* مارغريت أتوود
*ترجمة عبد السلام إبراهيم *
الاثنين
في وقتٍ متأخرٍ من هذا المساء انتقلتْ من السكن القديم الى سكن جديد. أُنجز الانتقال بالحد الأدنى من الصعوبة؛ تمكنتْ من وضع كل شيء في حقيبتين وكان بمقدورها أن تحملهما بنفسها بقدر مسافة ثلاثة شوارع تفصل السكن القديم عن الجديد. فقط كانت مضطرة أن تتوقف لتأخذ قسطاً من الراحة مرتين، فلديها قوة تناسب عمرها تماماً. اقترب منها رجلٌ وسيم الى حد ما وعرض عليها المساعدة، لكنني حذرتها ألا تقبل مساعدة من الغرباء.
أظن أن المرأة الألمانية كانت مغتبطة لرؤيتها وهي ترحل، فقد كانت تنظر إليها دائماً بقدر معين من الريبة. وقفتْ على الرواق الخشبي بشبشبها ترقب وهي عاقدة ذراعيها، مرتدية سترة رمادية اللون، حول كرشها الثمين، ترتفع القطعة التحتية بمقدار بوصة أسفل فستان المنزل النمطي الذي دائما ترتديه. أنا، بالأصالة عن نفسي، كم كنت أكره دائماً تلك المرأة الألمانية. سئمتُ من رؤية تلك الأشياء بعينها، في الغرفة، والتي أخذتها معها (بالرغم من أنها تجشمت عناء وضعها في نفس المكان الصحيح تقريباً، لم تكن موسوسة تماما من قبل)، مؤخراً بدأت أرتاب من أنها تطالع البريد : كانت المظاريف تحمل أختاماً زيتية وقد كان الجو بارداً جدا على رجال البريد للخروج بدون ارتداء قفازات. السكن الجديد له مالك بدلاً من مالِكه؛ أظن أنني بشكل عام أوليتهما الأفضلية.
حينما وصلتْ الى السكن الجديد أخذتْ المفاتيح من الرجل المسن الذي يعيش في الغرفة الأمامية بالدور الأرضي. فَتح الباب حينما سمع الجرس، كان المالك خارج المنزل، لكنه أخبره بأنه يتوقع قدومها. هو رجلٌ لطيف ذو شعر أشيب ترتسم على وجهه ابتسامه خيّره. حملتْ الحقيبتين، مرة واحدة، فوق السلم الضيق للطابق الثاني. أمضتْ ما تبقى من اليوم في ترتيب الغرفة. هذه الغرفة أصغر من الغرفة القديمة، لكنها على الأقل نظيفة. وضعتْ الملابس في الدولاب ووضعتْ بعضاً منها في الخزانة. لا يوجد أرفف لذا سيكون لزاماً عليها أن تضع قِدر الحساء والفنجان والطبق وآنية المائدة الفضية وإناء القهوة في أحد أدراج الخزانة. ولأنه توجد منضدة صغيرة، قررتُ أن يوضع عليها إبريق الشاي ليكون متاحاً حتى بين الوجبات، تضفي طابعاً زخرفياً.
فرشتْ السرير بالملاءات والبطانيات التي وفَّرها صاحب العقار. الغرفة مكشوفة وتقع في الناحية الشمالية وسوف تكون قارسة البرودة. لحسن الحظ توجد في الغرفة مدفأة كهربائية. كانت تميل دائما للدفء بشكل ثانوي، بالرغم من أنني، أنا، لم أكن واعية لمسألة درجة الحرارة. وجاء التعويض؛ إذ كانت الغرفة ملاصقة للحمام مما يسهل دخولها.
ستوضع المفكرة على المنضدة بجوار إبريق الشاي.
غدا لابد أن تخرج لشراء بعض مواد البقالة أما عن الآن فسوف تخلد الى النوم.
الثلاثاء
في هذا الصباح كانت ممددة على السرير تحاول العودة الى النوم. كنتُ أنظر الى الساعة مؤيدة كلامها بأن المرتبة كانت حقاً نحيلة وصلبة تماماً وأكثر صلابة من مرتبة السكن القديم. كانت الساعة تقترب من التاسعة وأوعزت لها أن تمد يدها وتقفل المنبة قبل أن ينطلق الجرس.
شخصٌ ما جاء الى السلالم الأمامية بخطوة بطيئة عرجاء ودخل الحمام وأغلق الباب وأحكم إقفاله. اكتشفتُ أن الجدران ليست سميكة ويمكنها أن تسرب الضوضاء. كانت توشك أن تتقلب في الفراش وتخلد الى النوم مرة أخرى حينما بدأ الشخص الموجود في الحمام في السعال بعنف. ثم سُمع صوت تنقية حنجرة وبصق ثم بدأ الماء يتدفق في المرحاض. أنا على يقين أنني أعرف من يكون؛ من المؤكد أنه الرجل المسن الذي يعيش في الطابق السفلي. من المؤكد أن الرجل المسكين مصابٌ بالبرد. ظل في الحمام لنصف ساعة بالضبط، وبرغم أنها تُعتبر مدة طويلة الى حد ما الا أنه تمكن من إصدار موجات من الضجيج المنفر. أدركتُ أن الغرفة المجاورة للحمام لها مساوئ وقد حان الوقت لإدراك حقيقة كم كان المالك مرحباً بأن يؤجرها بقيمة زهيدة جدا.
أقنعتها أخيرا بأن تنهض وتوصد النافذة (كنت دائما على يقين بأن الهواء المنعش ضروري لحياة المرء، برغم أنها ليست أسيرة له) وتوقد المدفأة الكهربائية. بدأتْ تعود الى الفراش لكنني أوعزتُ لها بأن ترتدي ملابسها : عليها أن تخرج للتسوق فلا يوجد ما يؤكل. دخلتْ الحمام قبل أن يدخل غيرها، لأنه كانت هناك خطوات تقترب. ظننتُ أن من الممكن أن يكون الحمام نظيفاً لأنها اغتسلتْ هذا الصباح في الحوض. على أي حال يوجد ماء ساخن وفير.
عادت الى الغرفة وارتدت معطفها وحذاءها المطاطي. أوعزتُ لها بأنها من الأفضل أن تضع وشاحاً أيضاً لأنني انتبهتُ لوجود صقيع متجمد على نافذة العواصف. أخذتْ محفظتها وخرجت من الغرفة وأغلقت الباب خلفها. كان باب الحمام مغلقاً حينما مرت به، الضوء ينفذ من خلال نافذته العليا. حينما وصلتْ الى قاعدة السلالم كان الرجل المسن موجوداً في الردهة يفحص البريد فوق المنضدة الصغيرة الداكنة الموجودة بالقرب من الباب الأمامي. كان يرتدي روب الحمام، تنزلق من أسفله بيجاما مقلّمة ثم كاحليه النحيفين وشبشبه الجلدي الكستنائي الخاص بغرفة النوم. ارتسمت على وجهه ابتسامة جميلة وقال صباح الخير. أوعزتُ لها بأن تومئ وتبتسم له.
أغلقتْ الباب الأمامي خلفها وأخرجت القفاز من جيبها وارتدته. شقّت طريقها على درجات الرواق بحذر لأنها كانت مغطاة بالجليد. لاحظتُ أن صعود الدرجات أقل خطورة كثيراً عليها من النزول منها.
ترجلتْ مباشرة في الشارع نحو المكان على بعد قليل من المباني حيث إنني أعرفُ أن هناك متجراً. بابتهاج نظرتُ الى المنازل الموجودة في الشارع وهي تمر من أمامها، أربت عليهم، أُعيد ترتيبهم، منازل مبنية بالطوب الأحمر، منازل مزدوجة في المقام الأول، كالمنزل الموجودة فيه تلك الغرفة، فيها رواقان خشبيان مزدوجان. المنازل القريبة من السكن الأول كانت أكبر. كنتُ أسكن في هذا الشارع من قبل، بالطبع (لم يكن بعيداً من السكن الأول)، لكن الآن وللمرة الأولى يمكنني أن أعتبر هذا الشارع بأنه ملكي، كجزء من المقاطعة الجديدة التي أستطيع من خلالها أن أرسم دروباً ومسالك مألوفة خاصة بي. تلك الأشجار كانت ملكي. الطريق الجانبي هذا كان ملكي. حينما ذاب الجليد وازدهرت الأشجار، ربما تكون الأرض الرطبة، وأوراق الأشجار اليانعة وماء الربيع يجري في الجداول، ملكي.
انعطفتْ في شارع رئيسي حيث تتحرك فيه السيارات، ثم مسافة شارع، واستدارتْ مسافة شارعين حتى وصلتْ الى المتجر. كان هناك متجر آخر أقرب من السكن القديم. لم أدخل هذا المتجر بالذات من قبل، دلفتْ من خلال الأبواب الزجاجية للباب الدوَّار، ثم ترددتْ؛ لم تكن تعرف ما اذا كانت تأخذ عربة يد أم سلة سلكية. أحسّتْ أن عربات اليد أسهل، فالسلال السلكية ثقيلة على الحمل؛ لكنني أوعزت لها بأنها لن تشتري الكثير من الأشياء وعربات اليد ستسد الممر وتعطل الحركة لذا استقرتْ على أخذ سلة.
كنتُ دائما أرقب كم من النقود تنفق. ستود أن تشتري شريحة لحم وعيش الغراب، وبالطبع زيتون وفطائر وشرائح من لحم خنزير مشوي. من الصعب أن تخرق عاداتها القديمة. لكنني أصر أنها اختارت الأشياء الرخيصة والمغذيّة. إنه، على أي حال، منتصف الشهر وشيك الحكومة لن يصل قبل فترة. بعد أن دُفع الإيجار لم يتبق مبلغ كبير للأشياء الأخرى. لا بد أن أتذكر بأن آخذها لعمل تغيير في بطاقة العنوان. هي تكره النقانق لكنني أقنعتها بأن تشتري نصف دستة، لأنها تحتوي على بروتين توفيراً للنقود. أخذتْ خبزاً وزبدة (وضعتُ خطاً فوق السمن الصناعي) وربع جالون لبن وبعض مكعبات الحساء الفورية فهي مفيدة في يومٍ بارد وبعض الشاي والبيض والعديد من المعلبات الصغيرة من الفاصوليا المطهية. أرادت بعض من الآيس كريم لكنني أخبرتها بأن تأخذ رزمة من البازيلا المجمدة.
كانت فتاة الخزينة وقحة معها لأن بعض الأشياء اختلطت، ببساطة، مع أشياء المرأة التي تسبقها. أيضا أشكُ في أنها كانت من الممكن ألا تدفع المبلغ كاملاً لو كانت تجرؤ على ذلك. وجال بخاطري لو كان الأمر يستحق أن نمشي المسافة الإضافية الى المتجر القديم؟
حملتْ المشتريات في طريق العودة بسهولة فوضعت اللبن والبيض والبسلة المجمدة في الثلاجة الموجودة على الأرضية في الرواق. تنبعث من الثلاجة رائحة غريبة. ربما يجب إخبار المالك حتى ينظفها. ثم صعدتْ الى الدور العلوي وأحضرتْ ماءً من الحمام وأعدت لنفسها فنجاناً من القهوة فوق الموقد ذي المسطح الأحادي (جاءت القهوة في الحقيبة مع السكر والملح والفلفل) وتناولتْ بعض الخبز والزبدة. بينما كانت تأكل دخل شخصٌ ما الحمام، لم يكن الرجل المسن تلك المرة، بل امرأة. من المؤكد أنها تتحدث الى نفسها؛ على أي حال أنا ميَّزت صوتين، أحدهما عالٍ ومتذمر، والآخر همس كثير الإلحاح : أكثر غرابة. الجدران رفيعة لكنني لم أستطع سماع ما كانت تقوله تماما.
حينما تلاشى صوت الأقدام أخذتْ الفنجان والملعقة الى الحمام وقامت بغسلهما في الحوض. ثم تمددتْ وأخذت غفوة. شعرتُ بأنها تستحقها بعد كل المشي الذي قامت به. كان وقت العشاء حينما استيقظتْ. قامت بفتح إحدى علب الفاصوليا. حينما يصل الشيك يجب أن تشتري فتَّاحة علب.
بعد أن انتهي من ذلك سوف أقرأ قليلا في الانجيل (الإضاءة في تلك الغرفة أفضل مما كنت أتوقع) ثم سأخلد الى النوم. ملحوظة : غدا يجب أن تأخذ حماماً.
الأربعاء
يبدو أن هذا متكرر الحدوث بشكل يومي. في التاسعة صباحا بالضبط استيقظتُ على صوت عرج الرجل المسن داخل الحمام. يسعل سعالاً ممزقاً. يبدو كما لو كان يتقيأ. ربما يكون ممكناً لها أن تغير وضع السرير حتى يكون رأسها بعيداً عن الجدار. لكنني حينما آخذ بعين الاعتبار مساحة وشكل الغرفة أستطيع أن أقر بأنه يوجد له مكان واحد فقط. حقيقي إنه لأمر مزعج. بطريقة ما حينما تسعل هي بنفسها يختلف تماما عن سماعها لشخصٍ ما آخر يسعل. لو أنه استمر في السعال بتلك الطريقة فسوف يتشجأ كل شيء بداخله بشكل عاجل. افترض أنني يجب أن أشعرُ بالأسى.
مرة أخرى ظل في الحمام هذا الصباح لمدة نصف ساعة.
في وقت متأخر حينما نهضتْ وارتدتْ ملابسها هبطت للدور السفلي لتحضر اللبن من الثلاجة. الرجل المسن رتّب الخطابات على منضدة الردهة : خطابٌ واحد في كل زاوية من المنضدة وخطاب واحد في المنتصف. لابد أن أتذكر بأن آخذها لكي تملأ استمارة تغيير بطاقة العنوان.
مرات عديدة أثناء الصباح دخلت المرأة ذات الصوتين الحمام. يبدو أنها كانت تفرغ دِلاء أو قدور ماء في الحوض. مرة أخرى بإمكاني سماع الصوت العالي والهمس الفظ. أن يتحدث المرء لنفسه عادة سيئة. حينما دخلتْ لتغسل الفنجان والطبق بعد الغذاء عثرتْ على قشرة بطاطس محشورة في البالوعة.
في وقت متأخر بعد العصر نصحتها بأنها يجب أن تأخذ حماماً. ربما ترغب لو أنها تجنبته لأن الحمام يميل الى البرودة، لكنني قلت لها مرارا وتكرارا إن النظافة والصحة الجيدة ضروريان معا. أغلقتْ الباب وقمتُ بوضع ركبتها بجانب البانيو حتى أستطيع أن أفحصه تماما. وجدتُ خصلات شعر صغيرة وضمادة حول البالوعة.
في السكن القديم كان هناك شخصٌ واحد فقط يستخدم نفس الحمام، فتاة عاملة اعتادت أن تغسل جواربها وتتركها معلقة فوق حمَّالة المنشفة. هناك شيءٌ منفر فيما يخص مشاركة الحمام مع بشرٍ آخرين. كانت تشعر دائماً أن مقعد المرحاض أكثر دفئاً مما يجب أن يكون عليه، ويجب أن أقول أنني أجد حتى فكرة أن يغسل المرء أسنانه في نفس الحوض الذي يستخدمه الغرباء أجمع كريهه. أخبرتها أن يوماً ما قريباً سيكون لديها حمامٌ خاص بها مرة أخرى لكنني أظن أنها لم تصدقني. لا بد أن أجعلها تحضر زجاجة مُطهِّر جديدة؛ فالزجاجة الموجودة فارغة تقريبا.
كان الماء ساخناً فأخذتْ حماما ممتعاً، بالرغم من أنه لم يكن على مهل كما يجب أن يكون. كانت هناك خطوات قلقة تخطو خارج الباب عدة مرات. بالتأكيد بإمكاني أن أساعد لو أن المالك يبني حماماً آخر؛ ربما كانت هناك مساحة لحمامٍ في البدروم.
بالطبع جعلتها تنظف البلَّاعة تماماً بعد ان استخدمتها. وفَّر المالك قطعة اسفنج لهذا الغرض وصفيحة للتنظيف، والذي يدل على أنه، على الأقل، لديه فِكر سليم. اليوم غسلتْ الملابس التحتية وعلّقتها فوق المدفأه حتى تجف.
الخميس
في هذا الصباح هطلت الأمطار، رأيتُ ذلك من خلال النافذة، فأذابت الجليد في الفناء الخلفي تماماً. إذا استمر الدفء سيكون لزاماً عليها أن تبدأ في الاحتفاظ بالزبدة في الثلاجة بعيدا عن الخزانة حتى تكون البرودة كافية لها تماما.
أصبح الرجل المسن لا يُطاق. بدأتُ أستشعر بعدائية معينة تخص أنشطته في الحمام. أشعر بأنه لا يرغب في وجودها في المنزل : هو يحاول أن يدفعها على الرحيل. هذه المرة غرغر فأحدث صوتاً بغيضاً جدا. لا بد أنه يائس؛ يجب أن يفهم بأنني لن أحتمل ذلك طويلا. هي تحتاج للنوم ويجب أن تنعم بالسلام. أنا على يقين أنه من الممكن أن يقوم بهذا الشيء في غرفته الخاصة، بعيدا عن مرمى السمع.
أوعزتُ لها بأن تترك رسالة للمالك بشأن رائحة الثلاجة، لكن عند وقت العشاء، بالرغم من أن الرسالة قد اختفت من فوق المنضدة الا أن الثلاجة لم تُنظف بعد. بعض الناس يصعِّبون الأمور تماما.
المرأة ذات الصوتين تستمر في نشاطها. اليوم أخذت حماماً. بدأت أظن أنها امرأتان. كان هناك إهدار كثيف للماء في الحوض، لكنني أستطيع تمييز نوع الخطوات الداخلة والخارجة منه. صوت الهمس كان أكثر عنفاً، بشكل هستيري على الأغلب. الصوت الآخر ظل بلا ملامح.
مخزون الطعام بدأ يقل. اليوم نفذت الفاصوليا المجمدة واللبن. قريبا ستضطر أن تذهب الى المتجر مرة أخرى، لكن يحدوني الأمل أن يكون يوم لا ينزل فيه المطر. الأحذية المطاطية ليست متينة، وأتفق معها أن الاقدام المبتلة بشعة كما أنها ضارة بالصحة.
الجمعة
مرتْ بجوار الرجل المسن على السلم اليوم. بعد طقوس التاسعة، والتي كانت أكثر سذاجة عن المعتاد هذا الصباح، كانت لديه الوقاحة ليبتسم، كما لو لم يكن مدركاً أنني أعيش بجوار الحمام (برغم أنه من المؤكد أنه سمع وقع خطاها في الردهة). هناك غرضٌ خبيث وراء براءة ابتسامته. أخبرتها بألا ترد ابتسامته بابتسامة : قطبتْ جبينها وأغلقت فمها بشدة. لا يجب أن يُحث على التفكير بأن بإمكانه الاستمرار في أن يفعل ما يريد دون محاسبة.
اليوم عثرتُ على قطعة مكرونة مطهية ملتصقة في البلاعة. هذا من فِعل المرأة ذات الصوتين. ربما هي أجنبية. مهما كانت، فهي امرأة ليست نظيفة.
السبت
اليوم ذهبتْ الى المتجر مرة أخرى قبل الغذاء. ظننتُ أنها ستخرج بدون وشاح لأن الشمس كانت مشرقة. كانت الشوارع خالية من الثلوج لكن ستكون هناك بلا شك عاصفة أخرى قبل الربيع. بينما كانت تسير في طريقها كنت أفكر في أمر الرجل المسن. بوضوح يجب أن يكون هناك إجراء يُتخذ بشكل عاجل. لا يمكن أن أنقل رسالة للمالك مفادها : إنه غير جدير بالثقة بشكل واضح. الثلاجة لم يتم تنظيفها بعد. لو أنها بدأت في وضع الزبدة في الثلاجة أعرف أنها سوف تلتقط الرائحة، ربما تكون حافة النافذة باردة بشكل ٍكاف.
اشترتْ المزيد من اللبن ورزمة أخرى من النقانق وعلبة تونة من أجل التنوع (بالرغم من أن الأخيرة كانت غالية تماما). اشترتْ ربع رطل جبنة ورزمة أرز بني. يجب أن ينظم المرء احتياجاته من البروتين. حينما يصل الشيك سيكون بمقدروها شراء بعض البرتقال. تلك المرة خرجت من خلال خزينة مختلفة ولم تحدث متاعب.
ظننتُ أنه لن يكون مفيداً التحدث معه شخصياً. فقط يمكنه أن يقبل إهانة، أو يتظاهر بأنه لم يكن يعرف أنها ستستيقظ، أو أن لا أحداً لديه الحق ليسأله ماذا كان يفعل في الحمام. سيكون مراوغاً في إجابته وسوف يستمر في التصرف بنفس الطريقة كل صباح. ظللتُ أفكر طوال الوقت أنه دائما حريص على الشكليات. تُرى ماذا يمكن أن يحدث لو أنه من النوع الذي يجب التصدي له؟ يبدو أن كل شخص آخر في السكن يراعي النصف ساعة بين التاسعة والتاسعة والنصف على أنها مِلكه، على الأقل لا أحد يدخل الحمام قبل التاسعة من قبل. بالتأكيد ستجعله يعرف أنني أعرف وسيكون من العسير عليه أن يستمر. لن يُسمح له بأن يطردها.
حينما كانت تصعد درجات السلم ظننتُ أنني رأيته ينظر من خلف ستارة البندقية في النافذة الأمامية. هل هو يحاول أن يقتفي أثر خطواتها؟
بعد ظهر اليوم حسمتُ مسألة أنني كان يجب أن أعرف شيئاً عن المرأة ذات الصوتيَّن. دخلتْ الحمام في العصر وكان هناك جَلَبة رش ماء عالٍ. أجهدتُ نفسي، مُحاوِلة أن أفصل ما بين الصوتين لكن يبدو أنهما متداخلان. أخبرتها أنها كان يجب أن تنتظر خلف الباب وتفتحه سريعا بمجرد أن سمعتْ المفتاح يفتح قفل باب الحمام. تمكنتْ من أن تضبط الوقت بشكل صحيح. كنتُ قادرة على مواجهة المرأة أثناء خروجها. أقرُ الآن أن هناك امرأتين. إحداهما تلك التي تهمس هي امرأة عجوز نحيلة جدا، لديها عينان صغيرتان معتمتان كأنهما ثقبان في رأسها. كانت ملفوفة في بطانية وتحملها المرأة الأخرى، ساقاها وقدماها العاريتان الملتويتان متدليتان من البطانية. حينما رأتني أومأتْ وتجهمت. المرأة الأخرى ضخمة ومفتولة العضلات، لها وجه مستدير أبله. وقفتْ عند مدخل الباب وحدقتْ حتى قالت المرأة العجوز شيئاً لها في همسٍ حاد ووخزتها بيد مرتعشة. ثم استدارتْ وحملتْ المرأة العجوز الى الردهة السفلية، تتهادي بأقدامها المتثاقلة، تعيد نحيباً عالياً ليس به كلمات على الإطلاق. يظهر رأس المرأة العجوز من فوق كتفها مقطبة الجبين حتى اختفيتا عند ركن الردهة.
أخبرتها بأن تغلق الباب. كانت مرتبكة لذا جعلتها تتمدد لتأخذ قسطاً قصيرا من الراحة. لن أسمح لها بأن تعيش هكذا.
بعد العشاء خطر ببالي الرجل المسن مرة أخرى. أوعزتُ لها بأن تستيقظ متأخراً عما اعتادت عليه حتى أتمكن من سماع صوت ساعة الكنيسة التي ترن على مدار الساعة. ضبطتُ المنبة في وقت محدد.
الأحد
انطفأ المنبة في التاسعة الا الثلث. سمحتُ بخمس الى عشر دقائق المعتادة التي تستغرقها لتحثها على النهوض من الفراش. ارتدتْ الروب والشبشب اللذين وضعتهما لها فوق الكرسي في الليلة الماضية وأوصدتْ النافذة وجمعتْ الأشياء معاً : الصابونة وفرشاة الأسنان وفوطة الحمام وفرشاة الأظافر، ومفكرة وزجاجة معقِّم ومفتاح الغرفة والمنبة. في الساعة التاسعة الا عشر دقائق خرجتْ من الغرفة ثم أوصدتْ الباب ودخلتْ الحمام وأدارتْ المفتاح في القفل بحذر. نظَّفت البانيو وطهَّرته وفتحت الماء حتى امتلأ الحوض تماماً. جال في خاطري كم كان ممتعاً أن يحجب صوت الماء المندفع كل الضوضاء الصادرة عن بقية السكان. إنه لبذخٌ حقيقي أن تُحدث ضوضاء يضطر البشر في الخارج لسماعها بينما لا تكون قادراً أن تسمع أيَّا مما قد يُحدثونه في المقابل. جال في خاطري أن هذا الحمام ملكي الآن. إنه أرضي؛ بإمكاني أن أدخله وأخرج منه متى شئت. إنه المكان الوحيد الذي أكون فيه بأمان.
وضعتْ المنبة والمفكرة على الأرض واستلقتْ في الماء الدافئ. أخبرتها بألا تنزعج.
في التاسعة تماماً سمعتُ خطواته العرجاء تأتي من الردهة؛ ابتسمتْ. توقفت الخطوات خارج الباب. جرجر خطواته بتردد، ثم بدأ يخطو ذهاباً وإياباً. دقت ساعة المنبة. أخبرتها بأن تُحدث ضوضاء رش ماء. في الساعة التاسعة وعشرين دقيقة بدأت الخطوات ترتج في الخارج بنفاذ صبر. ثم طرق على الباب. أخبرتها بألا تقول شيئاً؛ وضعتْ يدها على فمها لئلا تنفجر في الضحك.
ازداد الطرق وتحوَّل الى قرعٍ عنيفٍ متتالٍ. كان يقرع الباب بكلتا راحتيه. «اسمحي لي بالدخول» صاح محتجاً. كان صوته هائجاً. تصورتُ ساقيه النحيلتين وهو يرتدي البيجاما المقلمة وروب الحمام والشبشب الكستنائي.
في التاسعة والنصف توقف القرع العنيف. أصدر ضوضاء اختناق، صوتُ غضبٍ ويأسٍ عيبيّ عاجز عن التعبير، ثم هبطت الخطوات العرجاء نحو الردهة. متعجلاً لدرجة الركض. ابتسمتْ وبخَّتْ بعضاً من الماء فوق بطنها. احتفظتْ بتماسكها على نحوٍ لافت للنظر.
الخطوات هبطت درجتين أو ثلاث، ثم صوت تهشم وطرق عنيف وأنين ألم ما لبث أن تلاشى وساد الصمت. كان بإمكاني سماع صوت أبواب تُفتح.
تحركتْ كي تخرج من البانيو لكنني أخبرتها بأن تبقى في مكانها. تمددتْ في البانيو تحدق في أصابع رجليها الوردية الطافية على سطح الماء، بينما كنت أتسمع. أعرف أن باب الحمام موصد بشكل آمن.
في الوقت الحاضر أحرزتُ النصر.
الهامش:
1 – مارجريت إلينور أتوود (1939-) كاتبة كندية وشاعرة وناقدة وناشطة في المجال البيئي. حصلت على العديد من الجوائز أهمها جائزة البوكر مرتين؛ الأولى عام 2000، وهذا العام 2019 عن رواية «الوصايا» التي جاءت متممة لروايتها «قصة الخادمة» التي تحولت لمسلسل شهير مناصفة مع البريطانية برناردين إيفاريستو التي فازت عن رواية «فتاة، امرأة، وآخرون». كما حصلت أتوود على جائزة مجلة «لوس أنجلوس تايمز» تعتبر مارجريت أتوود من أهم كتاب الرواية والقصة القصيرة في العصر الحديث. حصلت على جائزة آرثر سي كلارك في الأدب في كندا. وكما كانت روائية معروفة فقد كانت شاعرة متميزة فقد كتبت أكثر من خمس عشرة مجموعة شعرية.
وصفتها صحيفة الايكونومست بأنها كاتبة ومبدعة وخبيرة في النقد الأدبي. ساهمت أتوود في التأصيل النظري لقضية الهوية أو الشخصية الكندية. لأتوود كتاب بعنوان «مفاوضات مع الموتي» تأملات كاتب حول الكتابة.
من أهم رواياتها «امرأة صالحة» 1969، «يطفو فوق السطح»، «امرأة حكيمة» 1976، «الحياة قبل ظهور الانسان» 1979، «أذى جسديّ» 1981، «عين القطة» 1988، «عام الفيضان» 2009، «الوصايا» 2019.
المجموعات القصصية «فتيات راقصات» 1977، «جريمة قتل في الظلام» 1982، «عظام جيدة» 1992، «الخيمة» 2006، «فوضى أخلاقية» 2006، «وسادة حجرية» 2014. ومن مجموعاتها الشعرية «الحيوانات في هذا البلد» 1968، «صحف سوزانا مودي» 1970، «سياسة القوى» 1971، «قصص حقيقية» 1981، «قصائد الثعبان» 1983.
-
عن مجلة نزوى