*أحمد شوقي علي
عندما تمسك برواية تتعرض للمثلية في الوطن العربي، فأنت وبغض النظر عن ميولك الجنسية، ستنشغل أولًا بعالم الرواية عن غيره من مكوناتها، فبالرغم من أن المثلية ليست غريبة عن الأدب العربي الحديث، لكنها دائمًا ما تضطلع بلعب الأدوار الثانية؛ قصة تائهة –ربما- ضمن أحداث الرواية، أو عرضية تخص أحد أبطالها، أما أن تكون الحدث الرئيس، فذلك ما يثير، وإن لم يكن فضولًا لدى القارئ، فرغبة في المعرفة، أو تكوين وجهة نظر أكثر شمولًا عن عالم مضطهد بكل تأكيد.
فرواية “في غرفة العنكبوت”*، للروائي المصري محمد عبدالنبي، رواية مثلية منذ صفحتها الأولى وحتى الأخيرة، ولكنها ليست رواية عن عالم المثلية الجنسية في مصر.
فبالرغم من أن أحداث الرواية مرتبطة بواحدة من أشهر قضايا الرأي العام في مصر التي جرت أحداثها عام 2001، وعُرفت إعلاميًا بعنوان “كوين بوت” أو “مركب الملكة ناريمان”- وهي القضية التي تم التنكيل فيها بمئات المثليين جنسيًا، حبسوا وعذبوا وفضحوا أمام الرأي العام هم وعائلاتهم- إلا أن عالم المثليين جنسيًا ليس بطل السرد، وإنما هاني محفوظ مهندس الديكور المثلي، أو بشكل أدق حياته كمثلي للجنس، حياته الضيقة الهشة كشبكة العنكبوت.
الرواية تستدعي عالمها
وبالرغم من ذلك فإن عتبات النص الروائي تدفع القارئ منذ بداية الرواية للانشغال بموضوعها باعتباره البطل الرئيس، وليست حياة البطل نفسه، فاستخدام عبدالنبي للاسم الثنائي في تقديم بطله هاني محفوظ، وتكراره لذلك عبر مواضع عدة خلال الرواية يوحي برغبة الكاتب في التأسيس لشخصية روائية يتعلق القارئ باسمها، باعتبارها شخصية مائزة في حد ذاتها، ما يجعل اهتمام القارئ منصبًا لاستكشاف المميز في تلك الشخصية، فإن كان البطل مثلي الجنس، فأي المثليين هو، وأي واقع عاشه؟
في المخيال الجمعي هناك صورة نمطية عن الـ”Gay” وهو أنه في الأساس نتاج لعار اجتماعي وأخلاقي، كما يختصر المجتمع هيئته في صورة المخنث، فهل اختلف هاني محفوظ عن تلك الصورة أو تمايز عنها؟ بالعكس يبدو السرد وكأنه يقدم تأصيلًا لتلك الصورة النمطية، فبالرغم من أن ميول هاني الجنسية باتجاه الرجال ظهرت عليه في سن مبكرة، إلا أن صورته رسمت كسمين يملك أثداءً مثل النساء لفرط بدانته، يعاني من تنشئة اجتماعية مرتبكة، حيث مات أبوه وهو لا يزال طفلًا في حين انشغلت عنه والدته في مراهقته بعملها كممثلة، كذلك مكنته الظروف المعيشة التي تحسنت بفعل بزوغ نجم أمه التمثيلي من راحة العيش في قدرة الصرف على حياته الأخرى كمثلي للجنس أو ككائن ليلي في خمارات القاهرة.
عانى هاني محفوظ من هذا التخبط والإحساس بالإثم الذي يصيب أي شخص يظن أنه يخرق “الناموس الطبيعي”، وجاء على لسانه في ثلث الرواية الأول ما يعني هذا الإحساس في أكثر من موضع حتى أنه حمل ظروفه الاجتماعية “وزر” ميوله الجنسية، ويمكن اعتبار ذلك مقبولًا في إطار الإحساس نفسه، خاصة وأنه يعود في الفصول المتأخرة من الرواية ليقول على لسانه: “في الحقيقة كان يكتب عني أنا وحدي، وعن أثر تربية أمي لي، متفلسفًا حول نظرية “ابن أمه”، وغياب الأب، وجذور الشذوذ. كان يمكن لي أنا نفسي أنا أقتنع بها في زمن سابق، قبل أن ألتقي عشرات الأشخاص ممن اختلفت ظروف تربيتهم ونشأتهم عني تمامًا، ومع ذلك ولدوا ميالين للرجال”. لكن الروائي بالرغم من ذلك لم يستعرض أي من هؤلاء الذين ولدوا ميالين للرجال، على العكس استمر في تقديم صور نمطية عن المثليين، فعبد العزيز الذي يقع هاني في حبه، الطرف الإيجابي في العلاقة، صعيدي وأسمر، عانى تنشئة ذكورية محضة، أبوه عسكري صارم ولا وجود تقريبًا للأنثى في بيتهم، كما تستعرض الرواية لمثلي آخر وهو كريم سعدون، خفيف العقل المولود في أسرة فقيرة وأبوه الغائب عن البيت منذ ولادته، واستمرارًا في الخط ذاته يرتبط هاني بامرأة فقيرة قليلة الجمال تأخرت في سن الزواج لاستكمال مظهره الاجتماعي، بالطبع يسوقه للاقتران بها ظروف أخرى، ولكن يظل موقعه الاجتماعي كفيل لها للتغاضي عن الشكوك في ميوله الجنسية.
كذلك يسترعي الانتباه عدد من التوصيفات الغريبة أن تخرج من مثليي الرواية الأبرز “هاني وكريم”، حين يعتبران أنفسهما ليسا رجالا نظرًا للعلة التي فيهما كونهما الطرف السلبي في العلاقة الجنسية، ولا يعوض السرد ذلك بنظرة أخرى أو مراجعة نفسية مثلما فعل هاني في الاقتباس السابق، على الرغم من أن السرد نفسه ينتبه إلى نفي فكرة الجوع الجنسي لدى المثليين، كما لا يهتم بإبراز أي صبغة أنثوية في ملابسهم، مثلا.
وليست تلك المعطيات هي الوحيدة التي توحي بتقليدية الطرح، فقد استخدم الروائي دافعًا سرديًا تقليديا للدخول إلى روايته، والدافع السردي هو ذلك السبب الذي يلجأ إليه للشروع في سرد حكايته، فبالرغم من أن الرواية تبدأ من عند بطلها الأبكم بسبب ظروفه النفسية، واستخدامه الكتابة بديلا من الكلام، إلا أن فكرة كتابة “السيرة الروائية” داخل الرواية باتت مستهلكة بعض الشيء.
قد يبدو أن هدف السرد في “غرفة العنكبوت” هو استعراض الحالة النفسية لبطلها أكثر من استعراض العالم المحيط بتلك النفسية، لكن الإشارات التي يتيحها النص جعلت من موضوع الرواية بطلا ينازع قصة شخصيتها الرئيسية الزعامة، وهو ما لم يبذل فيه النص مجهودًا أكبر لتحقيقه، وربما أدرك السارد نفسه ذلك في نهاية الرواية، فعرج سريعًا على ذلك العالم ليوجز عددًا كبيرًا من تفاصيله المختلفة خلال صفحتين فقط هما 325، 326.
اللغة بديل عن العالم الروائي
هل يعني ذلك أننا أما رؤية نمطية عن المثلية الجنسية؟
لا تسير الأمور بهذه الطريقة في قراءة أي عمل روائي، فأدوات إيصال المعنى متعددة، أهمها اللغة، وهو الأمر الذي برع في استخدامه محمد عبدالنبي لدرجة أن استطاعت اللغة وحدها –في رأيي- لتعويض حضور العالم الروائي.
فقد اجتهد الكاتب لصياغة لغة خاصة، ناعمة، حسية، كالعجين الطيب، لها رائحته وشكله الشهي ودفئه أيضًا، لغة يكتبها النص نفسه عن نفسه، مخترعًا لفظة “الحبايب” كمعادل للمثليين، ومبتعدًا أيضًا عن استخدام التسميات الشعبوية المعروفة لوصف المثليين في حواراتهم المتبادلة، نحو “كوديانا، برغل، طلية بطلية.. وغيرها”، وهو أمر واقعي، حتى أن السرد لم يلجأ كثيرًا لمفردة “خول”، ووضعها في سياقها مع استخدام وحيد ومفهوم لـ”كوديانا” التي جاءت على لسان أحد المساجين.
كذلك يبرز اجتهاد الكاتب في اختيار الأغاني المصاحبة للسرد، فبدت وكأنها كتبت خصيصًا لها، فيما تظهر شخصية البرنس أكثم كأكثر الشخصيات تميزًا خلال أحداث الرواية.
كما لم يسقط السارد في فخ الابتذال في صياغته للقاءات الجنسية، كذلك ظهر اللقاء الجنسي الأول لهاني محفوظ كواحد من أكثر المشاعر أصالة داخل الرواية: “لم أشعر بالمرة أن شيئًا داخلي انكسر، أو أنني فقدت معنى كبيرًا كالكرامة أو الشرف أو الرجولة، بل كأن العكس هو ما حدث، كأنني استعدت شيئًا ضائعًا مني، التأم كسر ما، مثل دمية مكسورة رزقت بمن يضم أجزاءها معًا، فعادت إليها الحياة، وصار بوسعها الآن أن تتكلم وتتحرك وترقص وتغني”.
ربما احتاجت شخصية هاني محفوظ إلى عالمها الخارجي المحيط وإلى حكاياته التي لم يحكها في الرواية عن ذلك العالم، كاحتياجها نفسه لأنيس يملئ وحدتها ويعيد إليها معنى الحياة، فبالرغم من هشاشة بيت العنكبوت إن العنكبوت لا يصير عنكبوتًا دونه.
_______
*المدن