*علي النجار
هل بتنا منتج صناعي إلكتروني بامتيازات عصر الميديا وجذرها الإلكتروني, وسيادة عمل صناعها(الفنانين) الإلكترونية, مبرمجين ومنفذين, وشركائهم الممولين والمستثمرين. فبعد سيادة البرمجة الإلكترونية مجالات إنتاج واسعة, سواء الصناعية منها أم الفنية (السمعية ـ البصرية). بات من الصعب استغناء استوديوهات الإنتاج الفني البصري بفروعها المتعددة والمتشعبة, عن خدماتها الفائقة. مثلما ضرورتها للإنتاج أو المساهمة في إنتاج واستنساخ الكثير من الأعمال الصناعية والمنتجات التجارية الفنية(الفوتو, الفوتو كراف, الرسم الملون ,المنحوتات وماكيتات الأعمال الإنشائية, الإكسسوارات والأزياء, وغيرها).وكان من المتوقع أن تتطور وتتوسع مجالات التقنية وتنفيذ الأعمال التي توظف هذه التقنية المعملية.
لا تخلو بعض من شوارع المدن الأوروبية من مطبات إيهامية فنتازية, هي من صنع فناني رسوم الأبعاد الثلاثة, رسوم هي بمستويات متعددة حسب مهارة الفنان المنفذ. غالبية هذه الرسوم تمثل مناظر مجسمة تخترق سطح الشارع للعمق بمساقط عمودية نازلة. وبعضها الآخر لا يكتفي بذلك, بل يضيف وهم المساقط المرتفعة عن مستوى الأرض. وغالبا ما يتفاجأ المارة بهوة تعمرها بنايات وكائنات, أو بمنشاة تعيق مرورهم. وفي بعض الأحيان تقام معارض احتفالية لأعمال فناني الأبعاد الثلاث, و تحتل مساحات كبيرة من الساحات أو الشوارع. هو احتفاء رسمي بصبغة شعبية لأجل المتعة أو الإعلان, أو كلاهما معا. ثم تنتهي العروض وتمحى الرسوم بانقضاء حاجتها. لكن أن تصنع مفردات مشابهة من هذه الرسوم تجسيديا, مجسمات نحتية آلية, فهذا ما حققته النتائج البرمجية الرقمية الجديدة.
أعتقد بأن النتائج المميزة لأعمال الهولندي(ايرك فان ستراتن), كنموذج في هذا المجال, لم تفاجئ الوسط الفني, بقدر كونها خطوة متقدمة في مجال البحث والاكتشاف والتصنيع لبرامج الطباعة الثلاثية الأبعاد المتعددة, وأعتقد أيضا بأن لسيرة حياة, أو اهتمامات ايريك الشخصية المتعددة, الفنية والعملية( فوتوغرافي, موسيقي, صحفي, ثم رجل أعمال) أثراً واضحاً في تكوين طبيعة أعماله الطباعية التجسيدية بطابعها الشعبي(البوب) وبجذر جمالياتها ذات الإيحاءات الفنتازية و الايروتيكية الحداثية الأوروبية. هي بشكل عام لا تختلف مظهريا عن منتجات الفن الهابط, لولا أسطورتها الرقمية والاختيارات الذوقية لمبتكرها التي بالتأكيد تحمل تراكمات جذرها الثقافي المحيطي وغير بعيد عن معاصرة أعمال فنية أخرى, سواء الفن الشعبي(البوب) الياباني الحالي أو الأمريكي الشمالي.إذ أن هناك مقاربات بشكل من الأشكال مابين مظهرية مجسماته النحتية وأعمال فنانين معاصرين من كلا المنطقتين. وأعتقد بأن ايريك لم يكن غافلا عن ذلك, بشكل خاص لكون هذه الأعمال حظيت بإقبال كبير من قبل حاضني ومروجي وجامعي الأعمال الفنية المعاصرة. تجربة هذا الفنان الهولندي التسويقية تتشابه كثيرا و تجربة الفنان الأمريكي المعاصر(جيف جونز), مع اختلاف اختيارات الموضوع والمادة المنتجة وطرق إنتاجها. والذي هو الآخر لا تختلف سيرته الذاتية عن سيرة ايريك. وليس غريبا أن تتقارب أعمال الفنانين بكل إشكاليتها الفنية , واختلاف طرقها التنفيذية, التي تجمع مابين الذوق الفني الهابط والتقدير المظهري البراق المصنع الذي يكسبها شعبيتها, كما هو حال العديد من أعمال ما بعد الحداثة الفنية.
انبنت بعض أعمال ما بعد الحداثة الفنية من خلال تفكيك الأعمال الفنية الحداثية السابقة, وإعادة بناء أو بعثرة تصوراتها من جديد. ثم أوجدت بعضها وسائلها التنفيذية الجديدة بموازاة التطور الصناعي وأدواته ووسائله الفائقة. وسعت الطباعة الفنية الاستنساخية إلى استثمارات السوق من اجل زيادة شعبية الأعمال الفنية وانتشارها. فبعد ابتكارات برمجيات الصورة ثلاثية الأبعاد, ومحاولة ولوجها السوق الفني البصري. كان متوقعا عمليا الوصول إلى نتائج مرضية وقابلة للتطور في مجال الطباعة الثلاثية, بعد تحقيق إنجاز أعمال نحتية انطلاقا من الافتراض الصوري إلى المادة الملموسة. وما التجارب العملية لفنانين من مثل( ايريك فان ستراتن, ماتوي فرناندز ـ بلومر, سوفيا خان, يوناثان كيب, كليف افانز (1 ) وآخرين إلا بدايات لمجال واسع من التطبيقات المتطورة باستمرار للبرمجيات الرقمية. وليتوسع ويتطور مجال الإنتاج الفني الاستنساخي ويأخذ دوره كما هو دور الروبوت في خط الإنتاج الصناعي. وإن كان الروبوت الآن ينفذ أعقد العمليات وأدقها. فإن البرمجة الطباعية هي الأخرى تتسارع قدراتها لإنتاج كائنات تتطابق مظهريا وواقعها العياني لحد الإدهاش, واقعية فائقة, تختصر جهد الفنان في إنجازه لأعماله الفنية ذات الصبغة الواقعية أو الفنتازية الدقيقة وبالسرعة المطلوبة. رغم كونها الآن, لا تزال بحاجة إلى مهارات الفنان لإخراجها بأكمل صيغة ممكنة.
من سمات ما بعد الحداثة الأخرى, تمردها على مفهوم أصالة أو تفرد العمل الفني وأسلوبية منتجه, بإشاعة مصطلح ديمقراطية الفن, وكما تحقق من خلال شيوع تنفيذ أعمال فنية(تجريدية تعبيرية) ولحد الابتذال. أو الفن الشعبي(البوب ارت) وسهولة استنساخ أعماله. أو الكثير من أعمال الأداء و الإنشاء والتجميع, و أخيرا تنفيذ الصور الرقمية الثلاثية الأبعاد, واللعب على الإمكانات الإيهامية الصورية, سواء فوتوغرافية أم فيلمية, مع انتشار تقنياتها قاريا وبشكل مذهل لم يقف عند حد, ما دامت آفاق البرمجة وأدواتها تتطور باستمرار, كأي اختراع علمي قابل لتطوير مفاصل نتائجه الحيوية والهامة. كما في الكيمياء الحيوية(2), والنمو السريع للمجالات التطبيقية المفاهيمية وتقنياتها في الطب والعلوم البيولوجية وغيرها من العلوم المستقبلية التي سوف تتنافذ مناطق ونتائج أداءاتها. لذلك كان من المتوقع أن نشاهد أعمالا نحتية, سواء كانت مستنسخة,أم مبتكرة, تنتجها لنا الطابعة الرقمية, من خلال تطويعها للمادة الأولية المستعملة, ونفاذها من مسامات الطابعة استنساخات سطوح متراصة متتابعة حتى اكتمال العمل النحتي. وليس ببعيد ذلك الزمن الذي يستطيع فيه أي إنسان أن يستنسخ ما يوده من منحوتات أو إكسسوارات أو غير ذلك من التي يفضلها في طابعته الخاصة, ومن أي عصر يختار نماذجه.
الواقعية الفائقة اشتغلت على تحقيق وهم الواقع, وتجاوزت دقة رصد الصورة الفوتوغرافية, بدوافع محركات ذاتية الفنان ونواياه الإعجازية. الفنان ايرك هو الآخر حاول ذلك. لكن على الضد من آلية فناني الواقعية الفائقة, حيث أعطى الأهمية لدور الآلة التقني في إنجاز عمله, بعد أن أخذت هذه الآلة دورها في مجالات كثيرة من المجالات التقنية لعالمنا المعاصر. فاستعيض عن لمسة أنامل الفنان, بالمسح الرقمي وفعاليته لتحقيق هذه اللمسة المادية وتعميمها. لا يهم أن تعبر الأعمال الفنية الاستنساخية المجسمة عن الواقع أو ما بعد الواقع أو ما تحته أو خلفه, أو عن واقع مزيف, أو عن صناعة الوهم والإدهاش, (دزني لا ند) أخرى, بما أنها لا تزال تحافظ على زخم شعبيتها. بل ما يهم هو كم من الآفاق التي بإمكانها أن ترتادها, إثر كل تحسينات أو اكتشافات جديدة ضرورية لتطوير أداءاتها, والتي أعتقدها لا تنتهي, ما دامت ضرورتها قائمة. لكن لا نجزم بان الفن الثلاثي الأبعاد الاستنساخي الإلكتروني هذا سوف يعم الفضاء المستقبلي ويسوده بشكل مطلق. كل ما نحزره, بأنه سوف يكون إضافة لا غنى عنها ضمن فضاء الابتكار الفني الإنساني الذي لا يحده حد, متجاوزا مساحة اللعب والتسلية الفنية الترفيهية إلى فضاءات ثقافية فنية ممتعة وأكثر أهمية.
_________
*(المدى)