب، المركب … شكرًا لك لأنك اجتهدت في عبور المكررات والاجترار الأجوف والترميق اللفظي والنصوص الوثوقية في دراسة هذا الكنز المجهول في دنيا العرب”.

في كتابي الثاني عن ابن عربي، اهتممت بتخفيف ثقل مقولة (وحدة الوجود)، لأنزلها من صومعة التصوّف إلى الأرض المحتربة بالتكفير، كانت صحبة الرفاعي تقول لي، لا ينسيك الاحتفاء الشيعي بابن عربي، الأصوات التي كفرّته وزندقت قارئه الأكبر ملا صدرا الشيرازي، من داخل الخطاب الشيعي نفسه، فتداركت بصوت الصحبة، ما كان سيبدو نقصًا معيبًا.

هكذا، تغدو صحبتنا دومًا، على مفترق قول نُقلّبه ونخففه بحُبّ وشغف ومتعة.

*  باحث وناقد من البحرين.

[1] ابن عربي، الفتوحات المكية، باب 25، ج1، ص285 .

[2] ابن عربي، الفتوحات المكية، باب 25، ج1، ص 258.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *