دار الكاتب

(ثقافات)

دار الكاتب

عادل المعيزي

إلى القايد محجوب الكوكي

“إنْ كُنْتِ تُريدينَ وِصَالاً بالكُتّابِ، عَلَيْكِ بِدَارِ الكاتبْ”

قالتْ لي بنتٌ في العشرينَ، تَكَادُ تُضيءُ بِنَهْدَيْها ما قال لها

رَجُلٌ في الخَمْسينَ رأتْهُ يَقْرَأُ منْ ديواني الشعريِّ وكانتْ تبْحَثُ عنّي

في كلّ الأنْحَاءْ

دارُ الكَاتِبِ نادٍ أو حَانَةُ كُتّابٍ، في أقصى شارِعِ شارلْ ديغولْ

في طابِقِها الأوّلِ تَقْبَعُ، مِنْ مَبْنَى بِطَوابِقِهِ الأرْبَعَةِ..

وتُطِلُّ على مبْنَى الشرْطَةِ!

دارُ الكاتب، مَعْلَمُ تسعيناتِ القَرْنِ الماضي، كُنْتُ أحثُّ السيْرَ إليْها كلّ صباحٍ

مثل جميع المجذوبينَ وقَدْ غَرَقُوا في قَبَسٍ من نورٍ

فَأنَا لا شيْءَ لدَيَّ لأنْجِزَهُ إلاّ أنْ أنْتَظِرَ المَوعِدَ

كنْتُ أغُذُّ السَيْرَ إليْهَا كلَّ صَبَاحٍ، أدْخُلُها مِنْ سَاحَةِ “مُنْجي بالي”[1]بعدَ وقوفي

لتَحِيّةِ تِمْثَالٍ حَجَرِيٍّ أو لتحيّةِ رائدِ كَشَّافَتِنَا الوطنيةِ

أدْلُفُ مِنْ نهجٍ أشْهَرَ مِنْ رُوسْيَا وأمُرُّ على أبوابٍ صامِتَةٍ حتّى ألقاَني تحتَ بِنايَتِها

أصْعَدُ درجًا، أدْخُلُ منْ بَابٍ خَشَبِيٍّ، أحيَانًا مِنْ كَلِمَاتٍ خَشَبٍ:

– عِمْتَ صَبَاحًا عَمْ مُخْتارْ

– عِمْتَ صبَاحٍ يا وَلَدِي

أمضي داخلَ قاعَتِها الكُبْرى حتّى ألقاهُ أبا زَيّان السَّعْدِيْ يَتَرَشّفُ قَهوتَهُ

والسيجارةُ جزءٌ مِنْ شَفَتَيْهِ،

يُحَرِّكُها كيْ تَنسَابَ الكَلِمَاتُ مُدَخِّنَةً عُمْقَ المعنى حينَ يُحدّثني

عنْ أهلي لا أعرفُهمْ في أرياف القِرْوانْ أو يُرشِدُني عن أمّي من دار الحطّابِ

ويَسْألني عنْ أعمامي في هَضبَةِ بوجْهَلْ

وقُبَالَتَهُ جعْفَرُ ماجِدْ يغسلُ في ضحْكَتِهِ أدرانَ النحو العربيِّ

ويعيدُ إلى جْلاَصْيوس الأوّلِ إنجيلا لم يَكتبْهُ

وفي طاولَةٍ أخرى يَجْلِسُ يحيا يحيا داخلَ دُمية عُزلتهِ

ويفكّرُ في مَسْرَحَةِ الحُبِّ! وحينَ يجيءُ سميرُ العيّادي يتغيّرُ طقسُ الدّارِ….

وفي جِهَةٍ ما، آلَمَني صَوتُ رِضَا الجلاّلي بمزاجٍ لا يحتملُ التعليقَ ولا أسئلةً

تافهةً يَنْسُجُ أضواءَ سماءٍ بارِدَةٍ

ويَقولُ وداعًا لضياءٍ شَفّافٍ ويُحَاوِرُ مُنْزَعِجًا أشعارَ “مُحَمّدْ الْبَقلوطي”

وإذْ يَنْفَتِحُ البَابُ على هَبّةِ عِطْرٍ، تَدْخُلُ من بين الأبوَابِ امْرَأةٌ نَهْرٌ،

صَادِحَةٌ بأناشيدِ الإيناعِ الهائلَةِ،

أغمضُ عَيْنَيَّ لأبْصِرَها فَيَجيءُ ضَجِيجٌ مِنْ تَحْتِ المَبْنَى

أخرجُ نحو الشرفَةِ أرْمِي بَصَرِي في الشارعِ فأرى أولاد احْمِدْ يَتَغَلْغَلُ

مُخْتَرِقًا عيد الاستقلال وقدْ أنْهَكَهُ حُرّاسُ الحزبِ الحاكمِ

يَشْتَبِكُونَ مع المعنى الضائعِ في آخرِ قصّتِهِ الشعريّةِ

يدْمَغُهمْ بقصيدِ هِجَاءٍ في قائدهمْ

فيفرّونَ على عَجَلٍ خَوفًا مِنْ تُهَمٍ سَتُلاحِقُهُم

فَتُلاحِقُهُم ضحَكَاتُ الشاعرِ مُؤْمِنَةً بالكُفْرِ المَبْحُوحِ

وإذْ يَصْعَدُ دَرَجاتِ المَبْنَى، يَلِجُ الدَّارَ فَتَهتَزُّ

كنيرانِ الحُبِّ ويَطلبُ من نادلِها بيرّتَهُ الأولى مكتوبٌ فوق زجاجتها “هذي آخرُ

واحدةٍ في هذا اليومِ”! ومِنْ بَعْد يَظَلُّ يُنَادي النادِلَ أوْ يَتَرَجَّاهُ لِيَمْنَحَهُ واحدَةً أُخْرَى

لا شيءَ لَدَيَّ لأمنحهُ.

منْ رُكْنٍ آخرَ أسمَعُ خَشْخَشَةَ الضَّحَكَاتِ المبْحُوحَةِ عبْدُ الله ومالك ُ والقاسْمِيْ

أسماءٌ مُتَنَوّعَةُ اللَّونِ لجُثّتِهِ، أحيانا تَرْتجُّ الدارُ لفرطِ الضّحَكَاتِ وأحْيَانا تَرْتَجُّ

الدارُ لفَرطِ الصرَخاتِ وأحيانَا تبكي

إنْ أوغَلْتُ أنا في وصفِ معاناةِ الكُتّابِ

وحَدَّثَنِي الكَنْعَانيُّ المَغْدورُ وكانَ يَدُلُّ عَزِيمَتَنَا نَحْوَ الآفَاقِ

وفي طَاوِلَةٍ أخرى كانَ جَمِيلُ الجودي يُسْمِعُنا شعر الصحراء يُغَذّي فِينَا قَمَرًا

أبْيضَ مثل رذاذٍ يَمْضي ويجيءُ ويتركُ فَوقَ الأعشاب المُبْتَلّةِ ذكرى أزْمِنَةٍ مَرَّتْ

وإذا جاء حَميدُو خْريّفْ بِأَغَانيهِ وقَدْ ألّفَهَا لمُغَنّيَةٍ، تغتسِلُ الدّارُ

وفي غُرْفَتِها الخَلفِيّةِ يرسو “الميداني بنْ صالحْ” صُحبَةَ زُمْرَتِهِ ليُحَدِّثَهم

عَنْ آبَاءٍ لا نَعرِفُهم، إذْ كُنّا لُقَطاءَ…

***

في اللَّيْلِ تَضيقُ الحانةُ بالأصْوَاتِ وبالأنفاسِ وتَخْتَلِطُ الأقداحُ

وبعدَ زجاجاتٍ، لا أعرفُ! كَمْ أُخطئُ في العَدِّ؟ على طاولةٍ صُغْرَى

يتوسّدُ ابْراهيمُ النَّصْرَاوِيْ مِرْفَقَهُ وَيَنَام

وحينَ يَعودُ الغُرَبَاءُ إلى ظُلُماتِ مَآويهمْ

في طاولتي يَبْقَى النُّدْمانُ وقدْ فرَغوا مِنْ كُلِّ قَصائدهم

لكنْ لمْ تَبْقَ سِوى أغنيةٍ لا تخْلو من شَجَنٍ

فتهتزُّ الأصواتُ مُغَنّيَةً والرَّقْصُ يُبَعثِرُ آخِرَةَ الليلِ:

مَفتُونْ بْخَزرةْ عينيها بخزرةْ عينيها

والشَّفْرَه إلّي بيها تِسْحِرْ بيها تسحرْ

ماحْلى الورْدْ على خُدّيها يا وْخَيَّانِي

تيرا را

ماحْلى الوردْ على خُدّيها يا وْخيّاني

يا وْخَيَّانِي

يا وخيّاني

رَبِّي يُسْتِرْ

يا ستّارْ يا جبَّارْ

***

في دارِ الكاتِبِ

كانَ لهيبٌ تحتَ رمادٍ لمْ يَنْتَبِه الروَّادُ إليه

فقد كانَ يُعاني مُنْفَرِدًا إذْ كان العُشَّاقُ بِشِعْرِ الحُرِّيَّةِ يَهذُونَ

وكان المُخبرُ خلف الساقي خلفهما حُزْنٌ يتمشّى بين الأوراقِ

والندمانُ وقَدْ سَكَرُوا بِالحُبِّ وبالحُلمِ

وبالإلهامِ وما تَعِبُوا مِنْ أشواقِي

***

واليوم وقدْ ضاعتْ أشياءٌ مِنّي

وتبدّلت الأيّامُ، وبُدّلت الدارُ بغير الدارِ

وصارتْ في نهجِ القاهرَةِ الآثارُ

أسيرُ إليها في شَوْقٍ حَتَّى أدْرِكَ عنوانًا دَلَّ عليه الأدباءُ

فألقَى بَابًا مُنْغَلِقًا وعَلَى زِرٍّ أضغطُ ناقوسًا

يَأتي مْنْ دَاخِلِ مَبْنَى، كَنَقِيضِ المعنى، صوتُ مُنَظِّفَةٍ:

– مَنْ أنتَ؟

– أهَذي دارُ الكاتبِ؟

– لا! كانت هذي دار الكاتب حتّى صارتْ بارًا

– لا مانعَ، أرْغَبُ أن أجلسَ في البارِ

– لا يُفتحُ في هذي الساعةِ، عُدْ بعد العَصْرِ تَمَامًا

…. …. ….

…. …. ….

بعدَ صلاة العصرِ وبعدَ و”إنّ الإنسانَ لفي خُسرٍ”

دارُ الكاتِبِ تغدو حانةَ رُوَّادٍ جُدُدٍ لا أعرفُها

وبها صُورٌ لمناظرَ لمْ نُبْصِرْها في دارتنا الأولى

“مَحْمُودْ درويشْ” و”مظفّرْ نوّابْ” أو “مَحمود المسعْديْ”

نينا نادلةٌ تُشْبِهُهَا لُوسِي في “حان المايسْ” في بروكسلْ -كنت كتبتُ قصيدا يشبهها-

لا شَكَّ سَتَنْقُلُها الأيَّامُ سريعا نحو الحانات الأخرى

هذا ما قال لها جسدي

أشربُ في كأسٍ جعّةَ ماءٍ لا تُشبهُ ما كنتُ شربتُ قديما في داري الأولى

وأغادِرُها في حُزْنٍ لأَرَى نُدْمَاني إذْ صاروا أشْبَاحًا يَبْتَعِدُونَ

أمْضي في الشّارِعِ أبْعَدَ مِنْ غُربَتِه وقَد اكتَهَلتْ روحي

في نهج القاهرةِ الشمسُ تَذُوبُ على الخطواتِ

وهذي الخطواتُ تؤوبُ إلى الذكرى

وأنا تأخُذُني الأحْلامُ

إلى الأوْهَامِ

إلى أعماقٍ أُخْرَى

—————————–

[1] منجي بالي (1925-1948) سُمي قائدا عامّا سنة 1946 ووحّد الكشافة التونسية في جويلية 1947 تحت اسم الكشّافة الاسلاميّة التونسيّة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *