النقد الروائي في أفق الإبداعية؟


*واسيني الأعرج


لن ندخل في موضوعة نقاش من الأسبق؟ الدجاجة أم البيضة؟ الرواية أم النقد؟ من يرفد الآخر من الناحية الأدبية والمعرفية؟ حديث أعتقد أنه غير مجدٍ أدبياً. لهذا حصرنا حديثنا في النقد الروائي فهو الأقرب إلى السجالية بالنسبة لموضوعة النقد الإبداعي.
النقد الروائي يظل حاسماً ومهماً بالنسبة لمختلف الأجناس الأدبية الأخرى، فهو الأكثر حضوراً في الواقع الثقافي. النقد يضع الرواية أمام وظائفها المختلفة، محدداً المسافة مع النظام المجتمعي، التي على الروائي اعتمادها حتى لا يتحول نصه إلى مجرد صدى للمجتمع. بينما تطرح الرواية في العمق موضوعة الحرية المطلقة في العملية التعبيرية الإبداعية. أي أنها تضع أدواتها التعبيرية في أفق المساءلة الدائمة في علاقتها بالحرية التي لا تقوم الرواية بدونها. حتى الاختراقات التي تمارسها في الاشكال المستقرة هي جزء مهم من هذه الحرية.
في النهاية لا تقبل الرواية بالثابت إلا في الخصوصيات العامة. بينما يطرح النقد إشكالية النظام والمرجع الذي يجب اتباعه بوصفهما من الثوابت إذ لا ينشأ في غياب النظرية الموجهة. وكلما خرج النص من دائرة الثابت أو النموذج المترسخ، أعاده إلى الدائرة التي اخترقها وثبته من جديد بحيث تبدو الخروقات التي مارسها النص الروائي شاذة وغير طبيعية، بل وغير مقبولة.
التاريخ النقدي والإبداعي بين دائماً أن الجهدي في العملية التجديدية جاء دائما متأخراً. إما رافضاً للتجربة التجديدية أو مناقشاً أو متفهماً للتجديد. فقد ووجهت مثلاً تجربة الرواية الجديدة التي قادها آلان روب غريبه وغيره، بنقد لاذع وغير مقبول واعتبر هذا الانزياح الروائي جهداً سلبياً مضراً بالممارسة الأدبية. لأنه بالمنظور النقدي، فقد هزّت الرواية الجديدة النظام الروائي كما عرفته التقاليد الأدبية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر. وبدا الخط الفاصل واضحاً بين نص يخرج من عقال النظام بسبب هاجس الحرية الابداعية، والنقد الذي تحول إلى أداة مراقبة للمساحات الحرة المتاحة أمام الرواية. فخسر إبداعيته. واعتبر هذا النوع من النقد، غير الابداعي، الذي لا يواكب المنجزات الروائية ويحاذيها بممارساته وجهوده أيضاً، رواية عوليس أو بوليسيسز، لجيمس جويس رواية خالية البنية بدل أن يتأمل الظاهرة.
النقد الإبداعي هو من تفهم هذه الاختراقات. فقد اقترب من هذا النص قارئاً ومتأملاً بلا يقينيات مسبقة، مصغياً لهذه الحالة المتميزة والخاصة. فحاول فهم تخطيها للتقاليد الروائية، إذ اعتبره جزءًا من العملية الابداعية في تحولاتها المستمرة. الرواية الجديدة، في ظل مقاطعتها ومحاربتها، احتاجت إلى دار نشر: دار «مينوي» او منتصف الليل éditions de minuit تتفهم هذه التجربة الروائية الجيدة وتؤصلها . واحتاجت أيضا إلى كوكبة من الممارسين لها والمقتنعين بها. وأيضا إلى مقروئية تتذوقها. فقد لعب النقد الإبداعي دوراً حاسماً في هذا السياق.
وليس غريباً أن تقول نتالي ساروت وآلان روب غرييه وغيرهما إن النقد التقليدي كان قاسياً ومكسراً لا للتجربة وحدها ولكن أيضا لهاجس الحرية الذي هو منتهى الحياة في النهاية والمحرك الأساسي للإبداعية. ما يحدث في النقد العربي التقليدي، هو شيء قريب من هذا. التثبت في حالة واحدة. والمرجعية الثابتة التي تحولت إلى رقيب أكثر منها إلى إبداع نقدي، نافياً لكل جهد متمايز. النص المحفوظي تابعته حركة نقدية تبنت جهده الروائي ورسخته. لكنها ظلت ضمن منطق الرواية الكلاسيكية الزولية (إميل زولا) أو البلزاكية. لكن النصوص المتمايزة للكاتب نفسه، أولاد حارتنا، مثلا، ظلت في الهامش ونشأت حولها نقاشات لاغية بسبب المضمون، وليست متسائلة عن آليات الكتابة الجديدة التي تبطنها النص. وغلبت الرؤية النقدية الدينية في جوهرها، التي تثبت الإبداع في مدارات تقع خارج فعل حرية الإبداع. في السياق نفسه، فضل النقد المهيمن روايتي «عائد إلى حيفا» و«رجال في الشمس»، لغسان كنفاني، على قيمتهما الأدبية، على حساب نص خرج من دائرة التقليد، ما تبقى لكم.
وتم تفضيل «ريح الجنوب» لابن هدوقة على «الجازية والدراويش» لعبد الحميد بن هدوقة التي بدت وكأنها حالة استثنائية خرجت عن التقليد وعن النظام الهدوقي. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن «كانت السماء زرقاء» لإسماعيل فهد اسماعيل التي بدت خارج نظام الكتابة المتداول.
ظلت مثل هذه النصوص يتيمة ومنفصلة عن السياق المهيمن. كثيراً ما غاب النقد الخلاق، أي الإبداعي، ولم تكن له القدرة على المتابعة والسجالية وتجديد أدوات القراءة، لأنه كثيراً ما يفاجأ بنصوص هو غير مهيأ لها ثقافياً ونقدياً لأنه مستكين في غالبية ممارساته في ما هو سائد وغالب في رؤيته للنص. يحتاج النقد العربي الجديد منه على الأقل، إلى توسيع أفقه الثقافي، وإلى تجديد إدواته، وسبله النقدية ورؤاه، ليس من خلال النصوص التقليدية، والمتفق عليها، ولكن من خلال النصوص الفارقة التي تدفع إلى التساؤل والتي كثيراً ما وضعت النقد في حالة كبيرة من الإحراج. نفهم اليوم جيدا لماذا طبق باختين جهده النقدي، في حواريته، على نصوص شخصية روائية استثنائية كانت مثار جدل، دويستوفكي.
ونفهم أيضا لماذا ذهب بارت نحو قصة قصيرة لبلزاك s/z سارازين وحولها إلى ممارسة نقدية تطبيقية مستخرجاً آلياتها النصية لدرجة ان العملية النقدية فاقت عدد صفحات القصة. اختار جيرار جنيت أيضاً في تطبيقاته الزمنية في كتابه النظري والنقدي شكل 3 figure III رواية في البحث عن الزمن الضائع لمارسيل بروست، لأنه نص روائي وضع النقد التقليدي من حيث السرد والبنيات الداخلية، في حالة ارتباك. أي أن الابداع ظل متقدما عن الحالة النقدية التي كان عليها، بدل الارتكان إلى النظري، الانتقال إلى الممارسة الإبداعية الخلاقة التي تضع الرواية المختارة، أفقاً نقدياً متجدداً. باستثناءات قليلة، فقد تخلف نقدنا العربي كثيراً عن الحركة الإبداعية وهذا يقتضي تأملاً حقيقياً من لدن النقاد. تكاد تكون الاجيال التي تلت أدب ما بعد الكولونيالية يتيمة وبدون نقاد.
وهي تدور اليوم في دائرة النقد التقليدي العاجز عن فهم أسئلتها ومساجلتها بدل رميها في دائرة الإهمال، كما يحدث عادة. هناك اشكاليات يواجهها النقد باختناق وحسرة. الروايات التي تكتب اليوم بالعامية؟ رواية الشخصية الواحدة؟ التماهي بين السيرة والسيرة الذاتية؟ الهوية؟ البنيات الحديثة التي تستقي تجارب أخرى؟ الإشكالية اللغوية وموقع الغنائية؟ وغيرها من الموضوعات التي تطرحها الرواية العربية الشبابية التي تحتاج إلى رتابة حقيقية بالمعنى الأدبي. رفضها لا يكلف شيئاً، وقبولها بلا أسئلة أيضاً، يضعنا ويضع النقد العربي أمام حيرة كبيرة. يحتاج النقد قبل أن يكون آليات متكررة، أن ينتقل الى فعل الابداع الذي يفهم النص كما يتبدى لا كما يريده، محاولاً فهم إشكالاته وخياراته واستراتيجياته الابداعية.
___
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *