جهاد الرنتيسي
خاص( ثقافات )
عشرة أعوام، حسب التقويم الدمشقي، بين دهشة اللقاء الأول، وقلق اللقاء الأخير، فضاء تتسع هوامشه وتضيق، في ذاكرة تتآكل حجارة مرافئها، أمام صخب منطقة، لا تعرف الهدوء .
دمشق أول مدن المتروبول التي أعرفها. دخلتها واقفا في حافلة عمومية، نقلتنا من المطار إلى فندق في ساحة المرجة، تلفتّ من كل الشبابيك ، في كل الاتجاهات، بحثا عن أقصى ما أستطيع من متعة بصرية، ولم يتبادر للذهن، بأنني كنت أبني علاقة ما- ولو خاطفة – مع كل ما يحيط بي.
استعنت بشروحات رفاق، سبقوني في اكتشافاتهم للمكان; بعضهم كانوا طلابا في المدينة، والبعض مرَّ بها في طريقه إلى جبهات قتال، أو عاش بعضا من سنوات عمره في مخيم اليرموك، حاولت متابعة الاتجاهات التي تشير إليها حركات أصابعهم، وهم يشرحون لي الجسور السبعة; القلعة ، طريق جرمانا ، لفتت انتباهي إشارتهم إلى وجود مخيم فلسطيني في تلك المنطقة.
كنت أطوي صدمة بيروت، المختزلة في خروج المقاومة، محمّلة على البواخر، وأفتح صفحة أمل على مواصلة الفعل، الذي آمنت به وصارت الشام عنوانه، حين طلب مني المشاركة، في الوفد الذاهب من الكويت، إلى مؤتمر لاتحاد عمال فلسطين انتهى بشق هيئة أخرى، من هيئات منظمة التحرير .
تعقيدات دمشق تكمن في بساطتها; لا تمنح المدينة أسرارها بسهولة، ولا تبخل على زائرها، بفرص الاكتشاف، تبقيه في حالة تفكيك علامات استفهام ، ولا تمنعه من الارتباط بالمكان وأهله.
بين صخب الخطابات. الشعارات. المحاصصات الفصائلية- في ذلك المؤتمر-. الأحاديث الجانبية مع القادمين من عوالم الشتات الفلسطيني. المهرجانات. ولائم العشاء. خطاب عبدالمحسن أبوميزر في مخيم اليرموك حيث النادي العربي، ومعسكر حمورية الذي كان يتجول فيه ” أبو موسى ” بعصاه ويتبادل الحديث معنا بلغة القائد الواثق من انتصارات مقبلة، بعد تشخيص ” قدري ” للوضع الراهن بفصحاه المميزة، عرفت المخيم والمعسكر للمرة الأولى، ووجدت الشاب الذي كنته غارقا في اكتشافات متشعبة .
قادتني دهشتي بالمدينة، إلى السير على الأقدام من قاعة انعقاد المؤتمر في مقر اتحاد النقابات، إلى المرجة ، مرورا بمعرض دمشق الدولي ، الذي لمحت فيه جناحا لفلسطين، وتجولت في حديقته ; أدخن سجائر الحمرا.
انتهت الرحلة ، وبقيت دهشتي بالمدينة ووجهها الفلسطيني. حملتها معي عائدا إلى الكويت، بعد انتهاء المؤتمر أخضعتها لمتطلبات السرية في تنظيم خيطي، وحرصي على عدم الظهور، أمام الذين ألتقيهم، بأنني حديث المعرفة بتلك الأماكن.
يستطيع المرء أن يتعايش مع دهشته. يحتفظ بها ، دون أن تفقد لذة الغرام في المجتمعات المحافظة، حتى لو ابتعد سنوات عن المكان المثير للدهشة ، يعي أن أفقا جديدا تفتح أمامه، لكنَّه يبقى أسير البحث عن ما هو وراء ذلك الأفق. يلهث وراء شعور بأن المدينة لا تقتصر على ما رأى، وانها تمتلك الكثير مما يمكن أن تعلّمه، لمن أدهشته .
بعد عامين من سجالات. مهمات تنظيمية. مناكفات تبعث على الملل في الكويت، طلبت الالتحاق بدورة عسكرية، محاولا الخروج من الضجر إلى تخوم الحقيقة، التي نتحدث عن نسبيتها في الاجتماعات، ونكرِّسها مطلقة في أحكامنا .
لكني لم أجد في دمشق ما يدهشني هذه المرّة; كانت المدينة أليفة ، كشتلة ياسمين في ساحة البيت. تدلل أوراقها. تراقصها كصبيّة، مستحضرا الصورة المتخيلة للعاشق و شتلة التبغ في أغنية لمرسيل خليفة .
وصلت إلى المدينة ليلا، تتقمصني روح العائد من الفرع إلى المركز، فرع عشت فيه ما مر من سنواتي العشرين، ومركز أقمت فيه بضعة أيام، لا أدري إن كان للدهشة وما وراء فضاءاتها دور في تكوين هذه الروح، أم أنها هرمية التنظيم، الذي كان رأسه في دمشق، ويتفرع في شتات ، عرفت بعضه ، ووطن لا أعرفه; لم يخطر في بالي، وربما خجلت أن أسأل رفاقي القادمين من الضفة إن كانت تتقمصهم مثل هذه الروح ، وهم ينسلون من بعض وطن خاضع للاحتلال إلى دمشق، لتلقي التدريبات العسكرية والتعليمات.
بعد ليلة في فندق تشرين ، حاولت خلالها تعويض بعض الحرمان المعتّق من الجعة، ومكالمة صباحية مع مكتب التعبئة والتنظيم، استسلمت لرغبة السير في شوارع مدينة، تفتح لي ذراعيها. تنتظرني دروبها التي لم أعرفها بعد، و تلامس أقدامي أرصفتها بحرص المحب على الحبيب.
لم أشعر بتيه في الطريق إلى ساحة المرجة، وسوق الحميدية; سألت بائع السندويتشات، وسرت حسب الوصف، التهم واحدة ، وكأنني أتذوق مقالي البطاطا والباذنجان للمرة الأولى. الرغيف أكبر مما عرفته، ونسمة الصباح توقظ خلايا الجسد التي لم تستيقظ بعد.
في حي المزرعة ،قرب جامع الإيمان ، المعروف لسائقي التاكسي، شقة أرضية كبيرة لها ساحة ودرج وشبابيك عريضة، اتخذها التنظيم مكتبا للتعبئة ،علمت هناك أن الدورات العسكرية انتهت، وأقمت في ذلك المكان قرابة الشهرين .
كان الشباب كرماء معي. منحوني سدة الشقة ، ليتاح لي قراءة ما فاتني، من كتابات إلياس شوفاني و ماجد أبو شرار-عقل التنظيم وضمير اليسار الفتحاوي-. أبديت رغبتي برؤية غالب هلسا، الذي كنا نتابع باهتمام، سجالاته مع اليسار الفلسطيني. أرسلوني إلى مكتب الإعلام في منطقة السبع بحرات واقترحوا علي التواجد هناك، بين وقت وآخر خلال إقامتي في المدينة .
السبع بحرات ملمح آخر للمدينة استحق أن يستقر في الذهن، لم يكن مألوفا بالنسبة لي. عبرت ذلك الميدان، أتلفت حولي. لم يكن غالب موجودا; قالوا لي إنه ” مشغول ” هذه الأيام مع ابن أخيه القادم من عمان، ولا يأتي لمقر الإعلام .
كان ذلك المقر حينها ميدانا لصراعات داخلية ، بين قادمين من فصائل انشقت لتلتحق بالانشقاق الفتحاوي الذي كنا نسميه انتفاضة، وأبناء التنظيم الأصلاء مراكز قوى تتصارع ، ونظرات ريبة تلاحق العابرين، لكن الامر لم يخل من التعرف على العراقي محيي الاشيقر ومحمد لافي .
مظفر النواب في مقهى الهافانا. ناجي علوش في فندق الشام. الكتب الحمراء- كما كنا نسميها- تضفي مهابة على هيبة المدينة. أشتري بعضها وأرسله بالبريد إلى عناوين الأصدقاء في الكويت;لأجمعها حين أعود .
الذاكرة تتسع للمكان والناس والرائحة. الياسمين في الطريق إلى حديقة زكي الارسوزي، حيث تمثاله ، الذي يروي فصلا من فصول البعث، ونقاء الهواء في مقاهي طريق دمر. حضور الصبايا بكامل أنااقتهن في الحمرا والصالحية، أقرب إلى قصيدة هجاء للمجتمع الذكوري، استعدت ذلك الزمن بعد سنوات ، وانا اقرأ عن دراسة بريطانية ، تقول ان السوريات اجمل نساء العرب .
من السبع بحرات إلى الأطراف القريبة لحي المزرعة، إلى مخيم اليرموك، اصطحبني زكي ياسين إلى مكتب ” شؤون الأردن ” حيث ” جماعة ” قدري الذي اعتزل العمل السياسي بعد خلافه مع القيادة المؤقتة للتنظيم. كان الضجر واضحا على الموجودين; الذين لا يملكون غير الشكوى من بطالتهم النضالية ، سوق المخيم ينبض بالحياة، وعلى بعد عدة أمتار من مقر ” القيادة العامة ” المعروف بالخالصة , تناولنا وجبة فريكة أعدتها دلال .
في المزة، مكتب أبو صالح، الذي قاد الانشقاق واعتكف محتفظا بهيبته، يستعيد بعضا من فوضى بيروت المتخيلة، وشيئا من أجواء الفلاحين في ثورة 1936، كما وصلتنا في أحاديث الكهول .
حين أقلعت الطائرة من مطار دمشق، كنت اقلّب مشاهداتي. خياري بترك التنظيم، والفرار من السياسة للأدب، اعتقدت إنها رحلتي الأخيرة للمدينة، التي لم يستطع نبض الحياة فيها، حمايتي من حالة الإحباط، التي انتابتني خلال التجول في المكاتب.
أشعّة الشمس، تغزل الضوء في سهل حوران، العابر للحدود ، من حافلة ” جت ” وهي تطوي المسافة من عمان إلى دمشق. اتأمَّل نشوة الأشجار و التراب، بما تجود به السماء، أقلّب دفتر المواعيد، مع دوران محرّك الحافلة، بعد ختم جواز السفر، محمد باقر الحكيم ، بيان جبر، وفيق السامرائي. حسن العلوي. حامد أيوب، أبو خالد العملة ….
أدخل دمشق برا للمرة الأولى، أجري مقاربات بين المكان و ما بقي في الذاكرة، بعد سنوات من الغياب، المدينة تخرج من دائرة الحلم، بدت امتدادا تفقد معه الحدود هيبتها ، لأراها مخافر، وإن اختلفت قليلا عن المراكز الأمنيّة، المنتشرة في أحياء العواصم .
النقود التي منحتها الصحيفة، لمدير تحريرها ، القادم لإجراء حوارات ، مع المعارضة العراقية ، وشدته الذاكرة، لإضافة أحد قيادييه السابقين إلى القائمة، لا تكفي لأكثر، من الإقامة ليومين، في أحد فنادق ساحة المرجة .
الفندق الذي أقمت فيه أول مرة، كان باذخا وسط الساحة ، بعد نظرة سريعة على فنادق أكثر تواضعا اتجهت لأحدها وصعدت درجاته .
بعد اتصالات سريعة من هاتف الفندق لتاكيد بعض المواعيد ، ساقتني أقدامي إلى شارع الصالحية، وجوه مألوفة، كأنني لم اغادرعمان هذا الصباح، من بينها الشاعر العراقي عدنان الصائغ ، خلال تجولنا قال لي أنه جاء من عمان للحصول على اللجوء إلى السويد. لم يفاجئني; كانت مثل هذه المحاولات تتحول إلى ظاهرة عراقيّة بعد أن ضاقت عواصم المنطقة، بالقادمين من بلاد الرافدين .
لم أستسغ فكرة أن المدينة تعيد إنتاج اللجوء، لحظة استعادة حديث الصائغ عن الأوطان التي تضيق بأبنائها، والعواصم المقفلة أمام اللاجئين، شعرت بخريفية الزمن، وأنا سأل “أبو سهيل” الذي عرفته قبل سنوات في ” التعبئة ” والتقيته في ” الإعلام ” عن شباب كانوا معنا، ويجيبني بأنهم هاجروا إلى السويد والدانمرك. حديث أبو خالد العملة يومها، أثار لدي رغبة في الكتابة عن العلاقة بين تحجر الزمن وفرار أبناء المنطقة لاستعادة ما فاتهم من حياة. سألني عن رأيي، وأجبته انني احترم وجهة نظره، وأحرص على نشرها ، لكنني لا أتفق معه بتخوين ياسر عرفات، رغم توقيعه اتفاقية اوسلو .
عالمان بين قصر الروضة، و بيت العراقيين في ساحة الميسات، يتكآن على خاصرة المدينة، في الأول استقبلني بيان جبر، لأجد نفسي في حضرة السيد باقر الحكيم ، الذي شدني تسامحه وتهذيبه ودقته في اختيار كلماته أكثر من طرحه السياسي، وفي الثاني استعدت أجواء أساتذتي من الشيوعيين العراقيين، حينما كنت تلميذا في الكويت ، تبادر لذهني أن الحزب يشيخ ، وأنا المح همما متثاقلة، وكهول يحرصون على حمل الصحف تحت إبطهم خشية أن يفوتهم شيئا من المعرفة. أجريت حوارا مع حامد أيوب، سألته عن فرقة الطريق و طلبت تأمين مجلة طريق الشعب لتصلني إلى عمان .
قال لي وفيق السامرائي، حين التقيته في فندق الشيراتون، أنه يفكر بالمغادرة، تبيّن لي أنه مراقب، وحين جلت في المكتبات صباحا، اكتشفت أن هناك من يتتبعني، وقررت المغادرة .
تملكتني فكرةأان المدينة باتت محطة للهاربين من موتهم إلى المنافي، وفارقتني فكرة العودة إليها ، حين انطلقت سيارة الأجرة من ساحة البرامكة إلى عمان .
استعدت هذه الأطياف ، وأنا أقرأ خبرا حول اعتقال ميشيل كيلو بتهمة إضعاف الشعور الوطني، ما الذي يمكن أن نفعله لميشيل ؟؟ .. لم أتوقف طويلا عند السؤال، صغت بيانا باسم المثقفين والإعلاميين الأردنيين وبدأت بجمع التواقيع عليه. لم يفاجئني رفض بعض الأصدقاء التوقيع، قدرت حرصهم على الذهاب إلى دمشق بين الحين والآخر، وخشيت من قطيعة بيني وبين المدينة.
بثّت وكالات الأنباء العالمية البيان. نشرته كبريات الصحف العربية. كتب حوله البعض مستبشرا بجيل من المثقفين الأردنيين المعنيين بنشر الحريات في دول الجوار. هاتفني معارضون سوريون يقيمون في المنافي للإشادة بمواقف المثقفين الأردنيين، وتبيّن لي أن المدينة التي غادرتها منذ سنوات تسكنني، وانني خسرت الكثير بحرماني منها .
كنت اقاوم رغبة جامحة ، وأرفع راية بيضاء مستسلما لخوف مقيم، حين كان الصديق فايز سارة يدعوني لزيارتها، كان يطمئنني ويقول لي إن الظروف تغيرت ولن يعترضك أحد، ارتبكت الصورة أمامي، حين وصلني خبر اعتقاله. ضحكت رغم أساي، على مضيفي الذي كان يلح في تطميني، واعتقل قبل الزيارة المفترضة.
حين ألهث خلف أطياف ذاكرتي، لا أجد سوى الدخان والقتلى والهاربين، في الشاشات. على المواقع الإلكترونية، وصفحات الفيسبوك، أتلمس العذابات التي تخفيها الشعارات البائسة. لكنة شامية متعبة في شوارع عمان، مخيم الزعتري الذي لم أمتلك بعد البلادة الكافية لزيارته .
بعضي في مرمي النيران، وبعضي يتابع قتل بعضي، لا أستطيع إخفاء شعوري بعبثية الحرب، رغبتي في بقاء الشام كما تركتها، حين ظننت أنني أغادرها، لهفتي للحظة آمنة في شوارع المدينة التي أصبت بها، وراوغتني .
_____________
*كاتب وصحفي من الأردن