(ثقافات)
دِلْشَاد .. شعرية الخطاب الروائي
* د. آمنة الربيع
– «كنت ابن ست سنوات ربما عندما وجدت أمي ميتة، فاضطررت إلى البكاء عليها إذّ لم أجد أحدًا آخر يفعل ذلك بدلًا مني». «كانت الدشداشة معلقة على كتفيه وكأنها خرقة وضعت على عصا واسعة وبينها وبين صدره هواء كثير، فبدا لي كخيط رفيع يوشك على السقوط لولا قبضه على العصا الغليظة التي بيمينه». عن منشورات تكوين، صدر للروائية العمانية بشرى خلفان رواية دِلْشَاد في طبعتها الأولى. وبعدما يُنهي القارئ الرواية، سيدرك أن مسقط التي كان يذهب إليها، لن تكون كما كانت لِما تُحدثه الرواية من تأثيرات مختلفة وما تَخلقه من طموح. لقد استطاعت الكاتبة أن تضعنا كقراء متخيلين أو حقيقيين إزاء بعض التساؤلات السردية المهمة: كيف جرى تقديم الجوع في وجوه كثيرة؟ وكيف تم سبك كل ذلك الحّكي الممتد على صفحات الرواية البالغ عددها (494) صفحة دون شعور بالملل؟ كيف تمكنت الكاتبة من تحويل مقولات المصادر التاريخية الجّافة وسياقات الأحداث السياسية إلى مادة لدنة حيوية زاخرة بالتفاصيل الإنسانية الصغيرة؟ وكيف مزجت ذلك الخليط من الشرائح الاجتماعية والأعراق المختلفة (بلوش، ولوتيان، و زنجباريين، وإيرانيين، وبانيان، وإنجليز) في عالم متعدد الوجوه وبلغة سلسة يمكن وصفها بالسهل الممتنع؟ كما تدفع الرواية إلى سؤال معرفي مركزي: ما الذي يعنيه أن ينتمي الكاتب العماني إلى الجنس الروائي وصنعته؟ تسعى شعرية الخطاب الروائي بوجه عام إلى دراسة ما ينتظم العمل الأدبي من قوانين وقواعد وخصائص وما ينفتح عليه من دلالات. وقد تبلور الجهد النظري والنقدي حول هذه الشعرية لدى مدرستين؛ لسانية وسيميائية، ولكّل مدرسة أقطابها من الباحثين والنقاد والأكاديميين المعروفين. وجُّل الاهتمامات بالشعرية اتجهت إلى تتبع الرؤى والطريقة التي يروي بها الكاتب عمله الإبداعي، دون التضحية بالسياق الاجتماعي والتاريخي في اتجاهات الدراسات الشعرية غير المتطرّفة.
تنشغل الكاتبة في مستوى المتن بتناول حياة عدد من الساردين في حارات ثلاث بمسقط: (لوغان، ولجات، وحارة الشمال) مفتتحة السرد بلسان دِلشاد وتتبع خط حكيه عبر انتقاله بين مواقع متعددة، وما يقوله الساردون من أقوال وفق رؤيتهم للوقائع ومجريات الأحداث. يقول: «… وأنها أسمتني فرحان كي أعاكس شؤم ولادتي…». إن دِلشاد من موقع المتكلم الأول يخبرنا عن متكلم غائب هي أمه قائلا: «حلفت أمي أني خرجت…»، وسيخطو بنا خطوات متعددة عبر أسلوب الإخبار الذي سيتولاه من خلال تعاقب الضمائر، وسنتعرف معه في الصفحات الأولى على سيح المالح، والخيمة وأبناء (ما حليمة) وما الذي حدث معه بعد دفن أمه، ثم حلة الشيخ.. ليبدأ بعد ذلك السرد بلسان ساردة أخرى هي (ما حليمة) التي سنتعرف معها على اسم أم دلشاد، التي لم يخبرنا باسمها في أثناء حكيه عنها فتقول: «لا أعرف أي امرأة كانت فضيلة بنت بطي…».
إن شعرية الخطاب هنا تسير متنقلة من الشخصيات وما تقوم به من أفعال وبين النص وما يقوله من أخبار. وبهذه التقنية يتوجه خطاب هذه الرواية في بناء محكم وشيق. وعطفا على ما تقدم، تستند شعرية الرواية إلى تعددية في أصوات الساردين، إذ بُنيت مستويات الخطاب الزمنية بتداخل في ترتيب غير متتابع جعل المتن كله وحدة متعاضدة ومتكاملة. لقد أوسع البنيويون وبالأخص ميخائيل باختين اهتمامه بالبوليفونية أو الحوارية، فـ«تعدد الأصوات هو تعدد متكلمين ينبثق من وجهات نظر مختلفة؛ الأمر الذي قد يدفع القارئ إلى القنوط من الإجابة عن سؤال من الذي يتكلم في النص، فتغدو بذلك الكتابة كتابة بحق كما يقول رولان بارت»*. وستأخذ الرواية القارئ إلى عمل لا يسير على بنية سردية تقليدية، وإن ظهر له شيء من ذلك بافتتاح السرد الروائي بالجَّد دلشاد، وانتهائه مع حفيدته فريدة؛ وهو ما يمكن أن يوحي لنا بالامتداد ما بين دِلشاد كعلّة أولى محرّكة للأحداث أو كمرجع تعود الرواية إليه بدلالة العنوان، وبين ما يمكن أن تعطينا إياه فريدة من انفتاح قادم للسرد علّقتنا به تلك النهاية المفتوحة للرواية. إنّ عنونة الرواية بأسماء شخصياتها وأصواتها التي ستتخلل العمل، مظهر يشير إلى تبني التعددية الصوتية على غير المعتاد. نلمح على صعيد الشخصيات مثلا (دلشاد) فهو نقطة الافتتاح السردي، وهو كذلك الشخصية الرئيسة الذي عُنونت به الرواية من جهة، وعلى الرغم من عدد مرات ظهوره (12) مرة في مقابل عدد مرات ظهور ابنته مريم (15) مرة، والحفيدة فريدة (5) مرات فإنه يظل الخيط الرفيع المشدود به خيوط حيوات الآخرين؛ إذ تتفرع علاقته مع ابنته ممتدة إلى الحفيدة، وعلاقته أيضًا مع عبدالرسول الذي سيعقد لمريم عقد زواجها، وعلاقته كذلك مع ما مويزي، وعلاقة هذه الأخيرة مع عبداللطيف لوماه. إنها شبكة متداخلة ومعقدة من العلاقات الاجتماعية والإخبارية بدأت بنصيحة قدمها صنجور جمعة لدلشاد ليحمي ابنته من شبح الجوع المخيف. وبالمضي قدما في القراءة، فإن كل شخصية لها صوتها واستقلالها وتمايزها. ولا يُمسك دلشاد بحيوات الآخرين كما سبق وأشرنا فحسب؛ بل يُبئر العناصر والأشياء داخل النسيج الروائي لتصبح الرواية أقرب إلى نقش البالوار مع مفارقة التشبيه متضمنًا النقش: الجوع، والفقر، والموت، وزريبة البانيان، والمزابل، والمرض، والرحيل أو الهروب والعودة، واليأس، والضجر، والعبودية. وكشاهدٍ على التبئير أستشهد بهذا المقطع: «… كانت الدشداشة معلقة على كتفيه وكأنها خرقة…إلخ»، فهذا المقطع يُعد برأي من أقوى المقاطع السردية التي تُشخّص الجوع وتبئره، إذ يكشف مستويين للتبئير خارجي وداخلي معًا، وتحفل الرواية بالعديد من المقاطع الجميلة الدالة، ويمكن للدارسين تناولها في دراسة مفصلة. إنَّ صور الساردين المستقلة تتضافر وتتجاور يحكمها حبكة الجوع والبحث عن ملاذات آمنة بوسائط عدة: الطعام، أو العمل، أو الدواء، فتنمو بداخل هذه الملاذات تفاصيل موجعة يبرز من خلالها الوجه الاجتماعي البائس والسياسي المراوغ لأحداث جرت في تاريخ عمان الحديث في بدايات القرن العشرين إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية وهي مرحلة مرت بالعديد من التقلبات السياسية.. وفي ظل تعددية الساردين وأصواتهم فلا وجود لبطل واحد متفرّد بالمواصفات التقليدية، كما أن الرواية لا تفسح للقارئ الوقوع في حبائل البطولات الفردية؛ لأن مجموع الآمال والأشواق بتعبير لوسيان جولدمان هي الشرارة الخبيئة، فمهما ظهر من طموح للفرد، فإنه يخبو ويوهمنا بذوبانه في وسط المجموع، لكن للشرارة مفعولها في قرار ذهاب حميد بن عبدالله قائلا بعدما خطر لأول مرة سؤال السفر في باله: «..اللعنة عليك وعلى تجاهلك الطويل لي يا عبداللطيف…» انبنت حبكة دلشاد على ثلاثة مستويات: أولًا: مستوى الشخصيات البالغ عددها (17) شخصيةً تتناوب على السرد. ثانيًا: مستوى التاريخ الساكن والقّار لمسقط عبر الأحداث السياسية والاقتصادية التي عاشتها عمان إبان عهد السلطان سعيد بن تيمور والمفاوضات مع الإنجليز حول إعلانه الحرب على هتلر وألمانيا، والوجود الإنجليزي نفسه الذي يكشف السرد عن بعض تفاصيلهم على لسان شخصيتين هما: حميد بن عبدالله وخلف بن سويلم، وكذلك شبح الحرب العالمية الثانية والخوف من سنين الجوع القادمة، وجملة المخاوف من تداعيات الحرب وكيف ستُضرب مسقط ساقتها الكاتبة على لسان عبداللطيف لوماه في عدة مواضع بالرواية حيث وُفقت في نسج تفاصيل الاتفاقيات وحاجة السلطان إلى الإنجليز في قمع ثورات القبائل وجعل ذلك كله يجري في قهوة الشمخي، في هذا المستوى تظهر لنا حركة التاريخ الخارجية، وما يعتمل في مسقط من صور قاسية. ثالثًا: مستوى الحكايات والقصص الثانوية التي غذّت الرواية على لسان بعض الساردين: سنجور جمعة كحكاية «بيبي روزهاتون»، وقصة شاه مريد وهاني، بالإضافة إلى الأغاني التي طرّزت ثنايا السرد بخليط من الأصوات كأهازيج البحّارة، وكذلك تجسيد البعد الأسطوري لسدرة أبي الشقص، وأخبار سفينة المغنيات التي غادرت مسقط وتحطمت في العاصفة، والحكايات السواحلية التي ورثتها والدة ما مويزي كحكاية قطرة الحليب. ثمة مسائل فنية أخرى يمكن التعريج عليها؛ كالإشارة إلى خاصية الثنائيات الضدية في عنوان الرواية (الجوع والشبع) الذي يسحبنا إلى التعارض البنيوي بين المفردتين وما يثيرانه من علائق وتشعبات. كذلك إشارة الكاتبة في مفتتح الغلاف الداخلي «ما يحدث في الصفحات التالية لم يحدث إلا في مخيلة الكاتبة، وسيحدث من الآن فصاعدا في مخيلتكم!… «كإحالة إلى اعتبار مشاركة القراء في حكي المتن وتورطهم فيه مسألة مقصودة فيغيب هنا المتكلم الخاص لينفتح السرد على قراء جدد سيشاهدون ذواتهم في بعض الساردين، وكذلك توفر مقاطع للسرد المشهدي لاسيما في المقاطع التي تُكتب بالبلوشية، فتشرح الكاتبة المشهد دون الوقوع في مغبة التكرار والتطويل. إنَّ اشتغال بشرى خلفان في هذا العمل الفاتن يأتي كتأكيد مستمر لموهبتها وحرصها بالنظر إلى الرواية والانتماء إليها من منظور ثقافي خاص. وما قدمته الكاتبة من بناء أخاذ في دلشاد أقرب إلى عمل الجواهرجي الذي يعمل بحرفة وهدوء وجمال؛ لأنه يُدرك قيمة السبيكة التي يصوغها بين يديه. وفي تقديري أن دلشاد سيرة الجوع والشبع، ستشكل نقلة مهمة بالنسبة إلى كتابة الرواية في عمان بوجه عام. (*) ما بين الأقواس أنظر: بلاغة الراوي طرائق السرد في روايات محمد البساطي، د. محمد الشحّات، ط1، دار أزمنة، 2019م
مرتبط