حيرة الشكل

(ثقافات)

حيرة الشكل

حسان الجودي

ظلّ يدحرج أمامه شمس أيلول الصغيرة ساعتين من الزمن. خرج بها من منزله صوب المجرى المائي القريب، وتابع محاذياً الحدائق والغابات وهو يلهو بمتعةِ جندب أو حصان . لا يفكّر بشكله الذي يتريض به في صباح السبت الأيلولي الأخضر. كان ما يشغله حقاً هو ملاحقة تلك الشمس . أراد متابعتها حتى تغطس في عين الصباح الصافية. وأراد أن يلهو بها قليلاً كي تخترق شرايين الساق المصابة بالتكلس (إيموجي) مشعَّاً أصفر متوهجاً غير قابل للاختزال، يوسّع مفهوم الحياة ذاته لفجر يوم آخر.
انعطف الدرب به نحو المدينة البعيدة. وسار على ممر عشبي، فسمع صراخ فتية في ملعب كرة قدم مجاور. كان ثمة سور أسلاك شائكة منخفض يفصله عن الملعب ، مغطّى بأشجار البلوط والكستناء التي تملأ ثمراتها البنية الصغيرة  المكان. توقّف قليلاً كي يراقب من فتحة بين الأشجار تلك المباراة. توقّف فعلاً لأن شمسه اختفت، تركته، وذهبت لتلعب مع الفتيان. هزَّ رأسه دون مبالاة ، وتابع مسيره . توقّف من جديد حين سقطت كرة قدم من علٍ ،تجاوزت السياج والأشجار وقبعت أمامه على بعد أمتار فوق العشب النضر، ناهضةً قليلاً عن تجمعات أوراق الخريف الملونة.
تقدّم نحوها خطوة ، إذ تملكته رغبة إعادتها لخلف السياج،  ثم توقف . خاف أن يظهر أحد الفتية قادماً لالتقاطها، وخشي من سوء تأويل مصاحب. تابع مسيره بضع خطوات، ثم عاد نحوها.

لقد كان التقاط الكرات وشوطها بعيداً في الهواء إحدى ألعابه المفضلة في الطفولة واليفاعة. حسم أمره، وأمسك بالكرة، ثم أعادها إلى مكانها، فقد تذكر أنه يستخدم قدمه اليسرى في لعب كرة القدم، وأن ثمة ظفراً ناشباً في إبهامها سيسبب له معاناة جديدة طويلة.

عاود مشوراه بخطى متمهلة. ثم بعد دقائق، حسم أمره وعاد إلى تلك الكرة كي يقذفها لأصحابها. تردّد من جديد، فقد فكّر أنه لم يدرب عضلات ساقيه جيداً منذ ربع قرن تقريباً، وأن أي استخدام خاطئ لعضلة أحد الساقين قد يسبب له مشكلة صحية هو في غنى عنها.
لبس أخيراً شكل كلب أليف ، وعاد إلى التمتع بملامسة الأعشاب ، وملاحقة شمس عادت لترافقه ، بعد أن حدست بجبنه.

يقنع نفسه أنه اتخذ قراراً صائباً. لكن لمَ يشعر بذلك الألم في روحه؟ لمَ يشعر بندمٍ يعرف مذاقه جيداً عبر سنوات خلت؟

يريد الكلبُ الأليف الركض واللهو ، فيمسك طوقه ، ويخاطبه:

-لست شكل زوربا ، ولم تكنه يوماً. فما تغيّر يا صاحبي؟

لقد فوتَّ في حياتك عشرات الكرات، تركتَ غابة مثمرة جاءت لتنام في بيتك مرةً. تركت صبية عاشقة دون ممحاة ليل، وتركتَ قبل هذه الكرة تحديداً ايثاكا وقد جاء تسعى بمحيطاتها وكنوزها نحو شكلك الصغير المهمل .

تستمتع بالمونودراما التي تؤديها في طريق صنعته كرةٌ، وتفكّر بشكل نمر تتقمّصه، لتركض عائداً إلى أول لحظة وعي تذكرها. حينها تُسْقط شكل النمر، وتلبسُ شكل لاعب بيسبول . لتبدأ بالتقاط جميع الكرات التي لم ترغب بالتقاطها، وجميع الكرات التي كنتَ ترغب فيها، وجميع الفرص التي لم تقتنصها ، وعشرات الفراشات التي صنعتْ أثرها في قلبك، وطيور كناري جميع اللحظات الباهرة .
تتوقّف أخيراً لالتقاط أنفاسك. لقد فاض المكان بزمنك الملتقط، فما أنت فاعل؟
تلبس شكل روائي تريد أن تكونه، وتقرّر كتابةً (Authoethnography )

 عن التقاطاتك الماهرة. ثم تخلع ثوب شاعر أنت فيه، وتحاكمه على خَلْقِ شكل زوربا لائق بكآبة أحياء حمص القديمة، ومسرات أمكنة دمشق المختلسة، ورطوبة بحر الدمّام الخانقة ومزاجها الاسود، وترددات مدينة فروتسواف البولندية بين ذرى الجسد ووهاد الوداع.

وتواصل محاكمته عن تربية الشّرانق في إربد وبيروت والاسكندرية وكولورادو سبرنغس. والتي لم تُخرج حتى اللحظة حشرةً أو فراشة أو دودة واحدة. وتواصلُ محاكمة الشاعر أخيراً عن مسؤوليته الكاملة عن توريثك الأشكال في هولندا حيث ينبغي أن تكون دون شكل. ربما  فكرة أو مفهومٌ ، وذلك كي تستطيع النجاة من تمساح لم يرسمه فان غوغ.

عقابك هنا أن تكون جسداً. فبيت الجسد هو الطين، وبيت الطين هو الألم، وبيت الألم هو وجودك الفيزيائي.
وهذا الوجود الفيزيائي هو كما تحسّه الآن هو  كتابة أخرى أثنوغرافية تدور حول فصول الألم الوجودي الذي يتعامل معه البعض كساق معطوبة يجب بترها. بينما البعض، كتجربةٍ وابتلاء يجب الاحتفال بهما للخلاص، بينما البعض لا يفكر بشيء على الاطلاق.

تماماً مثل تلك الكرةّ!

ما رأيكَ أن تكون أنت الكرة. أليست هذه صوفية لم تقرأ عنها؟

ربما ككاتبٍ وخالقٍ للكلمات تستطيع التحايل على القرّاء . وإقناعهم بتلك الفكرة الغبية.
وهل هي فكرة غبية فعلاً؟

أليست فكرة (المخلوق واجب الوجود) هي منقذتك من جميع الأشكال؟

يبقى عليك أن تنطق بشجاعتك الإثنوغرافية الأخيرة ، لتشرح للقارئ أنك ككرة واجبة الوجود ، تريد القفز إلى ساق ذلك الشكل اليسرى ، ثم إجبارها على قذفك  في الهواء بعيداً وراء السياج. حيث أشكال أخرى تبحث عن واجب وجود آخر مختلف.

إنها فكرة رائعة حقاً. أن تصبح الكرات، عارضات المرمى، الطرق، السيارات، الأحذية الحمر، مقصات الشعر، حبوب الفوليك أسيد، برطمانات مخلل القثاء واللفت ، جميعها واجبات الوجود. موجودات واجبة الوجود، تؤمن بخالق واجب الوجود.

إنها معادلة كيميائية جديدة فحسب. ليست فلسفةً كما تريد إبهار القارئ ، لكن مجرد عناصر كيمائية في الجهة اليسرى، ونواتج في الجهة اليمنى. وكل ما عليك هو إجراء التوازن الشاردي لتصبح المعادلة حقيقية.
أقترح أنا ككاتب لهذا النص ، إضافة الكثير من الألم إلى الجهة اليسرى والقليل من الأمل إلى الجهة اليمنى.

لم ينفع ذلك على مايبدو! جرّبْ أن تعكس ذلك، أضف الكثير من الأمل إلى الجهة اليسرى، والقليل من الألم إلى الجهة اليمنى ….

لا فائدة ستبقى المعادلة أبد الدهر مضطربة مترجرجة مثل فزّاعة سوداء في حقل يقطين تنهشه زرافات الغربان. إنها معادلة لا يمكن تحقيق توازنها بأي شكل.

نعم… حتى شكلك الحاضر الذي تكتب هذه الجملة به، يخبرك أنك مجرد (مينوتور) ، وحش ٌجسمه جسم إنسان ، ورأسه رأس ثور وحش،  ذو شكل مزدوج كما يسميه (أوفيد) في كتابه التحولات.
وحش الأشكال محبوس في متاهة . ينتظر قاتله المؤكد دون شك البطل )ثيسيوس)
يا قتيل أشكالك…

ويا سجين متاهتك…

فلتجعل الموجودات واجبة الوجود!

إنه لهو كوني وتراجيديا وعبث يليق بمتاهات لا تحصى . وهي الأخرى واجبة الوجود، تخلق رعبنا اليومي من الألم وخوفنا من الموت ورغبتنا في الخلود، وتخلق فشلنا المؤكد في البقاء في المتاهة.
لماذا تحاول الخروج من المتاهة إذاً؟ لمَ تحفر بأظافرك جدرانها الصخرية، لم لا تنتظر قاتلك (ثيسيسوس) القادم مع حشرات الميثيولوجيا العملاقة ؟ إنه أمر بسيط أيها الشكل، هيا أخبرني !

 -ما /من/ أنتَ اليوم لأناديك دون ريب؟

⁃ أنا شكل دبّ.

⁃ حسنا يا دبّ ، أريد الخروج من المتاهة لأُعْرَفَ.

⁃ تُقتل وتُعرَف؟

⁃ تماما،  فما أحتاج هو الكثير من الحب والكثير من الموت.

⁃ لنجرب أن نوازن المعادلة من جديد ما رأيك؟

⁃ لا يمكن ذلك يا دبّ. فالبرهان هلاك العارفين.

********

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *