عندما كتب محمود درويش عن الساحر دييغو مارادونا

عندما كتب محمود درويش عن الساحر دييغو مارادونا

فخري صالح

 

اعتاد الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل محمود درويش (1941- 2008) على تكريس وقت الصباح للقراءة والكتابة، مطوراً تجربته الشعرية، وعاملاً بدأب على توسيع آفاقه المعرفية، من خلال الاحتكاك بحقول معرفية متعددة ومتنوعة. لكنه خصص وقت المساء لاستقبال أصدقائه، ومشاهدة التلفزيون، وخصوصاً مباريات كرة القدم، التي رأى فيها ساحةً للصراع السياسي، وتأكيداً للذات القومية، وتشديداً على الهويات، في عالم معاصر تأكله نار الحروب والصراعات والكراهيات. وقد كتب درويش بعض الصفحات القليلة عن كرة القدم، ونصّاً فارقاً يحتفل فيه باللاعب الأرجنتيني – الأسطورة دييغو مارادونا (1960- 2020).

في كتابه “ذاكرة للنسيان” (طبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1987)، الذي يروي فيه درويش يومياته أثناء حصار بيروت عام 1982، واجتياح الإسرائيليين لها، يكتب عن شغف المحاصَرين بمشاهدة مباريات كأس العالم، حيث يتوقف القصف أحياناً حتى تنتهي بعض المباريات المهمة. كان درويش ورفاقه المحاصرون ينزلون إلى قبو إحدى البنايات ليشاهدوا الحرب الصغيرة الدائرة في الملعب، متناسين، ولو إلى حين الحرب الكبيرة الدائرة في الخارج، التي تستهدف اللبنانيين والفلسطينيين، حيث تتوقف آلة القتل الإسرائيلية ساعة ونصف ساعة تقريباً، هي وقت المباراة. تسعون دقيقة من الزمن تهدأ فيها المدافع وقصف الطائرات فيتمكَّن المحاصرون من مشاهدة اللاعب الإيطالي باولو روسي وهو يفعل الأعاجيب في الملعب.

غالب حويلا.jpg
محمود درويش الشاهد (متحف محمود درويش)

يقول درويش: “ونحن أيضاً نحب كرة القدم. ونحن أيضاً يحق لنا أن نحب كرة القدم، ويحق لنا أن ندخل المباراة. لمَ لا؟ لمَ لا نخرج قليلاً من روتين الموت. في أحد الملاجئ استطعنا استيراد الطاقة الكهربائية من بطارية سيارة. وسرعان ما نَقَلَنا “باولو روسي” إلى ما ليس فينا من فرح، رجلٌ لا يرى في الملعب إلا حيث ينبغي أن يُرى. شيطان نحيل لا نراه إلا بعد تسجيل الهدف، تماماً كالطائرة القاذفة لا تُرى إلا بعد تسجيل أهدافها”. (ص: 135) وتمثل هذه الانعطافة التعبيرية، ومقارنة هدف روسي المباغت بالطائرة الإسرائيلية التي تحلق في السماء لا يراها المحاصرون إلا بعد أن تلقي جحيم نارها عليهم، عودة بالمحاصر إلى واقعه الذي كاد ينساه وهو مسلوب اللب يشاهد أهداف ساحر الكرة الإيطالي. “حيث يكون روسِّي يكون الغوول، يكون الهتاف، ثم يختفي أو يتلاشى ليفتح مسارب الهواء من أجل قدميه المشغولتين بطهو الفرص وإنضاجها، وإيصالها إلى أوج الرغبة المحقَّقة. لا تعرف إن كان يلعب الكرة أم يلعب الحب مع الشبكة”.

فوتبول تحت الحصار

يعبِّر محمود درويش عن شغفه بكرة القدم، وقدرة الحرب الدائرة على المدوَّرة الصغيرة أن تنسي المحاصرين المدافعَ والصواريخَ التي تنهمر عليهم من كل صوب، ولو إلى حين. يبتعد الحصار بضعة أمتار، لينشغل المحاصرون بمشاهدة الساحر باولو روسي وهو يفترع بكارة الشبكة، ويباغت المدافعين بهدف صاعق، مثل صاروخ طائرة نازل من سماء بيروت المحاصرة. يتساءل الشاعر الفلسطيني، الذي يبدع نثراً لامعاً ساحراً كشعره، عن سحر كرة القدم، عن المتعة البريئة التي تتحول حرباً تدور حول الاستحواذ على الكرة، وتسديد الأهداف في مرمى الخصم: “كرة القدم، ما هذا الجنون الساحر، القادر على إعلان هدنة من أجل المتعة البريئة؟ ما هذا الجنون القادر على تخفيف بطش الحرب وتحويل الصواريخ إلى ذباب مزعج. وما هذا الجنون الذي يعطل الخوف ساعة ونصف الساعة؟”.

في مقالة لاحقة كتبها محمود درويش عام 1986عن دييغو مارادونا، عندما حقق مارادونا حلم الأرجنتين (التي خسرت اللقب على يد إيطاليا عام 1982)، بالتربع على عرش كرة القدم، مرة أخرى في مونديال المكسيك 1986، ونيل لقب بطل العالم على يد الساحر مارادونا الذي صار أسطورة عالمية، يهتف باسمه مئات الملايين من البشر. ففي هذه المقالة الفاتنة، التي تجمع بين التعبير عن الشغف بلعبة كرة القدم، والإعجاب بمارادونا الذي يحقق حلم ملايين الفقراء والمهمشين، وأبناء العالم الثالث، الذين يعثرون في اللاعب الأرجنتيني على صورتهم، يقدم درويش تحليلاً شعريّاً – سوسيولوجيّاً، ما بعد – كولونياليّاً، عميقاً، لعلاقات السيطرة والهيمنة، والصراعات، السياسية والثقافية والرياضيَّة، وآليات المقاومة التي تبديها الشعوب، ومن ضمنها الصراع على أرض الملعب.

thumbnail_IPS_PC_81_84 copy.jpg
مشهد من مباراة كرة قدم في فلسطين 1902 (مؤسسة الدراسات الفلسطينية)

هكذا تتحول كرة القدم، ومن خلال لاعب ينتمي إلى شعوب العالم الثالث، وطبقاتها الأشد فقراً، إلى ميدان للصراع، والتعبير عن حلم التحرر والانتصار. ومن هنا يبدو النص الذي كتبه درويش، في لحظة حائرة من تاريخ فلسطين والعالم، بعد رحيل منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، وبحث الفلسطينيين عن ضوء في النفق المظلم البعيد، تعبيراً عن مشاغل سياسية من خلال استعارات كرويَّة. ولهذا يسأل درويش: “ما هي كرة القدم هذه؟”، ويجيب: “هي شيء من صراع التأويلات، ومسرح واقعي لتعديل موازين القوى، أو المحافظة عليها، لخلق مستوى آخر للواقع، أو تثبيته. هي شيء من لعبة إعادة تركيب العالم على أسس مختلفة، وعلى جدارة مختلفة. حرب عالمية يمارس فيها خيال الشعوب دوره الغائب أو الحاضر. لا أحد يتفرج على سباق الأجساد، والمهارة، والذكاء، المعبِّرة عن طبائع الأمم في الهجوم والدفاع، في العنف والرقص، في الفردية والجماعية”.

يكتب درويش في هذا النص الذي يعطي له عنواناً شديد الوقع والتعبير، “لن يجدوا دماً في عروقه بل وقود الصواريخ”، مستخدماً نثراً ساحراً، يجعل من مقالته هذه واحدة من أهم النصوص التي كتبها أدباء عن كرة القدم: “ماذا فعلت بالساعة، ماذا صنعت بالمواعيد؟ ماذا نفعل بعدما عاد مارادونا إلى أهله في الأرجنتين؟ مع منْ سنسهر، بعدما اعتدنا أن نعلِّق طمأنينة القلب، وخوفه، على قدميه المعجزتين؟ وإلى منْ نأنس ونتحمَّس بعدما أدمناه شهراً تحوَّلنا خلاله من مشاهدين إلى عشاق؟ولمن سنرفع صراخ الحماسة والمتعة ودبابيس الدم، بعدما وجدنا فيه بطلنا المنشود، وأجج فينا عطش الحاجة إلى: بطل… بطل نصفق له، ندعو له بالنصر، نعلِّق له تميمة، ونخاف عليه ـ وعلى أملنا فيه ـ من الانكسار؟”.

مارادونا الساحر

283436-63899214.jpg

من الفدائي، الذي صنع في حرب بيروت “من جزمة أفقاً”، كما يقول درويش في قصيدته المطوَّلة الشهيرة “مديح الظل العالي” (1983)، يتحوَّل الشاعر إلى ساحر الكرة دييغو مارادونا ليبحث فيه عن بطولة غائبة في زمن الانكسار، والتيه، وافتقاد الطريق، والرماد، الذي أناخ بظله الثقيل على الفلسطينيين بعد رحيلهم عن بيروت. ولهذا من الصعب فهم هذه المقالة، التي كتبها درويش عن مارادونا، إلا على خلفية هذا الوضع الذي آل الفلسطينيون إليه بعد أن أقاموا ما أطلق عليه، إيجاباً أو سلباً، “جمهورية الفاكهاني، أي الحي البيروتي الذي استقرت فيه القيادة الفلسطينية أكثر من عقد من الزمن قبل اجتياح بيروت في صيف عام 1982.

مقارناً بين مارادونا ولاعبين كبار آخرين، من أميركا اللاتينية ومن أوروبا، ينحاز درويش إلى اللاعب الأرجنتيني الذي يعيش في دنيا كرة القدم ولها. ليس لديه أحلام لاعبي أوروبا الراغبين في تحسين دخلهم أو مستواهم المعيشي، أو تأمين تقاعدهم المستقبلي. إنه متصوف في الملعب، لا يفكر إلا في الارتفاع من مرارات الطفولة إلى حلم الجماهير، الجماهير المضطهدة في كل مكان، التي تعلق عليه آمال الانتصار، ولو في فضاء الملعب الأخضر، الذي يحقق فيه مارادونا المعجزات. لاعبٌ قصير القامة يراوغ لاعبي ألمانيا العمالقة، ويتسلل من بينهم ليصنع الانتصار. طفولته المعذبة الفقيرة دفعته إلى سحر الكرة. فهو “يعرف شيئاً واحداً هو أن كرة القدم حياته وأهله وحلمه ووطنه و… كونه. منذ طفولته الفقيرة في كوخ من تنك، تعلَّم المشي على الكرة. كان يلف كرة الخيطان حول علب الصفيح ويلعب. ولعل الكرة هي التي علمته المشي. مشى من أجلها. مشى ليتبعها. مشى ليلعب بها. ومشى ليسيطر عليها. لقد تمحورت طفولته حول كرة الخيطان إلى أن ضحى أبوه براتبه الشهري ليشتري له كرة قدم حقيقية. وانطلق… ليكون أصغر لاعب في منتخب الأرجنتين. وهكذا، ارتفع مارادونا ـ الولد المعجزة ـ من أشد البيوت فقراً إلى أوسع الآفاق، إمبراطوراً على كرة القدم”.

يختم درويش مقالته، وتأويلاته الشعرية، التاريخيَّة، للصراعات، والهزائم والانتصارات، وعلاقة العالم الأول بالعالم الثالث، والعنصريَّة التي يمارسها الغرب ضد الآخر، حتى في ملاعب كرة القدم (وهو شيء شهدناه في مونديال قطر 2022، فما أشبه الليلة بالبارحة)، بالقول: “لعب مارادونا من أجل اللعب. وحوَّل كرة القدم إلى أغنية راقصة. مزيج من السامبا البرازيلية والتانجو الأرجنتيني. لا يمكن إيقافه ـ كما لا يمكن للحكم الأحمق أن يوقف موج البحر. هكذا يقول الخبراء الرياضيون الذين وجدوا في المرجعية الشعرية اللغة الوحيدة القادرة على وصف هذا الشيطان الملائكي، صانع الفرص، نشَّال ماهر، موجود في كل مكان، حوَّل الملاعب المكسيكية إلى مرتعه الخاص”.

 هكذا يرتفع ساحر الكرة الأرجنتيني بلعبة كرة القدم إلى نوع من الهيام العاطفي، إلى شغف وصوفيَّة كروِّية، وسموٍّ على موازين القوى، وخرقٍ لقوانين القوة، فالأقوى سلاحاً وعتاداً، وهيمنة سياسية واقتصادية وتكنولوجية، ليس بالضرورة هو الأقوى في ساحة اللعب.

  • عن اندبندنت عربية

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *